الكاتب : عبد الخالق حسين
بعد نشر مقالي الأخير الموسوم: (متى يتخلص العراق من الهيمنة الإيرانية؟)(1)، استلمتُ عدداً من التعليقات من القراء الأفاضل، منها ضمن مجموعات النقاش، أو برسائل الإيميل، أو على مواقع التواصل الاجتماعي. وكالعادة، أغلبها مؤيدة للمضمون، ومنها معارضة ولأسباب مختلفة. وقد رأيتُ من المفيد تلخيص ما دار من مناظرات في مقال لتعميم الفائدة ودون ذكر الأسماء، ما عدا تعليق الأخ الكاتب عبد الرضا حمد جاسم في صحيفة المثقف الغراء، لأنه عبارة عن خلاصة معظم ما ورد في تعليقات المعارضين الآخرين، ونشر ردي عليه بشكل موجز. وأغلبها بأسلوب هادئ، ما عدا القليل منها متشنجة، على سبيل المثال لا الحصر، بعث لي أحد الأخوة رسالة إيميل، يدافع عن التدخل الإيراني، قائمة من نقاط الاعتراض على مقالي جاء فيها متهكماً: “نتخلص من التدخل الإيراني عندما نتخلص من أقلامٍ غير مُنصفة كقلمك”، ويضيف: “وسوف أترك التعليق حول(حبيبتك)أمريكا وديمقراطيتها الترامبية وكيف أنَّها أينما وُجِدت، وجِدت المصائب.”
نسي صاحبنا، سامحه الله، أن إيران أيضاً أينما وُجدت وُجدت المصائب. أنظر إلى حال اليمن ولبنان وسوريا، وكذلك العراق. أكتفي هنا بالقول للأخ الفاضل أن ولائنا يجب أن يكون للوطن أولاً، قبل الولاءات الأخرى، وأدعوه لقراءة مقال الدكتور حميد الكفائي الموسوم: (المذهب ليس بديلا عن الوطن!)(2).
كذلك الملاحظ أن أتباع إيران يعتبرون التدخل الإيراني واجب ديني مقدس، وحتى أطلقوا صفة القداسة على المليشيات الولائية (أي الموالية لإيران)، فالولاء لإيران عندهم هو دعم للكرامة والسيادة الوطنية، ومعارضة التدخل الإيراني في الشأن العراقي معناه العمالة لأمريكا وإسرائيل.
وتلافياً للإطالة، رأيت من الأفضل تقسيم المقال إلى حلقتين. الأولى أناقش فيها اعتراضات الأخوة في مجموعة النقاش. والثانية في الرد على تعليق الأخ الكاتب الأستاذ عبد الرضا حمد جاسم.
***
المؤسف أن ركز معظم الأخوة المشاركين في مجموعة النقاش على نقطة واحدة فقط، ذكرتها في مقدمة المقال، وهي عن نجاح الديمقراطية في الهند رغم أن شعبها يتكون من أكثر من 2000 أثنية ودينية، وكون الهند في نظر العالم أكبر دولة ديمقراطية متماسكة، فتجنبوا التعليق على جوهر الموضوع وهو التدخل الإيراني في الشأن العراقي وصراع الدموي بين المكونات العراقية. إذ جاؤوا بالكثير من الأمثلة من صراعات بين المسلمين والهندوس … الخ، وبذلك اعتبروا الهند في نظرهم ليست دولة ديمقراطية ولا متماسكة…!!
فنحن عندما نصف الهند بالديمقراطية والاستقرار السياسي، فهذا لا يعني أنها أصبحت دولة (المدينة الفاضلة). فالمدن الفاضلة لا وجود لها إلا في أحلام ومخيلة الفلاسفة، لأن القضية نسبية، خاصة إذا ما عرفنا أن تعداد الشعب الهندي اليوم نحو 1.366 مليار نسمة، ومساحتها شاسعة (شبه قارة)، لذا فليس من المتوقع أنها خلت مائة بالمائة من مشاكل وصدامات بين حين وآخر، بين المتشددين من هذه المكونات. فهذه المشاكل لا تخلو منها معظم دول العالم، الديمقراطية والمستبدة. ولكن رغم كل ما حصل في الهند من نزاعات بين المسلمين والهندوس ما بعد الاستقلال وإلى اليوم، فمازالت الهند تعتبر مثالاً للاستقرار السياسي ونجاح نظام العلمانية الديمقراطية، وهي أفضل من باكستان الإسلامية عشرات المرات. فباكستان رغم انفصالها عن الهند لأسباب دينية، إلا إنها لم تسلم من صراعات دموية مذهبية بين السنة والشيعة، وحتى بين الحكومة والمنظمات الإسلامية الإرهابية.
وقد قرأنا كيف كان الإنكليز يثيرون الصراعات الدموية بين الهندوس والمسلمين، فإذا ما حصل نوع من الاستقرار في مكان ما في الهند، يأتون بمسلم ليذبح بقرة في سوق مزدحم ليشتبك الهندوس مع المسلمين في مجازر دموية.
فالشعب الهندي بمختلف مكوناته بصورة عامة مسالم بطبيعته. وأنا أطلعت على آراء بعض المسلمين الهنود، فوجدتهم يفضلون كونهم مواطنين في الهند على أن يكونوا في باكستان. فإثناء دراستي في كلية طب الموصل كان عندنا أستاذ هندي مسلم في غاية الطيبة، سألناه مرة عن وضع المسلمين في الهند، فامتدح الوضع حتى أنه قال أن المسلمين رغم أنهم أقلية في الهند إلا إن هذه الأقلية هي أكثر من أكثرية باكستان المسلمة (في الستينات من القرن الماضي). وخلال عملي كطبيب جراح في بريطانيا، التقيت بالعديد من الأطباء الهنود المسلمين من كشمير، وسألتهم فيما لو يفضلون ضم كشمير إلى باكستان، فأكدوا أنهم يفضلون بقاءهم مع الهند على باكستان. والسبب هو نجاح النظام العلماني الديمقراطي في الهند، وفشله في باكستان حيث الانقلابات العسكرية وحكم الجنرالات، والتعصب الديني…الخ. وشتان ما بين الهند و باكستان في جميع المجالات: السياسية، والاجتماعية والاقتصادية والعلمية وغيرها حيث المحصلة في صالح الهند. والجدير بالذكر أن كلمة (باكستان) تعني (الأرض الطاهرة) في إشارة استفزازية إلى أن بقية الهند غير طاهرة!
ولكن يبدو أن لكل عراقي مفهومه الخاص عن الديمقراطية، ويريدها وفق مقاساته. فالحكومة الديمقراطية كما وصفها ونستن تشرتشل ليست الحكومة الفاضلة أو المثالية، ولكن لحد الآن لا توجد حكومة أفضل من الحكومة الديمقراطية.
كذلك يجدر بنا القول، أن أهم سبب لما يجري من صراعات دموية في العالم اليوم هو تسييس الإسلام. فأغلب الصدامات الدينية في الهند وبورما، والفلبين وباكستان، والشيشان، والصين والبلاد العربية والإسلامية من بينها العراق، وغيرها هو الإسلام السياسي، الذي راح يفرِّخ التنظيمات التكفيرية مثل طالبان، والقاعدة وداعش، ولشكر طيبة، وبكو حرام وغيرها كثير، وبتمويل من السعودية والدول الخليجية الأخرى ونشر أيديولوجيتها الوهابية التكفيرية.
فالإسلام السياسي لا ينشر الإرهاب في الهند فقط، وهم فئة قليلة لا يمثلون المسلمين في الهند إطلاقاً، بل نشروا القتل في مجتمعاتهم الإسلامية أيضاً ضد من لا يوافقهم على أيديولوجيتهم التكفيرية. وهناك دراسة تؤكد أن أكثر من 80% من ضحايا الإرهاب الإسلامي هم من المسلمين، ولا علاقة له بالاختلاف العرقي أو الديني أو المذهبي، بل هو سياسي، وإنما يوظفون الدين والمذهب لتعبئة الجماهير وتضليلها. وعلى سبيل المثال، الشعب الصومالي متجانس عرقياً ودينياً ومذهبياً، ولكن مع ذلك تفتت دولة الصومال لثلاثين سنة بسبب الإسلام السياسي المتمثل فيما يسمى بـ(محاكم الشباب الإسلامية)، الذين ينشرون القتل العشوائي إلى اليوم. نفس الكلام ينطبق على الجزائر، حيث قتل المتطرفون الإسلاميون نحو ربع مليون جزائري في التسعينات من القرن الماضي، و القاتل والمقتول من دين واحد ومذهب واحد.
فالإسلام السياسي هو ليس العدو اللدود للحضارة والإنسانية فحسب، بل هو أيضاً العدو اللدود للإسلام كدين حنيف، دين السلام والمحبة والتسامح، ومكارم الأخلاق كما نقرأ عنه في الكتب الدينية. ولكن إجرام الإسلاميين السياسيين التكفيريين ومليشياتهم الولائية المسلحة في العراق هي التي أباحت قتل الأبرياء من المتظاهرين السلميين ببنادق القناصة، وجعلت الكثير من الشباب ينفرون من الدين.
يتبع
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
ــــــــــ
روابط ذات صلة
1- د. عبد الخالق حسين: متى يتخلص العراق من الهيمنة الإيرانية؟
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=710544
2- د. حميد الكفائي: المذهب ليس بديلا عن الوطن!
https://akhbaar.org/home/2021/2/280615.html