نوفمبر 22, 2024
png-clipart-flag-of-iraq-national-flag-flag-of-finland-flag-miscellaneous-flag

اسم الكاتب : الدكتور بشير زين العابدين (1)

تُعرّف الهوية بأنها: “مجموعةٌ من المُميّزات التي يمتلكها الأفراد، وتُساهمُ في جعلهم يُحقّقون صفة التفرّد عن غيرهم، وقد تكون هذه المُميّزات مُشتركة بين جماعةٍ من النّاس سواءً ضمن المجتمع، أو الدّولة”، وتقوم على خمسة ركائز رئيسة هي: الدين، والموطن، والتاريخ، والثقافة، واللغة.

ويُعتبر العالم العربي أحد أكثر مناطق العالم تعددية، حيث تأوي المنطقة عشرات الجماعات العرقية والدينية والطائفية، ويمثل التسامح السمة الأبرز للعلاقة الناظمة بين مختلف المكونات المجتمعية التي تعايشت فيما بينها عبر آلاف السنين.

إلا أن دخول الألفية الثالثة قد تزامن مع تحولات مجتمعية، أفضت إلى بروز تحديات جديدة فيما يتعلق بالهوية من مختلف أبعادها، وخاصة في أعقاب الفوضى التي آلت إليها الجمهوريات العربية خلال حقبة “الربيع العربي” (2011-2021م)، حيث أدى انهيار “الهوية المركزية” إلى تحرك مجموعات إثنية وطائفية لإعادة صياغة الهوية الوطنية وفق رؤى فئوية لا تمثل سائر فئات المجتمع.

ولقيت تلك النزعات تأييدًا من قبل بعض القوى الخارجية ومراكز الفكر العالمية، ومن بعض كبار المسؤولين الغربيين الذين تبنوا مشاريع تدعو إلى تقسيم المجتمعات العربية على أسس طائفية وإثنية، وتدخلوا في صياغة الوثائق التأسيسية في مراحل إعادة التشكل السياسي، ما أدى إلى تضييق مساحة الحوار المجتمعي وتوسيع الهوة بين مختلف المكونات المجتمعية، وتحول بعض الدول إلى ساحة صراع مجتمعي تغذيه النزاعات الانفصالية وخطاب الكراهية والتمييز.

وتزامنت تلك التحولات مع تنامي الأدوار العسكرية للميلشيات الطائفية والإثنية والعابرة للحدود في مرحلة تداعي الجيوش التقليدية في الجمهوريات العربية، وتفشي ظاهرة “الحروب اللامتماثلة”، والتي يندلع الصراع فيها بين المجموعات السكانية على أساس الهويات المتصارعة، وقيام بعض القوى الخارجية بتمويل وتسليح مجموعات إثنية-طائفية في المجتمعات العربية.

وأدى ذلك بدوره إلى سجالات إيديولوجية بين مختلف الفئات المجتمعية حول إعادة تعريف “الوطن”، وإلى دعم بعض الجهات الخارجية جهود استبدال “الهوية المركزية” بنظمٍ “فيدرالية” أو “اتحادية”، فضلًا عن النقاش المستمر حول دور الدين في النظم السياسية البديلة بالجمهوريات العربية المتداعية.

وفي مقابل وقوع معظم الجمهوريات العربية في أتون الفوضى مطلع العقد الثاني من الألفية؛ مثلت العراق التجربة المبكرة، حيث تسبب الغزو الأمريكي (2003م) بآثار مدمرة على الهوية بكافة أبعادها، بعد أن بلغت الخسائر البشرية حوالي مليون ونصف قتيل، وأسفر عن نزوح أكثر من ستة ملايين عراقي، ودمار عدد من المدن والحواضر التي لا تزال تعاني من تبعات ذلك الغزو.

وبناء على ذلك؛ فإن هذه الدراسة تتخذ من النموذج العراقي منطلقًا لاستعراض أهم التحديات المتعلقة بإعادة صياغة الهوية، نظرًا للتجربة المريرة في محاولات تقصي الهوية الجامعة ونظم العلاقة بين الدولة ومختلف فئات المجتمع، وذلك من ثلاثة محاور، هي: تحديات إعادة صياغة الهوية السياسية، واستعراض صراع الأجيال الناتج عن التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة، واستشراف التبعات المتوقعة لهذه التفاعلات في العقد الثالث من الألفية.

الهوية ومشكلات التشكل السياسي

شكل ظهور الدولة القومية أولى تحديات إعادة تشكيل الهوية السياسية في العالم العربي، حيث قامت المجتمعات العربية الإسلامية على أساس عالمي (cosmopolitan) وليس على أساس قومي، واعترفت منذ مراحل مبكرة بالتنوع في الهوية.

وكانت العراق إحدى التجارب المبكرة في عملية التشكل السياسي عقب الانعتاق من الحكم العثماني (1917م)، حيث تم إعلان المملكة عام (1921م)، ونالت البلاد استقلالها عام (1932م) ، إلا أن صياغة الهوية السياسية للدولة قد تأثرت إلى حد كبير بالنزعات الدينية لدى جنرالات أوروبا، الذين حملوا في مطلع القرن العشرين مشاعر صليبية لا يمكن التغاضي عنها أثناء حملاتهم العسكرية في المشرق العربي، حيث تحدث طبيب بريطاني، صاحب الحملة البريطانية، عن تأثر الجنرال ألنبي (قائد القوات البريطانية) بتاريخ الحملات الصليبية، مؤكدًا: “لقد كان مقتنعًا بأن التاريخ سوف يكرر نفسه في هذا الشرق غير المتغير، وقال منذ البداية: إن المعركة الحاسمة سوف تخاض عند ممر مغيديو”، مستعيرًا النبوءة التوراتية في “سفر حزقيال” (7:39) بالعهد القديم، والذي ينص على أن اليسوع: “سيقود جيشًا من الملائكة لينتصر على أعداء الله”. وكان ينظر إلى حملاته العسكرية بشيء من الصليبية الحديثة.([2])

وتزامن دخول ألنبي مدينة القدس (9 ديسمبر 1917م)، مع إصدار وزير الخارجية البريطانية، آنذاك (آرثر بالفور)، وعده بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، في حين كان الأمير فيصل بن الحسين مشغولًا بسوق المبررات لدعم القوات البريطانية في سيطرتها على المشرق العربي، منتحلًا الفكر القومي كهوية جديدة تضم إليها الجماهير العربية، ومتخذًا من النمط الغربي أساسًا لبناء دولته الحديثة التي قامت على مقولته المشهورة: “الدين لله والوطن للجميع”.([3])

ولم تدم الحقبة الملكية في العراق لفترة طويلة عقب الاستقلال، حيث انتهت بصورة دموية عام (1958م)، ومر القطر العراقي بعد ذلك بظروف سياسية عصيبة منعته من تشكيل  تشكل هوية سياسية متوازنة تُنَظِّم العلاقة بين السلطة والمجتمع، حيث وقعت البلاد في أتون محاولات انقلابية متتالية، وكان لحروب الخليج الأولى (1980-1988م) والثانية (1990-1991م) والثالثة (2003م) بالغ الأثر في تعزيز معضلات التشكل السياسي وضعف التجانس المجتمعي.

وأفضى دستور العراق لعام (2005م) إلى تأسيس نظام “اتحادي”، يقوم على محاصصة إثنية-طائفية، بحيث أصبح الانقسام العرقي والطائفي في المحافظات العراقية أمرًا واقعًا.

وعلى الرغم من الفترة الزمنية الفارقة بين الحملة البريطانية لغزو العراق عام (1917م)، والغزو الأمريكي عام (2003م) ؛ إلا أن البعد الديني استمر في تغذية مشاعر الزعماء الغربيين، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الابن)، حيث كشف الصحفي الفرنسي، (جون كلود موريس) والذي عمل في العراق خلال الفترة (1999-2003م)، أن بوش كان يستند إلى روايات توراتية أثناء حشده للحملة العسكرية ضد العراق، وأنه اتصل بالرئيس الفرنسي جاك شيراك وطلب منه المشاركة في الحرب القادمة لتدمير آخر أوكار “يأجوج ومأجوج” المختبئين قرب مدينة بابل العراقية القديمة، مؤكدًا له أن الحرب في العراق هي: “حملة إيمانية مباركة يجب القيام بها، وواجب إلهي مقدس أكدت عليه نبوءات التوراة والإنجيل”.([4])

وتحدثت مصادر أمريكية عديدة عن دور المعتقدات الدينية لدى بوش في الحرب على العراق عام (2003م)، وكذلك في تحالف حزبه مع اليمين الصهيوني، الأمر الذي أكدته وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت في كتابها: “الجبروت والجبار” والذي تحدثت فيه عن إيمانها بالله وعن توجيه ذلك الإيمان للسياسة الخارجية الأمريكية عبرها وعبر شخصيات أخرى نافذة.([5])

ولتحقيق تلك الرؤية؛ بادرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى تمويل عدد من منظمات “دعم الديمقراطية”، وتكليفها بالعمل في أوساط المجموعات الإثنية والطائفية، حيث قامت هذه المنظمات بتنظيم ندوات حوارية وعقد اجتماعات تنسيقية مع زعمائها، ونظمت برامج تدريبية لهم في دول عربية وغربية، فيما عمدت إيران إلى التغلغل في العراق من خلال إنشاء وتمويل الميلشيات الطائفية وإذكاء نيران العنف المجتمعي.([6])

وأكد الباحث الأمريكي من أصل إيراني، ولي نصر، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تبنّت مبدأ “تمكين الأقليات” في العالم العربي منذ عام (2003م)، وربطت مصالحها بهم منذ ذلك الحين، معتبرة أن مفتاح التغيير في الشرق الأوسط ينبع من العراق الذي تم تغيير موازين القوى فيه بصورة “أكثر واقعية”، حيث اضمحل دور الحركات العلمانية، واندرست معالم الأيديولوجيا والفكر، فيما أفرزت العمليات الانتخابية ممثلين عن الأعراق والطوائف بدلًا من منسوبي الأحزاب والحركات السياسية.([7])

وفي دراسة حول ارتباط المصالح الأمريكية بالأقليات؛ توقع الباحث الأمريكي، جيمس لي، زيادة تأثير الأقليات على الشؤون السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية، خاصة وأن إيران هي الدولة الأكبر في المنطقة، وأنها تمارس نفوذًا على عدد من الجماعات المرتبطة بها فكريًا وعقائديًا، ورأى لي أنه بات من المتعيّن على الدول الغربية أن تبدي اهتمامًا أكبر بالعوامل الجيوسياسية في المنطقة العربية بدلًا من الاقتصار على سياسة الضغط الاقتصادي والسياسي على إيران.([8])

وبعد فرض الكيان الاتحادي العراقي (2005م)؛ مثلت عملية فصل جنوب السودان عن شماله (2012م) إحدى أبرز حلقات إعادة رسم “خارطة الشرق الأوسط الجديد”، حيث تمت ترتيبات عملية الفصل من خلال تعاون مسؤولين غربيين مع جمعيات مسيحية، وأشرفت وزير الخارجية الأمريكية آنذاك (كونداليزا رايس)، على تعزيز القدرات العسكرية للجيش الشعبي لتحرير السودان، وذلك من خلال شركة “بلاك ووتر”، التي حصلت على عقد سخي من نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، (ديك تشيني).([9])

وأفرزت تلك التحولات الكبرى تحديات ضخمة فيما يتعلق بصيانة الهوية العربية الإسلامية من المخاطر التي تمثلها المعتقدات الأسطورية، وما يمكن أن تتسبب به إساءة فهم النصوص الدينية من إزهاق للأرواح وتشريد للشعوب وتدمير للبنى التحتية، وما يمكن أن ينتج عنها من مخاطر على هوية شعوب المنطقة، حيث أسفرت عملية التشكل غير الناضج نزاعات طائفية وإثنية وحروبًا أهلية مدمرة لم تتعافى المنطقة العربية من تبعاتها حتى اليوم.([10])

ولا شك في أن الجيل القادم سيواجه خلال العقد المقبل تحديات كبيرة على مستوى نزع فتيل الفكر الراديكالي الذي يبشر به العديد من منظري اليمين الأمريكي المتطرف فيما يتعلق بحتمية الصراع الحضاري مع الإسلام، وما ينتج عنها من تعبئة سلبية وفكر عدائي يدعو إلى تقسيم المنطقة العربية تحت ذريعة “حماية الأقليات”، والتي عملت من خلالها على دعم عدد من الحركات الانفصالية التي ارتكبت جرائم التهجير القسري والتطهير العرقي، وأثارت الاحتقان الطائفي والمذهبي في المشرق العربي برمته.

الهوية و”فجوة الأجيال”

وبالإضافة إلى تداعي الجمهوريات العربية، وتنامي النزعات الانفصالية؛ مثلت الزيادة السكانية أحد أبرز ملامح التحول الذي تشهده المنطقة العربية، وخاصة منها العراق.

ففي شهر نوفمبر، 2021م؛ قُدّر تعداد سكان العراق بنحو: (41,190,658) نسمة، ما مثل أكبر تكدس سكاني عرفته العراق في تاريخها المدون، حيث تضاعف عدد السكان من نحو ثلاثة ملايين نسمة في إحصائية عام (1927م)، إلى أكثر من أربعين مليون، أي بزيادة قدرها (38) مليون نسمة في أقل من مائة عام.([11])

علمًا بأن جيلي: الألفية (مواليد الفترة 1980-2000م)، وما بعد الألفية (2000-2020م)، يمثلان الشريحة الأكبر بواقع (28) مليون نسمة من مجموعة سكان العراق اليوم، حيث يؤكد تقرير صادر عن “البنك الدولي” أن ما يقارب نصف شباب العراق هم دون سن (19) عامًا، وحوالي الثلث بين (15 و29) عامًا.

وتأتي هذه الزيادة، بالتزامن مع صدور تقرير اشتركت في إعداده: “منظمة الأغذية والزراعة “الفاو”، مع “برنامج الأغذية العالمي”، و”البنك الدولي” (أبريل 2021م)، والذي توقع ارتفاع نسبة الفقر في العراق إلى (14) بالمئة، بحيث يضاف نحو (5,5) مليون إلى (6,9) مليون عراقي موجودون أصلًا على قائمة الفقر، حيث تضاعف معدل الفقر في العراق في العام (2020م) ، وبات (40) في المئة  من السكان البالغ عددهم (40) مليونًا، يعتبرون فقراء وفق البنك الدولي.

وتعاني البلاد في هذه الأثناء من ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة منذ ثلاثة عقود، على الرغم من ثروة البلاد النفطية الضخمة التي يبدو أنها لم تسهم في تحسين مستوى معيشة العراقيين نتيجة لتفشي الفساد وسوء الإدارة ونقص الخدمات الأساسية، حيث كشفت الإحصاءات الصادرة عن “البنك الدولي” (سبتمبر 2021م) أن مستوى البطالة في العراق بلغ (13,7) بالمئة، وهو المعدل الأعلى منذ عام (1991م)، ما ينذر بتفاقم حالة سخط شعبي قد يقود إلى احتجاجات مماثلة للاحتجاجات العارمة التي اندلعت عام (2019م)، وأدخلت البلاد في أزمة كبيرة.

علمًا بأن الشباب هم من بين الفئات الأكثر تضررًا من تراجع الاقتصاد وارتفاع مستوى البطالة، إذ يشير “البنك الدولي” إلى أن هذه الفئة شهدت ارتفاعًا ملموسًا بلغ (36) في المئة؛ بسبب الأوضاع الاقتصادية المتأزمة وتداعيات الوضع الأمني.

ووفقًا لمنظمة “يونيسيف” (ديسمبر 2021م)، فإن عدد الأيتام في العراق بلغ خمسة ملايين يتيم، يمثلون نحو خمسة بالمئة من إجمالي الأيتام في العالم، الأمر الذي يعكس حجم الخسائر البشرية والمآسي الإنسانية التي خلفتها أعمال العنف على سكان البلاد، وخاصةً شريحة الأطفال الذين ينخرط منهم نحو مليون طفل في سوق العمل نتيجة حالة العوز التي تعاني منها العوائل الفقيرة.

ولا تقتصر الإشكالية على معاناة الأجيال الشابة من البطالة والفقر واليتم، بل تمتد لتشمل إشكالية لا تقل خطورة عنها، وتتمثل في اضمحلال مفهوم “أبوية السلطة” وعدم انسجام الأجيال الجديدة مع مؤسسات الإدارة والحكم، التي فشلت فشلًا ذريعًا في غضون الحقبة الاتحادية المريرة.

وتنبع الأزمة من الفجوة الهائلة بين الأجيال اليوم، والتي يطلق عليها اسم “الفجوة الجيلية”، حيث تختلف آراء الجيل الحالي عن سابقيهم فيما يخص المعتقدات والسياسات والقيم، فيما يسهم التطور التكنولوجي في توسيع “الفجوة المعرفية”، المتمثلة في الفرق بين من يمكنهم العثور على المعلومات أو المعرفة وتكوينها ومعالجتها ونشرها، وبين العاجزين عن القيام بكل ذلك.

يضاف إلى ذلك ما تمثله “الفجوة التقنية” بين جيلي الألفية وما بعدها عن الأجيال السابقة، والتي تتمثل في تنامي أدوات صناعة المعرفة والاستخدام الفعال لها، وتمثل الفارق الكبير بين الذين بمقدورهم استخدام الإنترنت نتيجة امتلاكهم المهارة اللازمة والقدرة، وبين الذين لا يستطيعون تحقيق ذلك.([12])

وتبشر تلك الطفرة التقنية والمعرفية بوجود فرصة مهمة لزيادة فاعلية الجيل العراقي الجديد، وذلك على نمط الجيل الذي ظهر في مطلع القرن العشرين ظهور جيل تميز بالحيوية والفاعلية، والذي كان له دور أساس في صيانة الهوية العربية ومقاومة الاستعمار الذي هيمن عقب انهيار الحكم العثماني، وأسهم في الحركات الثورية والمظاهرات الشعبية، ثم انخرط في بناء الكيانات السياسية التي ظهرت في مرحلة ما بعد الاستعمار.

ولم يتمكن أبناء جيل ستينيات القرن المنصرم من تحقيق فاعلية سابقيهم، وذلك نتيجة للانقلابات التي أتاحت للعسكريين مجال الاستحواذ على مؤسسات الحكم المدني، وقمعت الحريات، وضيقت الممارسة السياسية، فيما هيمنت المؤسسات الأمنية والاستخباراتية على الحياة العامة، بحيث بات السجن أو النفي أو القتل مصير من يطالب بالإصلاح أو يعمل على تغيير الواقع بالسبل المشروعة.

وأنتج ذلك المشهد الدموي حالة من الاستجابة الجماعية للقمع، إلى درجة إطلاق مسمى “الجيل الصامت” على جيل الفترة الممتدة ما بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث استُخدم “الصمت” كاسم لذلك الجيل نتيجة عزوف الغالبية العظمى من أبنائه عن البوح بآرائهم، وإيثارهم البعد عن المشهد السياسي.

ولا بد من الاعتراف بأن إدارة ذلك الجيل لم تكن بالمهمة الصعبة مقارنة بجيل اليوم، إذ قُدر عدد سكان العراق عام 1980م، بحوالي 13 مليون نسمة فقط.

وتمثل الأدوات التي يمتلكها جيلي الألفية وما بعد الألفية، فرصًا واعدة لرأب الصدوعات المجتمعية التي أحدثتها الشروخات السياسية المريرة في القرن الماضي، حيث أكسبت “الثورة الرقمية”، وما يصاحبها من تطور في الاتصالات والمعلومات، الأجيال الجديدة سمات مختلفة، كالاهتمام بالشأن العام، والتوجه نحو توظيف التقنيات المتاحة في إنتاج المادة الإعلامية والتأثير في الشأن العام، إذ إن نحو 85 بالمئة منهم يمتلكون هواتف ذكية، ونحو 93 بالمئة منهم يقومون بتحميل تطبيقات جديدة بصورة شهرية، ويفضلون التفاعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي على مشاهدة القنوات الفضائية وأجهزة التلفاز، ما يعني أن الدولة لم تعد تحتكر وسائل الإعلام كما كان الحال عليه في الفترة الممتدة ما بين ستينيات وثمانينيات القرن المنصرم.

ونظرًا لما تمثله التحديات المرتبطة بتشكيل الهوية السياسية لهذين الجيلين؛ فإنه من المتعين العمل على القوى السياسية الرشيدة أن تبادر إلى صياغة مشروع حضاري يستوعب جميع عناصر المجتمع، ويشكل منظومة سياسية تصون الهويات المتعددة وتحمي أفرادها.

وفي وقفة مراجعة للحركات والتيارات السياسية العراقية، يمكن ملاحظة تقوقع أغلبها في قوالب صلبة لا تتمتع بالمرونة التي تسمح لها بالاستجابة للتحولات، حيث يتقمص بعضها نمطًا من التشكل المنفصم عن الحراك الشعبي، ويتخذ مواقف سياسية متشددة تعزز حالة الريبة وتنمي مشاعر العداء تجاه أي فكر معارض، فيما تتصارع الهويات الفرعية عبر عصبويات ما دون الدولة (عشائرية، طائفية، مناطقية، ميلشياوية) لإنشاء مراكز قوة لها في السلطة.

وفي المقابل يتراجع، أداء التيار القومي الذي طالما دعا إلى صياغة هوية الجامعة عبر مفهوم “الدولة-الأمة” (Nation State)، على أسس قومية، خاصة وأن المشاريع القومية قد ارتكزت على الفكر القومي الذي فشل في تطوير مؤسسات الحكم الحديث.

وبناء على التجارب الفاشلة التي مُنيت بها العراق في الحقب: الملكية (1921-1958م)، والجمهورية (1958-2003م)، والاتحادية (2005-2021م)، فإنه من المهم تبني مشروع أكثر شمولًا، يقوم على استيعاب التحولات الديمغرافية والتقنية الكبرى، لتحقيق حوار مجتمعي يفضي إلى صياغة هوية جامعة تستوعب تلك المتغيرات، حيث ترى بعض الدراسات الاستشرافية أن العنف المصاحب لمرحلة “الربيع العربي” (2011-2021م) سيدفع بالأجيال الشابة لإعادة صياغة هويتها فيما يعزز دور الفرد وحقوقه، ويدفع باتجاه تغليب العناصر الإنسانية في تحديد هوية الدولة وعلاقتها بالمجتمع، وذلك من خلال نظريات: “العقد الاجتماعي”، التي ترى أن السلطة في حقيقتها هي عقد بين الدولة والمجتمع، وليست محض سلطة “إلهية” تحتكرها مرجعيات النجف وكربلاء.

وتتمثل الصيغة الأمثل لتحديد الهوية السياسية للجمهوريات العربية في جمع القواسم المشتركة لدى مختلف المجموعات السكانية، واستقراء نماذج الدول الشرقية التعددية (cosmopolitan) في مؤسسات الإدارة والحكم، وإضافة مفاهيم “إدارة التنوع” لاستيعاب العناصر الدينية والتاريخية والسياسية والثقافية والإنسانية على حد سواء.

معالم “معركة الهوية” في العقد الثالث من الألفية

على الرغم من أن العنصر الديني بات يستحوذ على معظم الجدل الدائر حول الهوية السياسية في مرحلة “الربيع العربي”، إلا أن الجمهوريات العربية المتداعية، وعلى رأسها العراق، تقف اليوم أما حزمة أكبر من التحديات فيما يتعلق بإعادة صياغة الهوية السياسية، أبرزها:

1– الهوية الوطنية الجامعة وعلاقاتها مع مفهومي “الهويات المركبة” و”تعدد الهويات”.

2– الصراع بين السلطة والشعب فيما يتعلق بالهوية المركزية، مقابل سعي الفئات المجتمعية المتباينة لتعزيز هوياتها المنفصلة، والمطالبة بتقديرها واحترام خصوصيتها.

3- سعي بعض القوى لإعادة صياغة الهوية الوطنية الجامعة وفق رؤى فئوية لا تمثل سائر أبناء المجتمع، ومطالبة بعض المجموعات الإثنية والدينية والطائفية بالانفصال والفيدرالية والحكم الذاتي.

4– العولمة السياسية، التي تدفع بعض الشباب لتقمص هويات بديلة يعتبرون أنها تمثل الرقي والتطور الحضاري في مقابل حالة التخلف التي تعيشها مجتمعاتهم، ونزوعهم للتخلي عن لغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم وتقمص هويات مجتمعات أخرى يعتبرونها أكثر تقدمًا.

5– التعقيدات المجتمعية الناشئة عن الصراعات الدينية-المذهبية، والعنف الطائفي-الإثني.

6– تنامي الأدوار العسكرية للميلشيات الطائفية والإثنية والعابرة للحدود في مرحلة تداعي الجيوش التقليدية، والمعارك بين المجموعات السكانية على أساس الهويات المتصارعة، وقيام بعض القوى الخارجية بتشكيل وتمويل وتسليح مجموعات إثنية ـ  طائفية في المجتمعات العربية.

وفي خضم جدليات إعادة تشكل الهوية العربية الحديثة، يفوت على السلطات السياسية الممعنة في صراعاتها الجانية إدراك المخاطر الكامنة خلف أكبر حركة تحول ديمغرافي يشهدها تاريخ المنطقة، وما يمكن أن ينشأ لدى الأجيال الشابة من أحقاد دفينة قد تذكي صراعات ضخمة نتيجة الإخفاق الذي تجر البلاد إليه.

ويدفعنا ذلك للتأكيد على ضرورة تكثيف الدراسات الجادة فيما يتعلق بمعالجة مشكلات الهوية السياسية في المنطقة العربية ومستقبل الكيانات الجمهورية، حيث تنتج مراكز البحث الغربية دراسات تنطلق من منظور قاصر عن استيعاب المجتمعات العربية وبنيتها التعددية، ويخلط الباحثون الغربيون بين مفهوم “الدولة القومية” من جهة، والدولة “الإثنية” و”المذهبية” من جهة أخرى.

وسواء أكان ذلك الخلط متعمدًا أو أنه ناتج عن ضحالة في الرؤية لدى الباحثين الغربيين المُحدثين؛ إلا إنه بات من الضرورة بمكان التحذير من مخاطر العبث بمصائر ملايين البشر من خلال المحاولات الفاشلة لإقامة دول مستقلة على أساس مذهبي أو إثني؛ وقد حاولت فرنسا إنشاء منظومة من الدول الطائفية في سورية خلال الفترة 1920-1936م، إلا أن جميع محاولاتها باءت بالفشل.

وفي مقابل هذه الأطروحات التفتيتية؛ لا بد من بذل جهود علمية أكبر لتقصي نماذج التشكل المنسجم مع التركيب المجتمعي في عالمنا العربي، وذلك من خلال المواءمة ما بين التحولات الديمغرافية والتقنية الكبرى التي تشهدها المنطقة، وبين التجارب الإسلامية الناجحة في استيعاب الهويات الفرعية ضمن الهوية الجامعة، وسبل استعادة الموروث التاريخي المتمثل في حماية الهويات الفرعية، وإيجاد آليات ناجعة لتنظيم العلاقة بين الأعراق والطوائف والأديان، وذلك من خلال استحداث مفهوم إدارة التنوع واستيعاب التعددية بمختلف أنماطها.

ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تحفيز النخب الحديثة لملء الفراغ والخروج بأطروحات جادة لمعالجة مشكلات الهوية في هذه المرحلة الحرجة من التحول البنيوي.

………………………………………………

  • كاتب وباحث سوري

([2]) سمير عطا الله (1995م)، جنرالات الشرق دور العسكريين الأجانب في العالم العربي بين الحربين، دار الساقي، بيروت، ص 62-63.

([3])  ساطع الحصري (1947م)، يوم ميسلون، بيروت، ص 198.

([4])  Jean ـ Claude Maurice (2010) Si vous le répétez, je démentirai, Plon, Paris.

([5])  Madeleine Albright (2007) The Mighty and the Almighty: Reflections on America, God, and World Affairs, Harper Perennial, New York.

([6])  أبرز المنظمات الأمريكية التي تعمل في مجال دعم الديمقراطية بالشرق الأوسط: الوقف القومي للديمقراطية (NED): وهي مؤسسة شبه رسمية، تأسست عام 1983م، وتهدف إلى تمويل المؤسسات الديمقراطية حول العالم دون الحاجة إلى الدعم الحكومي المباشر؛ والمعهد القومي الديمقراطي للشؤون الخارجية (NDI): وهي مؤسسة غير ربحية يتم تمويل أنشطتها من قبل (NED)، والمعهد الجمهوري الدولي (IRI): الذي يحصل على تمويله من قبل الوقف القومي للديمقراطية؛ ومبادرة الشراكة الشرق أوسطية (MEPI): التي تعمل من خلال برامج تديرها وزارة الخارجية الأمريكية، والوكالة الأمريكية للتطوير الدولي (USAID):.

([7]) Vali Nasr, “Regional Implications of the Shia Revival in Iraq,” The Washington Quarterly, Summer (2004): 7-24.

([8]) James Leigh, “Shia Islam and Oil Geopolitics,” Energy Bulletin, (23rd Dec. 2008).

([9]) بحلول عام 2012م؛ بات مشهد العبث الغربي في الجغرافية العربية ماثلًا للعيان، حيث شكلت “دول النبوءات” التحدي الأكبر على هوية المنطقة العربية، والتي تمثلت في ثلاثة كيانات رئيسة هي: الكيان الصهيوني “إسرائيل” (تأسست عام 1948م): يرتكز على يهوديته، ويقوم على أسس نبوءاتية توراتية، والجمهورية “الإسلامية” الإيرانية (تأسست عام 1979م): تقوم على عقيدة الانتظار ويرتكز نظام الحكم فيها على ولاية الفقيه الذي ينوب عن “الإمام الغائب”، ودولة جنوب السودان (تأسست عام 2012م): تقوم على نبوءة مسيحية حول بطريرك يبسط نفوذه في الشرق ويحارب أعداء المسيح اسمه «برستور جون» (أو القديس يوحنا)، وتم إنشاء هذا الكيان في تخوم الأمن القومي العربي الجنوبي.

([10])  تراوحت تقديرات خسائر العنف الطائفي الذي شهدته العراق في الفترة (2003-2009م) بين 250 ألف قتيل مدني، ونحو 601027 شخص وفق مجلة “لانسيت” الطبية، فيما فقد “الجيش العراقي” 9481 عنصرًا، وخسرت قوات التحالف في العراق 4718 قتيلًا من عناصرها.

([11]) الجهاز المركزي للإحصاء التابع لهيئة التخطيط العراقية، تحديث بتاريخ 23/11/2021م، بواسطة، وكانت أول إحصائية قد أجريت في القرن الماضي عام 1927م، وبلغ تعداد سكان العراق آنذاك،  2968540 نسمة.

([12]) يتمتع جيل الألفية في العراق بقابلية إلكترونية ضخمة، حيث بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في العراق عام 2020م، أكثر من 30 مليون مستخدم، وتم تسجيل 11مليون زيادة في عدد مستخدمي الإنترنت بين عامي 2019 و2020م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *