الكاتب : سلمان رشيد الهلالي
يخضع المشهد الاعلامي والثقافي العراقي لظاهرة تسمى (الصرعات الثقافية) او (الموضات الثقافية) , وهى بروز مدارس فكرية غربية ومناهج فلسفية حديثة او شخصيات اعلامية وفكرية ودينية سرعان ماتنتشر بسرعة البرق عند الشباب والمتعلمين والمثقفين حتى تصبح حديث الساعة , الا انها ايضا سرعان ماتنزوي بعد فترة عن الاعلام والوسط الثقافي , والسبب هو ابتعادها عن الواقع العراقي الحقيقي وعدم تاصيلها نفسها ضمن النسق الثقافي المعاش . وكلنا يتذكر صرعة احمد الكاتب وصرعة احمد القبانجي وصرعة عبد الرزاق الجبران وصرعة خزعل الماجدي وصرعة ميثاق العسر وصرعة كمال الحيدري , وكلها بالطبع تندرج ضمن مواجهة الموروث الديني التقليدي – وخاصة الشيعي – والملاحظ ان جميع تلك الاسماء هي من الجماعة الشيعية في العراق , ولانعرف سبب عدم وجود شخصيات ثقافية سنية تعمل على نقد الموروث الديني الاسلامي – وخاصة السني – وربما السبب عدم شعورهم بالاستلاب والحقد والغل على مذهبهم الديني وهويتهم الاسلامية وتضامنهم الاجتماعي والسياسي . وكانت اخر تلك الصرعات الثقافية التي ظهرت عندنا في العراق هى صرعة (حسين سعدون) .
حسين سعدون هو نجفي الاصل يعمل بائع كتب في شارع المتنبي , ويبدو ان هذه المهنة قد ساهمت بصورة كبيرة في اطلاعه الهائل جدا على المؤلفات التاريخية والفكرية والسياسية والاجتماعية , وبما انه يمتلك ذاكرة وصفت بالاسطورية , فان له القدرة العجيبة بعرض اراء تلك الكتب واسماء مؤلفيها وتاريخ طبعها ومضمونها باختصار , ومن ثم عرضها ضمن فديوات محددة على مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك واليوتوب والتك توك وغيرها , وبالطبع ان اغلب تلك المؤلفات هى غربية واوربية , لانها تحوي القيمة المعرفية الاولى في العالم .
ومن خلال اطلاعي خلال الاشهر الاخيرة التي انتشرت فيها ظاهرة حسين سعدون على الفديوات التي يعرضها في الفيس بوك او التكتك او الفضائيات وغيرها , والتي ربما بلغت المئات منها , وجدت ظاهرة غريبة عند حسين سعدون لاتوجد عند تلك الشخصيات والصرعات التي ذكرناها سابقا , وهى (ان حسين سعدون ليس له اي رأي شخصي بالقضية التي يطرحها او الكتب التي يعرضها) , فهو ليس سوى (رام) للمعلومات والاراء والافكار او (سي دي) للكتب والمؤلفات يستعرض مضمونها دون نقد او اضافة او تحقيق عن مدى صحتها او مطابقتها للواقع , او غير ذلك من الامور المعرفية التقليدية . وقد تعمدت ان اتابع تلك المقابلات والفديوات من جديد , ولم اجد اي رأي شخصي له (عدا رأيه الشخصي في مدح الاماراتيين ابان دعوته له لزيارتها , وادعى ان نظرية علي الوردي حول صراع البداوة والحضارة لاتنطبق عليهم , فهم تجاوزوا البداوة واصبحوا متحضرين !! وضرب مثلا عن ذلك التزامهم بقوانين السير رغم عدم وجود رجال مرور , ثم ظهر احدهم لاحقا ساخرا منه بان السيبب هو وجود الكاميرات وليس التحضر) , واعتبر البعض هذا الرأي تملقا للامارات والخليج , وهو بالطبع ليس بالمستغرب , فالمثقفين والادباء والفنانين العراقيين ترنو اعينهم للامارات وجوائزها المالية وتغطيتها الاعلامية الرفيعة . سيما من كانت له مواقف ضد الموروث الديني الشيعي مثل احمد القبنجي او معارضا ضمنيا او صريحا للدولة العراقية الجديدة مثل رشيد الخنون والروائي احمد السعداوي . فتخيل الامر لو ان حسين سعدون واحمد السعداوي واحمد القبنجي دعما للدولة العراقية بعد 2003 والعملية السياسية , فهل ان الامارات تدعوهم لها ؟؟ الجواب لايحتاج الى تفكير عميق .
ان عدم وجود راي خاص او رؤية شخصية عند المثقفين والكتاب العراقيين في الاحداث التي يعاصرونها والكتب التي يعرضونها هى ظاهرة منتشرة بصورة كبيرة جدا , فالاغلبية تعتمد التبعية المطلقة للاعلام , او النسق الثقافي او الخطاب السياسي والثقافي والخضوع للشارع والراي العام الشعبوي , ولايمكنها الخروج عن تلك الانساق الثقافية العراقية , لانها ستفقد حضورها وسمعتها وشعبيتها في تلك الاوساط .
ادعو الاخ حسين سعدون مخلصا ان لايكتفي بذكر الاراء والمعلومات والافكار او استعراض الكتب ومضمونها دون تحقيق او نقد او رأي او اضافة , لان ذلك يعد اختلالا كبيرا وترويجا لمفهوم التبعية والتلقين السائد في مدارسنا وجامعاتنا الذي رسخه المنظر القومي المعروف ساطع الحصري , , وهو مانريد او ندعو للتخلص منه . ولا اريد ان اذكر جميع تلك الفديوات والامثلة , ولكن يحضرني الان عرضه لكتاب فراس السواح (دين الانسان) الذي اكد فيه ان هناك ثلاث انواع من التدين وهى (الفردي والجماعي والمؤسساتي) , وامتدح السواح التدين الفردي , فيما انتقد التدين الجماعي والمؤسساتي . وبالطبع انساق حسين سعدون لرأي السواح وذكره كما هو دون نقد او اضافة , وخاصة في مجال ربطه بالشيعة , على اعتبار ان عندهم مؤسسات دينية وطقوس حسينية جماعية , الا ان حسين سعدون لم يكلف نفسه التفكير بان هناك تدينا اخر انتشر بالعراق وقتل مئات الالاف من العراقيين وهو (التدين الارهابي) او (التدين العنيف او الاصولي او الجهادي او السلفي) , ولا اعتقد ان حسين سعدون لايعتبرهم متدينين , او يجعلهم ضمن خانة العلمانيين , وبالطبع كان متوقعا من الاخ حسين سعدون عدم ذكره الارهاب واعتباره من ضمن التدين , لانه يخالف منهجه بعدم ذكر اي رأي شخصي له بالكتب التي يعرضها , فهو مجرد ناقل ومستعرض لها اولا . وثانيا هو تعمد عدم ذكره للارهاب – حاله حال اغلب الكتاب والمثقفين العراقيين الشيعة من المخصيين والدونية حتى لايتهم بالطائفية او الانحياز لطائفته , ويفقد بالتالي حضوره وسمعته باعتباره رجلا معتدلا وتنويريا علمانيا (بحسب الفهم العراقي الخاطىء لها) .
ان ظاهرة حسين سعدون ستنزوي مثلما انزوت ظاهرة العسر والحيدري والجبران والقبنجي والكاتب قبلها , (ولانعرف كيف برزت وكيف تلاشت) , وستبرز غيرها ظواهر اخرى تختلف بالمنهج ولكنها تتشابه بالمضمون , وهو مهاجمة الموروث الديني الشيعي خاصة , والتعمية عن الموروث الديني السني الذي انتج الاستبداد والارهاب , وترسيخ طاقة الحقد المنتشرة عند الجماعة الشيعية على هويتها ومذهبها نحو الداخل اكثر واكثر , كما بينت في دراستي (ظاهرة الحقد في المجتمع العراقي) .
وختاما نقول : ان حسين سعدون هو مثقف ولكنه بالاخير (مثقف على الطريقة العراقية) أي انه لايختلف عن السديم والقطيع الثقافي الرائج في العراق , ولم يخرج عن انساقه الثقافية السائدة , كما بينت في دراستي (نظرية النسق العراقي) , وسيخضع للمحرمات (التاوبات) المنتشرة في العراق حاليا . فلاتتوقع منه ان يذكر الاستبداد البعثي السابق وايديولوجيته القومية والطائفية الاقصائية ورموزه الاجرامية , بدعوى ان ذلك من الماضي , فيما انه سيذكر جميع عصور وعهود الماضي الاخر – عدا البعثي منه – بالطبع , لانه سيخشى الاعلام العربي والخليجي والعراقي الفاعل والمؤثر على الرأي العام الشعبي والسوقي . ولاتتوقع منه ان يهاجم الارهاب السني الذي قتل مئات الالاف من العراقيين الشيعة , وتفكيك تصوراته الدينية والاجتماعية ومقولاته السياسية , لانه سيخشى ان يتهم بالطائفية من القطيع الثقافي العراقي اليساري والبعثي الفاعل . ولاتتوقع منه ان يهاجم الانظمة العربية والخليجية الاستبدادية – ان لم يكن يمدحها – لانه سيخشى التهميش والتلاشي والانزواء مبكرا , وبالتالي ضياع البريق الاعلامي والدعم المالي السري والسفرات المدفوعة الثمن للامارات والرياض . ولاتتوقع منه ان يذكر الطائفية عند اهل السنة في العراق وسلوكياتهم الاستبدادية والارهابية وتصرفاتهم الاستعلائية وحاضنتهم البعثية , لانه هذا يعد من (التابو) الاول المحرم في العراق , وكما قال حسن العلوي (ان الشيعي العراقي يتحمل ان يتهم بالالحاد والاباحية , ولكنه يرتعش رعبا عندما تتهمه بالطائفية) , لذا تجد في اراء حسين سعدون ذكره للطائفية ضمن التصور الديني والمذهبي , وعدم الاطناب بها سياسيا , بدعوى انها من الموروثات الاسلامية , فيما كلنا يعرف ان الطائفية بالعراق يغلب عليها الجانب السياسي وليس الديني , واما اذا تنازل حسين سعدون وذكر الطائفية في العراق اليوم , فانه لايذكر الارهاب والقتل على الهوية للاغلبية الشيعية في العراق بعد السقوط عام 2003 والتفجيرات الانتحارية والهجمات الداعشية , ولايذكر التخوين والتكفير والتشويه والتحريض على الشيعة , الذي قام به العرب والاعلام الخليجي والسلفية السعودية وغيرها – حاشا لله ان يفعل ذلك – وانما استند الى تصريح صغير لايتجاوز بضع كلمات قاله رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي بانه (شيعي اولا) , فاعتبر ذلك بالتالي ان الحكومة العراقية هى طائفية , او صنعت الطائفية , او ان مصدرها الحالي هو (شيعي) . انظر وتأمل الهوان والتخاذل والجبن وخيانة القضية والحقيقة . يخشى الواقع المعاش والاحداث الاجرامية والاف الاشخاص الذين قتلوا لدواعي طائفية واضحة وراء ظهره , ويذهب الى تصريح صغير لمسؤل شيعي قاله تحت ظروف معينة او ضمن سلوكيات غبية , ويعتمده كحجة لظاهرة خطيرة ومهوله القت الرعب بقلوب الناس . وهذا بالطبع ليس بالمستغرب على المثقفين العراقيين , فاكثر من 90% منهم لم يهاجموا او يذكروا الارهاب الذي ضرب البلاد طيلة (20) عاما , وانما هاجسهم الاساس والحقل الثقافي الذي عملوا عليه هو فقط (الشيعة) . يستفزهم منظر الناس المسالمين السائرين للزيارة الاربعينية الى كربلاء , ولكن لاتستفزهم الاشلاء المقطعة للنساء والاطفال في شوارع بغداد من الهجمات الارهابية الانتحارية الطائفية في الاحياء الشيعية التي يقوم بها العرب والسنة .واخر الادلة عندنا ماذكره الدكتور قاسم حسين صالح التابع لجماعة البرزاني (وهو ايضا شيعي من الناصرية) في مقال يمدح بها جريدة المدى الكردية (تصدر بالعربية في بغداد) والعراب فخري كريم بقوله ((والأوجع والأفجع ان من تولى السلطة في (جمهورية 2003) كانوا افضع واشنع من حكام جمهورية الخوف التي سقطت في 9 نيسان. وكان من بين اقبح ما حصل( بعد استفرادهم بالثروة وافقارهم 13 مليون عراقي) انهم وظفوا الحاضر من اجل الماضي واشاعوا اقبح انواع التخلف واسخفها حتى اوصلوا العراقي الى ان يقتل اخاه العراقي لمجرد أن اسمه حيدر او عمر او رزكار! فأشاعوا الخوف بين العراقيين واضطرتهم الى ان يتوزعوا على مرجعيات اجتماعية وقومية ودينية..وعداوات واحتراب راح ضحيتها عشرات ان لم يكن مئات الآلاف!)) وهذا النص الذي ذكره الدكتور صالح احتوى كذبتين : الاولى : ان الحكم بعد السقوط 2003 هو اسوء من الحكم البعثي الصدامي . وهو بالطبع تدليس وكذب وتضليل فلايوجد بالتاريخ حكم اسوء من الحكم البعثي الصدامي الديكتاتوري , وليس بالمستغرب ان يخرج هذا القول من الدكتور صالح , فقد كان تابعا للنظام البعثي ويكتب في صحفه ويعمل في مؤسساته الاعلامية , أي انه كان مدجنا في ذلك النظام البعثي الاجرامي والطائفي , فيما ان هذا النظام الديمقراطي والتعددي جعله حرا , وينتقد براحته وهو في بغداد , ويكرم من هذا النظام الذي اعتبره سيئا , وجعله يعيش بحرية وكرامه , ولكن متى كان للعبيد اهتمام بالحرية الكرامة ؟؟ والثاني : اعتبر الارهاب بعد السقوط 2003 هو بسبب الحكام الذين جعلوا العراقي يقتل اخاه العراقي . وهو ايضا كذب وتدليس وتضليل واضح يعرفه حتى الطفل الصغير بالعراق , فهو اولا لم يذكر حتى كلمة (الارهاب) بهذا النص , وانما انا ذكرتها , فكيف ننتظر منه ان يذكر الحقيقة ويقول ان الارهاب السني هو من قام بهذا القتل والتهجير والتكفير ؟؟ فيما ان التلميح واضح ايضا بقصد ان الشيعة هم من قاموا بذلك , باعتبارهم هم الحكام , (فهل نتوقع منه ان يقصد البرزاني؟؟) . وهذا نموذج لمن يتهمنا بالتزييف وعدم ذكر الحقيقة . وهذا يدل ايضا ان حسين سعدون لم يخرج عن النسق الثقافي العراقي , وعن السديم الثقافي الذي يتحرج عن ذكر الارهاب واسسه الاجتماعية والطائفية والسياسية .
بغض النظر عن توجهات حسين سعدون إلا أنه يمثل ظاهرة ثقافية المفروض أن تنتشر ويروج لها فكرتها قائمة على نشر ثقافة الاطلاع والبحث والتأمل الأمر الذي لا يريده البعض لتبقى التبعيه وتسويق ثقافة الخرافة والجهل وعجبا كل العجب أن يسمى البحث والاطلاع صرعة بينما تسويق ثقافة القطيع والانحناء وتقديس التراث وعدم السؤال يسمى منطق وعلم وتقدم والاعجب أن تستمر الأمم بالانحناء والتعبئه لأشخاص معدودين وفق صيغ مقدسه فهم من يرسمون المشهد الثقافي وهم من يخطط لمستقبل الأمة مخالفتهم فيها جفاء وعصيان …..نعم فكل من يريد أن يفتح عقل الأمة يجابه وبأشد انواع المجابهات …..مع والعلم ومن طريف القول إن أصحاب الصرعات لايلزمون أحد ولايجبرونه على اتباعهم عكس أصحاب القداسة