ديسمبر 26, 2024
vector-iraqi-flag-vector-clip-art-ai-eps

اسم الكاتب : عقيل عباس

تُعد “الهوية” من بين أكثر المصطلحات استخداماً في العراق، إذ يُتداول المصطلح على نحو دائم تقريباً في الحيز العام، خصوصاً على ألسنة ساسة البلاد والكثير من المحللين.

عادةً ما يشير هؤلاء في تصريحاتهم وتحليلاتهم إلى أنواع مختلفة من الهوية كالهوية الرئيسية (غالباً في إشارة إلى الهوية الوطنية العراقية) والهوية الفرعية (المقصود بها عموماً الهوية المذهبية أو الدينية) فضلاً عن الحديث عن الهوية المناطقية والعرقية، عربية كانت أو كردية أو تركمانية الخ. يفترض هؤلاء المتحدثون أن المرء ينطوي على هويات متعددة في داخله وأنه يستطيع أن ينتقي منه هذه الهويات ليبرزها أو يقدمها على حساب الهويات الأخرى حسب الحاجة والمناسبة.

هذا الفهم مغلوط على نحو عميق وغالبا ما يُستخدم سياسيا لتبرير مواقف متناقضة وانتهازية، إذ يمكن للمرء مثلاً، بحسب هذا الفهم الإشكالي للهوية، أن يقدم حسه بالانتماء المذهبي على حس الانتماء العراقي وبالتالي التصرف على نحو طائفي تمييزي فاضح في سياقات معينة ثم يعود، بحسب الحاجة والمناسبة أيضاً، ليقدم حس الوطنية العراقية في سياقات أخرى. عندما يقوم منشد ديني بإلقاء قصيدة في البرلمان العراقي – وسط مشاركة واحتفاء بعض الحاضرين – يتوعد فيها العراقيين من غير الشيعة بالذهاب إلى جهنم لمجرد أنهم ليسوا شيعة ثم يُدافع عن هذا السلوك بوصفه جزءاً طبيعياً من حرية الاعتقاد المكفولة دستورياً، فإن الذي يجري هنا هو إبراز الهوية الطائفية كتعبير قانوني ومشروع في سياق الاحتفاء بولادة المهدي المنتظر – مناسبة القاء هذه القصيدة – في مكان رسمي يُفترض أنه يمثل التعبير المؤسساتي الأهم للهوية الوطنية للعراقيين كشعب القائمة على المساواة بينهم كمواطنين واتحادهم في مصالح مشتركة.

المحاصصة الطائفية والعرقية هي المظهر التمييزي الأبرز والأشد وضوحاً وضرراً الذي يعبر عن هذا التوظيف المتناقض والانتهازي لمعنى الهوية، إذ يحصل عراقيون على مناصب معينة في الدولة على أساس انتماءاتهم الدينية والعرقية، كأحد المعايير المهمة في توزيع المناصب. هذا فضلاً عن قيام التحالفات السياسية على أساس هذه الانتماءات الهوياتية، المسماة خطأً بالفرعية، من دون إحساس القائمين عليها والداعمين لها بتناقض هذه الانتماءات مع الهوية الوطنية التي يجري الاحتفاء بها واسعاً على أنها عامة وجامعة. يجري التملص من هذا التناقض من خلال افتراض ان للعراقيين هويات مختلفة في الوقت ذاته، دينية ووطنية وعرقية ومناطقية، وأنه من حقهم كأفراد، خصوصاً الفاعلين منهم في الحيز العام من ساسة ورجال دين وإعلاميين ومهنيين وسواهم، إبراز واحدة من هذه الهويات بما يناسب اللحظة والحاجة.

يكمن الخطأ الفادح في هذا الفهم في افتراض وجود هويات متعددة لدى الفرد نفسه. في الحقيقة باستثناء المرضى النفسيين والمتملقين البارعين، لا يمكن أن تكون للمرء هويات متعددة فمثل هذا التعدد الهوياتي بأي ترتيبة كانت هو دليل على انفصام نفسي عميق لا يدركه المرء عادةً أو براعة فائقة في التمثيل ولعب أدوار مزيفة عن وعي وقصد. الهوية الفردية واحدة لكنها تنطوي على أبعاد عديدة ومختلفة تشتغل في داخل المرء بنسب متفاوتة. في حالة الأشخاص الصحيين والطبيعيين، تتفاوض هذه الأبعاد المختلفة في داخل المرء كي تنتج حساً متسقاً عموماً بالهوية، أي فهم المرء لذاته وللعالم المحيط به والقيم التي يؤمن بها وتقود سلوكه في السياقين الشخصي والعام.

ينسجم هذا الفهم للهوية مع الجذر اللغوي للكلمة الذي يشير إلى أن معنى الهوية هو ان يكون الشيء واحداً أو متشابهاً. اصطلاحيا، تُعرف الهوية في السياق الفردي الإنساني، بوصفها مجموعة الصفات المختلفة التي تنتظم في داخل الشخص عبر التفاعل بينها جميعاً، وتُميزه عن غيره من الأشخاص الآخرين. تتشكل هذه الصفات عبر تجارب الشخص في الحياة، بجوانبها المختلفة الاقتصادية والعائلية والمهنية والسياسية والدينية والجندرية والعاطفية وغيرها، والمؤثرات التي تتركها على شخصيته. تتفاعل هذه التجارب بمؤثراتها المختلفة لتنتج عبرها هوية الشخص. لذلك الهوية واحدة، فردية وفريدة لكل شخص، بأبعاد مختلفة تكتسب تناسقاً ظاهرياً بفعل وعي الشخص وتفكيره بهذه الأبعاد المختلفة في سياق سعيه لصناعة هذا التناسق لتشكيل شخص بهوية مستقرة.

تعدد الأبعاد في الهوية لا يعني تساوي هذه الأبعاد في التأثير والدور الذي تلعبه في حياة الشخص فهناك بُعدٌّ ما يلعب دوراً مركزياً ناظماً مقارنةً بالأبعاد الأخرى ليصبح هذا البُعدُّ الأكثر بروزاً في الشخص. فمثلاً في حالة هيمنة البعد المهني في هوية المرء، كأن يكون طبيباً أو ضابطاً، على الأبعاد الاخرى الدينية والجندرية والسياسية والمناطقية وغيرها، يظهر هذا البعد في هوية الشخص بوصفه ناظماً لعمل لأبعاد الأخرى كما في تركيز الطبيب على الصيرورات ذات الطابع العلمي البيولوجي والعلاجي في تفسيره للأشياء، وتركيز الضابط على التنظيم والهرمية والقيادة الناشئ عن البعد المهني فيه بإزاء الأبعاد الأخرى. لكن يمكن أن تهيمن ايضاً لدى الاثنين ابعاد اخرى غير مرتبطة بالمهنة كالبعد الإيديولوجي/السياسي أو الديني على الأبعاد الأخرى. في حالة هيمنة البعد الديني في الهوية على الأبعاد الأخرى، تبرز حينها التفسيرات الدينية والمذهبية والغيبية في معنى الهوية ووظيفتها. الأمر ذاته ينطبق في حالة هيمنة البعد الجندري في الهوية، نسوياً أو ذكورياً، على الأبعاد الأخرى. في أحزاب الإسلام السياسي الشيعي الحاكم في العراق، يهيمن البعد الديني-الطائفي على الهوية للفاعلين السياسيين الشيعة الذي وجد ترجمته الأدق في الحياة السياسية في البلد عبر ترسيخ سياسات الهوية والمحاصصة واختصار العراقيين إلى كيانات مذهبية وعرقية والتعاطي معهم على هذا الأساس.

الهوية ايضاً تفاعلية وليست جامدة أو ميكانيكية بمعنى إنها ليست ثابتة ودائمة بأبعاد متساوية وإنما هي ديناميكية، أي في حالة تفاعل مستمر بين الأبعاد المختلفة على أساس التجارب والمعطيات والمصالح الجديدة. أحد الضوابط المهمة في هذا التفاعل هو البعدٌ الأخلاقي في الهوية الذي يتشكل عبر تجارب المرء الاجتماعية وتأملاته الشخصية في إطار تفاعله، رفضاً وقبولاً وتعديلاً، مع القيم الاخلاقية السائدة في المجتمع ونشوء ما يُعرف بالضمير الفردي. الوظيفة الطبيعية لهذا الضمير في حالة الهويات المستقرة هو ما يمكن تسميته بالمهمة الإشرافية على كامل الفرد، أي توفير بوصلة أخلاقية تقود أفعال المرء وتحددها كي تجعلها متسقة مع عموم هوية الشخص في سياق تفاعل الأبعاد المختلفة فيها، الدينية والسياسية والجندرية والمهنية والاقتصادية والعاطفية وغيرها. فمثلاً، عندما تترسخ قيمة الصدق في هوية المرء، المنطقي هو أن يتجنب الكذب والخداع في كل تعاملاته سواء كان فرداً عادياً أو موظفاً عاماً أو تاجراً غنياً، أو زعيماً حزبياً أو خصماً سياسياً. يُفترض ان توفر هذه البوصلة الاخلاقية، عندما تكون فاعلةً وحيةً، تناسقاً عاماً في سلوك المرء في أوجه الحياة المختلفة. عبارة “راحة الضمير” الشائعة محلياً هي تعبير شعبي دقيق عن حيوية الضمير الأخلاقي الفردي وقدرته على ضبط الاندفاعات والانزلاقات السلوكية التي تناقض الضمير، الناشئة غالباً عن هيمنة الأبعاد الأخرى في الهوية في إطار صراعات المصلحة وتفاعلها التي تدور حولها معظم تجارب الحياة.

في اختبارات الضمير الأخلاقي الكثيرة التي شهدها العراق منذ 2003 فشل الساسة المهيمنون على القرار على نحو فادح ومتكرر حتى تحول فشلهم هذا إلى مشكلة بنيوية عميقة عامة يعاني منها المجتمع كله. إصلاح أعطاب العراق الكثيرة والعميقة تتضمن إصلاح البعد الأخلاقي للهوية أيضاً لكن في إطار مؤسساتي وبنيوي عام وليس في الإطار الوعظي التقليدي السائد الآن لسوء الحظ الذي يعيد انتاج المشكلة بدلاً من المساعدة على حلها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *