ديسمبر 26, 2024
33657360_1643723009074985_6930543139325214720_n

الكاتب : سلمان رشيد الهلالي

الدولة في العراق المعاصر (التأسيس – الفشل – التداعيات – الحلول) (بمناسبة مرور 100 عام على تاسيس الدولة العراقية الحديثة 1921 – 2021) .
(من ابرز خصائص العراقيين انهم عندما ينسون ماضيهم .. يعيدون خلقه) وليم بولك – كتاب (لكي نفهم العراق)
يستذكر العراقيون هذا العام (2021) مرور (100) عام على تاسيس الدولة العراقية الحديثة . حيث اعتبر يوم تنصيب الامير فيصل بن الحسين 23 / 8 / 1921 ملكا على العراق في ساحة القشلة ببغداد هو التاريخ الرسمي لتاسيس الدولة . ففي مثل هذا اليوم (23 / 8 ) وقبل (100) عام توج الامير فيصل بن الحسين (1883 – 1933) ملكا على العراق (1921 – 1933) , وهو ما اعتبر عند جميع الباحثين والمؤرخين التاريخ الواقعي لتاسيس الدولة العراقية الحديثة . وقد اختار الامير فيصل هذا اليوم لانه يصادف يوم (18 ذي الحجة) يوم الغدير عن الشيعة , وهو ما اعتبر رسالة ايجابية من قبل الامير للاغلبية العربية في البلاد .
وصل الامير فيصل برفقة المندوب السامي السير برسي كوكس وقائد الجيش البريطاني في العراق الجنرال هالون الى مقر الحكومة في ساحة القشلة في بغداد (جانب الرصافة) (قرب شارع المتنبي حاليا) في الساعة السادسة صباحا بحضور جمع كبير من الشخصيات العشائرية والحكومية . وقد اصطف على جانبي الطريق (200) جندي بريطاني وفرقة موسيقية عزفت النشيد الملكي البريطاني .!!! وجلس الامير على منصة خشبية فرشت بالسجاد وهو يرتدي اللباس العسكري , وجلس على يمينه السير برسي كوكس وعلى شماله الجنرال هالون والى جانبه محمود النقيب ابن رئيس الوزراء المعين من قبل المندوب السامي برسي كوكس عبد الرحمن النقيب الكيلاني الذي لم يحضر بسبب سوء حالته الصحية . وقد بدا الاحتفال بقراءة قرار مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ (11/7/1921) المناداة بسمو الامير فيصل ملكا على العراق على ان تكون حكومته دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون . وبعدها قام محمود النقيب بقراءة الدعاء الخاص بالتتويج , ثم وقف الملك فيصل والقى خطابه باللغة العربية الفصيحة , وبعدها اطلقت المدافع تحية التتويج , ثم قدم برسي كوكس برقية الملك جورج الخاصة بتهنئة الملك فيصل, وانتهى الاحتفال سريعا . ويبدو ان حرارة الجو في شهر اب في العراق دورها في اختيار الوقت المبكر للاحتفال واختصاره .
مرت الدولة بتحولات سياسية ومنعطفات ايديولوجية وانقسامات داخلية وصراعات حزبية واشكالات دولية خطيرة , نتج عنها الدخول في اتون الاحتراب والفتن والانقلابات والانتفاضات والحروب الاهلية وتلاشي مفهوم المواطنة وفقدان السلم الاهلي ,ادى بالاخير الى عرض مفهوم الدولة نفسه على بساط البحث وطرح الاسئلة المختصة بهذا الشان : هل تبلور مفهوم الدولة في العراق ؟ هل نجح مشروع الدولة في الاندماج الوطني وبناء الامة العراقية الموحدة ؟ هل الدولة في العراق صناعة بريطانية ام مطالبات محلية ؟ هل ماحصل في البلاد هو تشكيل سلطة من الاقلية السنية ام بناء الدولة الجامعة ؟ هل ابتلعت تلك السلطة الدولة وهيمنت على مقدراتها السياسية والاقتصادية والثقافية والامنية والتعليمية ؟ هل ان ماحصل عام 2003 سقوط للدولة ام للسلطة الحاكمة ؟ هل يمكن تاسيس دولة في العراق ام استحالة ذلك ؟ هل ماحصل بعد 2003 من الحرب الاهلية والاحتراب الاثني والانقسام الاجتماعي والصراع الطائفي هو تداعيات لفشل الدولة العراقية التي تاسست عام 1921 ؟ وماهى اهم اسباب فشل مشروع الدولة في العراق ؟ وماهو النظام السياسي الاصلح لاعادة بناء الدولة وتشكيل الامه العراقية الجامعة ؟ هل الديمقراطية والفيدرالية هى الاصلح لمشروع الدولة ام المركزية والديكتاتورية ؟ هل الديمقراطية والتعددية تفشل في تاسيس الدولة في العراق ؟ واذا تاكدنا من فشل العراق البريطاني الذي تاسس عام 1921 فهل ان العراق الامريكي الذي تاسس عام 2003 مؤكد فشله ايضا ؟ هل توجد امكانية لتاسيس العراق العراقي بدل العراق البريطاني والامريكي ؟ هل مفهوم الدولة نمط غريب على الجسم العراقي ؟ لماذا لايستطيع العراقيون تاسيس دولة بمفردهم ؟ هل استسلم العراقيون لهذا النمط من الفشل المتراكم لمفهوم الدولة ولم يطرحوا الحلول الجذرية والجريئة لاصلاحها ؟ هل ان الامة العراقية امه متخيلة بحسب منهجية اندرسن في كتابه الجماعات المتخيلة ام امة اصلية وتاريخية من الازل؟ هل ان التركيز على مفهوم القومية على حساب الوطنية ساهم بفشل مشروع الدولة ؟ هل العراق دولة يبحث عن امة ام امه تبحث عن دولة ام هو بالاصل فاقد الاثنين ؟
اولا – مفهوم الدوله واشكالية تاسيسها في العراق (التاسيس).
على الرغم من ان مفهوم الدولة state يمثل المحور الاساس في علم السياسة ، الا ان الاراء قد تعددت بشأن تعريف هذا المفهوم حتى وصلت الى اكثر من (145) تعريفا ، توزعت بحسب الاتجاهات الفكرية والايديولوجية والسياسية للباحثين والمنظرين المختصين، الا ان التعريف الاكثر قبولا وانتشارا للدوله هو انها (كيان سياسي وقانوني منظم ، يضم مجموعة من الافراد الذين يقيمون بصفة دائمة في اقليم محدد المعالم ، مستقل عن اي سلطان خارجي، ويخضعون لتنظيم سياسي وقانوني واجتماعي معين تفرضه سلطة عليا، تتولى واجبات الحماية والرعاية لتحقيق العدالة والمنفعة والحماية لابناء المجتمع ,وتتمتع بحق استخدام القوة عند الضرورة) . لكن المهم التاكيد على ان السلطة اقدم من الدولة ، فالدولة كمفهوم حديث نتاج عصر النهضة والتنوير الاوربي، فيما ان السلطة نمط قديم من الحكم , قدم البشرية , قائم على الارغام والقسر. وقد حدد الباحثون المقومات او الاركان الاساسية لقيام الدولة وهي (الارض، الشعب، السيادة، الحكومة، الحدود الجغرافية). فيما ارجعها جوزيف شتراير الى اربع معايير رئيسة هي:(الديمومة في المكان والزمان، قيام مؤسسات سياسية موضوعية، ديمومة المؤسسات السياسية، الاحساس بالولاء والانتماء).
اما النظريات التي تعرضت لتفسير نشأة الدولة وسلطتها ، فيمكن حصرها ضمن اصول واسس فلسفية ودينية واجتماعية وتاريخية اربعه وهي :
1. النظريات الثيوقراطية (الدينية) : والتي ترجع نشأة الدولة ومصدر السلطة فيها الى الله. (اي الى الاديان والمذاهب والقائمين عليها والمنادين بها).
2. النظريات الاجتماعية : والتي ترجع نشأة الدولة الى فكرة القوى الاجتماعية او تطور الاسرة والقبيله.
3. النظريات التاريخية : والتي ترجع نشأة الدولة الى مجموعة عوامل تتفاعل مع مرور الزمن .
4. النظريات التعاقدية (الديمقراطية): والتي ترجع نشأة الدولة ومصدر السلطة الى الارادة العامة للامة .
لقد تبلورت النظريات الثلاث الاولى التي تصدت لتفسير نشأة الدولة على الارض العراقية خلال الحقبة او الادارة العثمانية 1534–1917، فالدولة كانت ثيوقراطية تستند في حكمها الى الدين الاسلامي، والسلطان هو ظل الله في الارض. وهي في الوقت نفسه سلطة تقليدية تعتمد على حكم اسرة ال عثمان المالكة . فضلا عن ذلك انها كانت سلطة تاريخية ، اي تبلورت ضمن اطار او سياق تاريخي للسلسلة التركية الحاكمة في البلاد، التي بدأت بالسيطرة على مقدرات الخلافة العباسية ابتداءا من السلاجقة ثم المغول – الذين اسقطوا الخلافة سنة 1258 – ثم الجلائريون ، فدولة الخروف الاسود ، فالخروف الابيض ، ثم تبعها الدولة الصفوية التي تبنت المذهب الشيعي – رغم اصولها التركية ايضا- وانتهاءا بالدولة العثمانية. وهذا يعني ان الهيمنة التركية بفروعها المختلفة، قد استمرت في سيطرتها وادارتها ما يقارب الالف عام تقريبا من التاريخ الاسلامي، ومن اجل ذلك، لم تشكل الدولة العراقية الحديثة التي تاسست عام 1921 قطيعة تامة مع النسق العثماني السائد –كما سنرى– بسبب رسوخ وعمق النظم والثقافات والمفاهيم التي ادرجتها في العقلية العراقية والمؤسسات السياسية التي تبلورت مع الدولة لاحقا، اذ استمرت في صور وانماط وسياسات هيمنت على تاريخ الدولة في القرن العشرين، رغم الادعاء بان هذا التاسيس قد تم وفق مفهوم غربي / بريطاني حديث، قائم على التعاقد الاجتماعي الدستوري بين افراد المجتمع والسلطة السياسية. وبهذا الصدد ذكر احد الباحثين: ان الدولة الحديثة في العراق قامت اساسا من خلال عمليتين مزدوجتين. الاولى: التطور الطبيعي لميراث الدولة العثمانية المستبدة القائمة على القسر والطاعة والارغام وحرية الحاكم في التصرف بمقدرات الدولة. والثانية: استعارة بعض القواعد والسياقات والممارسات الغربية التي أُدرجت في نمط الدولة الحديثة، التي كان من شانها وضع بعض القيود الشكلية على الحرية المطلقة للحاكم.
انقسمت اراء الباحثين حول ماهية واصالة تاسيس الدولة في العراق عام 1921 الى قسمين :
القسم الاول : واعتبرها دولة اصطناعية Artificil state، او دولة صنعها البريطانيون وفق تسويات خاصة بهم بدأت باتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 وانتهاءا بمؤتمر القاهرة في اذار 1921، ولا علاقة للعراقيين بهذا التاسيس من قريب او بعيد، على اعتبار ان هذه الدولة تفتقد للتطور التاريخي والجذور المحلية والمقومات الاساسية التقليدية كالشعب الواحد والامة المتلاحمة عبر صيرورة التاريخ والحدود الطبيعية الاصلية، او السيادة والاستقلال الحقيقي والنخبة الحاكمة التي تعكس التوجهات السياسية والثقافية السائدة في المجتمع. وقد ذكرت هذا الاصطلاح صراحة رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر عام 1993 بالقول (ان العراق دولة مصطنعة ، ولا فرق بينه وبين يوغسلافيا ، وان شعبه مكون من ثلاثة قوميات ، وهو بلد لا يسوده التجانس) . وبهذا الصدد اكد الكاتب اللبناني ايليا حريق (ان الدول المعاصرة في الهلال الخصيب – عدا لبنان – انشأت على انقاض السلطة العثمانية وفقا لقرارات خارجية) . وانقسم اتباع هذا الراي في طرحهم الى جانبين:
1 – انتقادي ساخر: من قبيل (ان العراق لم يصنعه الله هكذا ، بل صنعه ونستون تشرشل W.Churchill) (لقد كان العراق من صنع تشرشل الذي خطرت له فكرة جنونية ، وهي الجمع بين حقلي نفط متباعدين وهما كركوك والموصل، وذلك بدمج ثلاث فئات من الناس وهم الاكراد والسنة والشيعة، وربما كانت هذه الولادة الصعبة وغير المتوازنة هي التي جعلت من تاريخ العراق الحديث سلسلة متواصلة من اعمال العنف)، و (ان العراق لا يستطيع الطيران، لانه طائر بثلاث اجنحة) حتى ان جورج براودي في كتابه (العراق الجديد) اطلق على مؤتمر القاهرة الذي عقد في اذار 1921 برعاية وزير المستعمرات تشرشل، الذي تقرر فيه تشكيل نظام حكم ملكي تحت قيادة الامير فيصل بن الحسين (مؤتمر الاربعين حرامي). واما الشاعر الرصافي في كتابه (الرسالة العراقية في السياسة والدين والاجتماع) فقد اعتبر العراق مجرد وليد غير شرعي انجبه الانكليز (من البغاء السياسي الذي حصل في الحرب العامة , قد ولد على يد الانكليز مولود يسمى الدولة العراقية) .
2 – انتقادي موضوعي : ويتبع اراء ذكرت ان العراق لم يكن له وجود قبل تاسيس الدولة (وان التقسيم السائد في القرن التاسع عشر للبلاد الى ثلاث ولايات عثمانية، انما يؤكد نمط الحياة المختلف للاقاليم الرئيسية لتلك البلاد. فالموصل تتطلع نحو تركيا، وبغداد نحو ايران، والبصرة جنوبا نحو الخليج العربي والهند. بل كان المألوف تشخيص الافراد بان هذا بغدادي وهذا بصراوي وهذا موصلي بدلا من هذا عراقي، لان كلمة عراقي ليس لها معنى محدد … ان مصطلح العراقي استعمل في اوائل القرن العشرين)، فيما اكد الكاتب جاريث ستانسفيلد بان البريطانيين كانوا اكبر قوة اثرت في تشكيل العراق الحديث ، من حيث المساهمة في ابتكار الدولة ، وتحديد تفاصيل الحكومة العراقية الحديثة من جانب ، وارساء المؤسسات الدستورية ورسم الحدود الجغرافية من جانب اخر، اذ لولا الاهتمام الذي ابدته بريطانيا بالمنطقة لما كان من المحتمل ظهور العراق كما نعرفه اليوم على الخريطة، وبعد استعراضه التطور التاريخي للدولة العراقية الحديثة خلال القرن العشرين والاحتراب الاثني والطائفي في البلاد والانقسام الاجتماعي والسياسي، توصل هذا الكاتب الغربي الى هذه النتيجة (انه منذ البداية ، كان عراق ما بعد عام 1920 .. مجرد خدعة) . وقد تهكم الرصافي على هذا التاسيس بالقول (انها ثمرة البغاء السياسي, الانكليزي ابوها, والثوره العراقيه امها ). فيما اكدت الكاتبه الامريكيه (ليورا لوكيتيز L.Luckettz) في اطروحتها للدكتوراه في جامعة هارفارد (العراق والبحث عن الهوية الوطنية) ان بريطانيا وجدت نفسها بعد الحرب العالمية الاولى مسيطرة على ثلاث ولايات عثمانية دون ان يكون لها سياسة محددة حول كيفية تحديد مستقبل تلك الولايات، مما ادى بها الى تبديل التخويل الممنوح لها حسب قرار عصبة الامم في مؤتمر سان ريمو 1920 ذي التبعات الثقيلة بشكل اقل كلفة… فتحركت بهذا الصدد على مسارين (الاول) تكوين الدولة، و(الثاني) عقد الاتفاقيات. فأوجدت هيمنة سنية مؤسساتية على المجموعات العرقية والطائفية واللغوية المختلفة في المناطق الجغرافية الثلاث التي لها خصوصيتها ، وتم توحيدها بشكل اصطناعي بهدف خلق مجتمع عراقي موحد ومتجانس. وبعد ان استعرضت الباحثة ردود افعال المجاميع القومية والدينية الرئيسية في العراق تجاه الدولة ومؤسساتها – لاسيما من قبل المسيحيين والكورد والشيعة – ومحاولات فرض الوحدة الثقافية التي نادت بها من خلال المنهج التعليمي القومي والتجنيد الالزامي. بينت ان هناك عاملان اساسيان شكلا عائقا امام بلورة مفهوم الدولة العراقية (الاول) هو الصراع التقليدي بين السنة والشيعة والمتسم بالعداوة الطائفية التي بدأت منذ قرون. وهو في الاجمال لم يكن صراعا اجتماعيا تقليديا , وانما كان صراعا سياسيا استغلته الانظمة الطائفية والحكومات المتعاقبة من ترسيخ سلطتها في العراق على مقدرات الدولة . (الثاني) هو الصراع السياسي والاجتماعي بين المجتمع العشائري المدني ، على اعتبار ان فكرة الدولة القومية المركزية تصطدم مع التوجهات العشائرية التي تنزع نحو الاستقلال الذاتي . واما الكاتب ابراهيم الحيدري فقد اعتبر الدولة العراقية الحديثة نتاجا مشوها بالقول ( ان تشكيل الدولة العراقية في العام 1921 نتاجا مشوها لنمط الهيمنة الكولونيالية الذي كان استجابة للوضع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي السائد انذاك , حيث كونت جماعات تحالف تقليدي من شيوخ القبائل العربية والكردية وكبار الضباط السابقين في الجيش العثماني والاشراف وتجار المدن والوجهاء والافندية , الذين شكلوا نخبة سياسية غير منسجمة في الواقع حاولت تشكيل هوية وطنية للقيام ببناء العراق وتحديثة واضعاف الانقسامات القبلية والاثنية والطائفية , ولذاك عانى العراقيون من ضعف الدولة بالمفهوم الحديث من الايديولوجيات السياسية المتصارعة الى جانب التخلف الاجتماعي والسياسي الذي خلفته القرون المظلمة) .
تكمن المفارقة في التعليقات الساخرة والانتقادات الموجهة لموضوعة تاسيس الدولة وفشلها في العراق , هو شمولها بالانتقاد جميع المقومات الاساسية لتكوين اي دولة طبيعية في العالم, مما يشكل اختلالا كبيرا وانتقاصا لمفهوم هذه الدوله, وهذه المقومات الاربعه هى :
1. الشعب والامة المتحدة : فالعراق افتقد هذه الخاصية, ليس بسبب التنوع الاثني والديني والمذهبي فحسب، بل الممارسات الاقصائية والطائقية والقومية التي قامت بها السلطات الحاكمة في العهدين الملكي والجمهوري , التي خلفت من جراء ذلك حالة من الاحتراب والتنازع بين المكونات الاجتماعية ، ساهمت بقوة في عدم بلورة مفهوم المواطنة في مقابل الهويات التقليدية الاخرى .
2. الحدود السياسية العراقية : فقد تم تخطيطها مع دول الجوار وفق تسويات اقليمية وسياسية في المنطقة، لاسيما مع تركيا وسوريا والاردن والسعودية . وكان الدور الاساس في ذلك للبريطانيين وبخاصة السير بيرسي كوكس والمس بيل .
ان قضية ترسيم الحدود العراقية في العقد الاول من تاسيس الدولة من قبل البريطانيين من القضايا الثابتة تاريخيا. ومثال ذلك قضية ترسيم الحدود بين العراق والسعودية. ففي عام1922 اراد عبد العزيز ال سعود جعل نهر الفرات حدا فاصلا بين العراق والسعودية، الا ان بيرسي كوكس رفض ذلك، وتم ترسيم الحدود كما هي الان وفق تسويات اقليمية حتى ظهرت عبارة مأثورة نسبت لاحد الكتاب الانكليز بهذا الصدد (نأخذ من ابن سعود لنعطي العراق، وناخذ من شرق الاردن لنعطي ابن سعود، وناخذ من الحجاز لنعطي شرق الاردن، ومن ناخذ لنرضي الحجاز ؟) ينظر التفاصيل: صادق حسن السوداني، العلاقات العراقية السعودية1920-1931، بغداد، 1976،114. واذا اجملنا موضوع ترسيم الحدود العراقية مع دول الجوار فانها تكون كالاتي:
– الحدود مع تركيا : ورسمت من قبل عصبة الامم بعد مشكلة الموصل وعرف الخط الفاصل بخط بروكسل.
– الحدود مع ايران : وخطت بالاتفاق مع الدولة العثمانية ضمن معاهدات لا دخل للعراقيين فيها.
– الحدود مع السعودية والاردن : وخطت من قبل السير برسي كوكس بالتفاوض مع ال سعود.
– الحدود مع سوريا : وخطت من قبل المس بيل .
– الحدود مع الكويت : وخطت رسميا بقرار صادر من مجلس الامن بعد غزو العراق لها عام 1990.
وهذا يعني عدم اشراف اي حكومة عراقية على تخطيط اي من دول الجوار، واعتقد ان هذه حالة نادرة في الدول ذات التاريخ المتميز والعريق مثل العراق .
3. السيادة المنعدمة : فالدولة العراقية الجديدة كانت غير مهيمنة على القرار السياسي الذي كان يخضع الى سلطة الانتداب البريطاني , مما يجعلها مفتقدة للاستقلال الحقيقي .
4. الحكومة او السلطة التي اقتصرت في مجملها او اغلبها على فئة اجتماعية واقلية محددة تحت قيادة الضباط العثمانين السابقين المعروفين بالضباط الشريفيين الذين هيمنوا على مقدرات الدولة حتى عام 1958 .
5. جغرافية الدولة التي اضيف لها مناطق لم تكن ضمن خريطة العراق التاريخية مثل منطقة الجزيرة وكوردستان (ولاية الموصل) ، واستقطاع منطقة عربستان ذات الاغلبية العربية الشيعية من اجل الحفاظ على التوازن الطائفي النسبي في البلاد ، والذي ادى لاحقا الى افتقاد اهم سمة تقوم عليها الدول الحديثة وهي الامة الواحدة . وقد اكد بهذا الصدد الكاتب الانكليزي تشارلز تريب (انه في حال ضياع ولاية الموصل فان الاغلبية الشيعية الموجودة ستصبح ساحقة ، وتشكل خطرا على الهيمنة السياسية لافراد من الاقلية السنية) . فيما كان حسن العلوي اكثر صراحة عندما انتقد الضجة المفتعلة حول احتمالية عدم الحاق الموصل بالعراق الجديد بقوله : (لا الموصل تذهب ولا عربستان تاتي) .
القسم الثاني : وهم الكتاب و الباحثون العراقيون الذين رفضوا مقولة الصناعه البريطانيه للدولة العراقية الحديثة , مؤكدين على الدور المحلي او الوطني والتطور التاريخي لصيرورة التاسيس او التشكيل الحديث لهذه الدولة . فقد انكر سيار الجميل كون العراق خارطة بريطانية، ويرى ان هذه الدعوة لا اصل لها من الحقيقة ، فالعراق – كما يقول – خارطة عراقية كما يثبت التاريخ ، ولم يكن في يوم من الايام من صناعة البريطانيين او غيرهم. مؤكدا التمييز بين تثبيت الحدود وخلقها، فاذا كانت المس بيل قد عملت على تثبيت الحدود، فلا يعني هذا انها خلقت هذه الحدود. والسير بيرسي كوكس Cooksey B. لم يوقع على حدود العراق السياسية الا بعد التاكد من الخرائط العثمانية التي تثبت الحدود الحالية. وقد خالف الجميل اراء الجغرافيين والمؤرخين الاسلاميين حول العراق التاريخي مضيفا اليه الجزيرة الفراتية بقوله (والعراق التاريخي يتالف من اقليمين اساسين هما : ارض السواد والجزيرة الفراتية ، يؤلفان بلاد ما بين النهرين القديمة (ميزوبوتاميا) Mesopotamia)) التي وردت في الادبيات الكلاسيكية القديمة لكل من الاغريق والرومان). وهذا يعني ان الجميل استند الى مصطلحات اليونان، وليس الى معالجات الجغرافيين والمؤرخين الاسلاميين والعرب التي تثبت غير ذلك. علما ان الدكتور الجميل سبق ان اعتبر بلاد الجزيره الفراتيه ( التي تضم ديار بكر وربيعه وكردستان وقاعدتها الموصل ) بلادا مستقله في مقابل بلاد الرافدين ( وقاعدتها بغداد وملحقاتها عربستان والخليج العربي ) ضمن سياق تقسيمه او ادراجه للتقسيمات الجغرافيه للعالم العربي . ينظر : سيار كوكب الجميل , تكوين العرب الحديث 1516-1916 , دار الكتب للطباعه والنشر , الموصل , 1991 , ص28 . فيما ان الموصل عرفت بهذا الاسم لانها وصلت بين العراق والجزيره , حتى ذكر ان لمدينة الموصل تسعة ابواب , كان الباب الذي يؤدي للجنوب يسمى باب العراق .
فيما يرى الكاتب سليم مطر ان العراق الحالي هو الديمومة الطبيعية والتاريخية لبلاد الرافدين وحضارتها منذ فجر التاريخ وحتى الان. وان الشعب العراقي الحالي بكل اديانه ومذاهبه وفئاته اللغوية هو النسل الطبيعي للجماعات التي قطنت وصنعت تاريخ الرافدين، سومريين وبابليين واراميين واكراد وتركمان وعرب، بالاضافة الى جميع الفئات الصغيرة والكبيرة التي استقرت في تاريخ العراق مثل الاغريق والهنود والقفقاس. وبعد ان استعرض الباحث الهويات العراقية الخمسة عبر التاريخ وهي : المرحلة المسمارية (السومرية والاكدية) والمرحلة الارامية – المسيحية والمرحلة العربية الاسلامية والمرحله المظلمه والمرحلة الحديثة، يذكر ان الامة العراقية ولدت بعد ثورة العشرين ، وجمعت الولايات العثمانية الثلاث : بغداد والبصرة والموصل , وهذه الولايات تمثل بلاد الرافدين كما وجدت في التاريخ القديم .
كما وجه الكاتب العراقي حسين درويش العادلي نقدا للراي الذي يؤكد الصناعة البريطانية للعراق الحديث عام 1921 دون الانتباه او التطرق للجذر التاريخي للحضارة العراقية القديمة ، مبينا ان اسقاط بابل ونينوى وبغداد والكوفة والبصرة هو (اسقاط ذاكرة ومحو تاريخ )، وان العراق الحالي هو نتاج عن العراق التاريخي ووارث له. وبهذا المعنى ايضا اكد الكاتب رشيد الخيون بان البريطانيين والملك فيصل لم يخرجا كيان العراق الجغرافي والسياسي من العماء ، وانما حصيلة صيرورة وتطور تاريخي تبلور بقوة خلال مرحلة السيطرة العربية الاسلامية.
ان الكثير من الباحثين العراقيين يخلطون بين العراق التاريخي القديم المتعدد الحضارات والدول والسلالات الذي يرجع الى تاريخه الى الاف السنوات , وبين العراق السياسي الحديث الذي اسسته بريطانيا عام 1921وفق تسويات دولية واقليمية خاصة بعد الحرب العالمية الاولى (1914 – 1918) وحررته من الدولة العثمانية التي سيطرت عليه مايقارب الاربعة قرون , اذ لولا دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الاولى ضد دول الحلفاء (الوفاق) وانهاء السيطرة العثمانية عليه لما تبلور مفهوم الدولة في العراق . ويعد الدكتور علي الوردي اول من اشار الى ذلك صراحة في مذكراته التي نشرها في مجلة (التضامن) حول تاثير ودور وزير الحربية في الدولة العثمانية (انور باشا) في ادخالها بالحرب , ومن ثم تبلور الارضية لاسقاطها وتحرير البلدان والمجتمعات التابعة لها – ومن اهمها العراق – بالقول (ومن المهم القول : انه لولا وجود هذا الرجل في الدولة العثمانية لما دخلت تلك الدولة في الحرب , ولبقى العراق جزءا منها بعد انتهاء الحرب فترة من الزمن طويلة او قصيرة) .
ان قراءة متأنية للاحداث التي حصلت والتطورات السياسية والثقافية في مطلع القرن العشرين وما تبعها من احداث , نجد ان صناعة الدولة في العراق عام 1921 لم تكن ضمن توجهات او سياقات بريطانية فقط ، بل كانت هنالك عوامل ومقاربات ساهمت في تعزيز الوعي السياسي , تبلورت عبر التراكم المعرفي والثقافي في البلاد ,من خلال احداث وممارسات عديدة اهمها :
1. الثورة الدستورية في ايران او الحركة المشروطية عام 1906 التي كان العراق الساحة الرئيسية لها ,من حيث التفاعل الايجابي والتاثير الفكري والديني على النخب المثقفة والمتعلمة ,ودورها في تفكيك مفهوم الاستبداد والحكم المطلق والدولة الدينية وامكانية قيام او تاسيس دولة مستقلة وديمقراطية .
2. ثورة الاتحاديين عام 1908 واعلان الدستور العثماني الذي نادى بمفاهيم التنوير الفرنسي والاوربي القائم على مبادئ العدالة والحرية والمساواة ، وتاثيرها المباشر على العراقيين من خلال نشر الوعي الدستوري والسياسي واطلاق الحريات العامة وانتشار المدارس والكتب والصحف, والتعرف على نمط التفكير الاوربي الذي تعد الدولة الحديثة مرتكزا دلاليا في نظامه السياسي.
3. اندلاع الحرب العالمية الاولى وخضوع العراق للسيطرة البريطانية والتخلص من الهيمنة العثمانية التي قاربت الاربعة قرون, وما صاحب ذلك من احداث قربت الاذهان وزادت الطموح في تكوين الدولة المستقلة، لاسيما الاستفتاء الذي قام به البريطانيون عام1918 والذي احتوى ثلاث اسئلة، كان من ضمنها: هل يرغب الاهالي اقامة او قيام دولة عربية واحدة تمتد من الحدود الشمالية لولاية الموصل الى الخليج الفارسي تحت الوصاية الاجنبية ؟ والذي اعطى الوعي السياسي خطوة الى الامام في امكانية ليس قيام دولة في العراق فحسب، وانما يكون لهم الدور في اختيار نمط وشكل هذه الدولة.
4. اندلاع الثورة العراقية عام1920 بعد اعلان الانتداب في نيسان من العام نفسه، والتي عدت السبب الرئيسي والمفصلي والمباشر لتاسيس الدولة العراقية، من خلال ادراك بريطانيا عدم امكانية حكم العراق حكما مباشرا ، فكان من جراء ذلك ارجاع السير بيرسي كوكس الى بغداد من اجل تغيير الاستراتيجية البريطانية في العراق وتاسيس حكومة مؤقتة في تشرين الثاني1920 وتعيين الامير فيصل بن الحسين ملكا على العراق. والذي عدّ تاريخ تنصيبه في23اب1921 (18 ذي الحجه عيد الغدير) التاريخ الرسمي لتاسيس الدولة العراقية الحديثة . وقد اكد هذا الراي الدكتور وميض جمال نظمي في كتابه (ثورة 1920 الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية الاستقلالية في العراق) بالقول (إن العراق الحديث هو النتاج التاريخي لعملية التوحيد السياسي والاقتصادي للولايات العثمانية الثلاث: الموصل، بغداد، البصرة . هذه الصيرورة التاريخية تعززت بعاملين مهمين: الأول: سياسات الحكومة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى. الثاني: النمو لمتزايد لما عرف بالحركة القومية والاستقلالية.وبذلك يمكن القول إن تفاعل هذان العاملين أسهما إلى حد ما في تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة عام 1920 ومن ثم ميلاد الدولة العراقية الحديثة عام 1921) .
ثانيا – مقاربات حول اسباب فشل مشروع الدولة (الفشل) .
اخذت الدولة العراقية خلال مرحلة العهد الملكي (1921-1958) تسير بخطى واعدة في تكوين مؤسساتها الامنية والدستورية والتعليمية والاقتصادية والثقافية , رغم الاختلالات الكبيرة في بنية الدولة واهمها العقلية العثمانية في ادارة الدولة واستئثار الضباط الشريفيين بالسلطة والمناصب العليا والطائفية السياسية المضمرة وتدخل الجيش بالسياسة وتراجع الحريات العامة وادراج الطبقات القديمة مثل الشيوخ والاغوات والافندية واحفاد الانكشارية في النظام السياسي وترسيخ الاقطاع وغيرها , الا ان تلك اختلالات يمكن اصلاحها ومعالجتها من خلال الاصلاح والتطور التدريجي , ولكن يبقى الانهيار الكبير في تلاشي مفهوم الدولة نحو السلطة قد حصل بعد ثورة تموز 1958 واستلام العسكر السلطة , ورغم النوايا الحسنة للزعيم عبد الكريم قاسم بالاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي , الا ان التطورات الخطيرة التي اعقبت الانقلاب البعثي الاول 1963 والانقلاب البعثي الثاني 1968 وبروز ظاهرة الدولة القومية والعنصرية والطائفية الصريحة قد ادى الى تحول الدولة الى (لوياثان) (تنين يفترس المجتمع) – حسب وصف الدكتور فالح عبد الجبار الذي استعاره من الفيلسوف البريطاني هوبز – وبلورة مفهوم الدولة الشمولية والحزبية والاقلية والعائلية والعشائرية وسيطرتها على مقدرات الدولة الاقتصادية والسياسية والامنية , الامر الذي ساهم باسقاطها السريع في نيسان 2003 .
لقد تاسست الدولة العراقية الحديثة وفق التلاحم بين الحركة الوطنية والاستقلالية من جهة والمساهمة البريطانية الفاعلة من جهة اخرى , واصبحت امرا واقعا ملموسا بعد ان مدت نفوذها وسلطتها الى جميع مناطق العراق الجنوبية والشمالية. ورغم تماهي وانضمام جميع الفئات الاثنية والمذهبية لمشروع الدولة، والاستسلام الطوعي له، الا انها لم تستطع او تبادر بقوة او تصميم لاحتواء تلك الفئات وادراجها في النظام السياسي من خلال المشاركة الحقيقية والفاعلة في الادارة والحكم، وعملت بدلا من ذلك على ممارسات وسياسات اقصائية ، تميزت في العهد الملكي بالاعتدال النسبي ، الا انها تصاعدت في العهود الجمهورية اللاحقة – لاسيما بعد انقلاب شباط 1963 – الى مديات خطيرة من القمع المتطرف والتخوين والتشويه المتعمد والتصفية المنظمة للمعارضين والمخالفين , سواء اكان من تلك الفئات الاجتماعية او اتباع التوجهات السياسية الاخرى . وبسبب هذا الانقسام والفشل في احتضان المكونات الاخرى ,وما رافق ذلك من تداعيات سياسية واحتراب داخلي واستبداد سياسي ، اجمعت اراء الباحثين – حسب اعتقادي على الاقل – على فشل مشروع الدولة العراقية في عمرها الاول 1921 -2003 ولم نعثر على اي من الاراء الموضوعية والدراسات الحديثة تؤكد نجاح مشروع الدولة ، عدا راي فالح عبد الجبار الذي اكد نجاح العراق الملكي في بناء الدولة , الا انه فشل في بناء الامة حتى ليكون العراق دولة بلا امة , وهو في المحصلة النهائية يعد ايضا فشلا في بناء الدولة، على اعتبار ان من اهم واجبات الدولة الحديثة هو ليس تكوين او ترسيخ السلطة القسرية – كما هو معمول به في العصور الوسطى – بل تكوين او بلورة مفهوم الامة والمجتمع المنسجم والمتحد ، وانصهار المجموعات الاثنية والمذهبية في بوتقة الوحدة الوطنية . وقد عزى عبد الجبار هذا الفشل في بناء الامة في العراق الى انعدام المشاركة والتعددية السياسية والديمقراطية , بسبب بقاء العقلية العثمانية في الادارة الجديدة في البلاد (اذ ورث العراق النظام الاجتماعي والبيروقراطي الذي ساد الدولة العثمانية التي كان العراق جزءا منها، والذي عرف بنظام الملل والنحل الذي اعتمد التراتبية العمودية ، حيث كان المسلمون السنة في قمته، يليه المسلمون الشيعة، فالمسيحيون فاليهود ثم بقية الاديان . لذا فقد ورث العراق منذ لحظة ولادته بيروقراطية ادارية وعسكرية لم تضم سوى لون واحد من هذا الصنف، اي المسلمين السنة).
لقد افترض ميثاق عصبة الامم الذي خضع العراق بموجبه لنظام الانتداب البريطاني (وبموافقة فرنسية بموجب اتفاقية سايكس بيكو1916) وجود امم في الشرق بحاجة الى مساعدة الدول المتقدمة لبناء دولها وفق نموذج (دولة- امة) Nation-stat)) لكن الدول العظمى غضت الطرف عن حقيقة محددة : ان الحدود المرسومة لهذه الدول المفترضة لا تنطبق على امم بعينها، فصار لزاما عليها – وعلى الشعوب المنضوية ضمن هذه الحدود – ان تنطلق في عمليتين مزدوجتين هي : بناء الدولة وبناء الامة معا. ويعد العراق من ضمن تلك الدول التي واجهت اشكالية بناء الدولة وبناء الامة العراقية الخاصة بهذه الدولة، وهما قضيتين متلازمتين وليستا منفصلتين –كما صور عبد الجبار ذلك– واما يكون نجاحهما معا او فشلهما معا. بمعنى ان الامة العراقية هى امة متخيلة ولاوجود لها على ارض الواقع في الربع الاول من القرن العشرين , فالعراقيون كانوا يشعرون بذواتهم من خلال هوياتهم الفرعية كالدين والقومية والمذهب والاثنية والعشيرة والعائلة والمحلة والمنطقة , وليس بهويتهم الوطنية كشعب واحد , فهذا مسلم او مسيحي او شيعي او سني او عربي او كردي او جبوري او ربيعي او الوسي او كظماوي او جعيفري او شروكي او فراتي او غرافي او بصراوي او نجفي او معيدي او حساوي ,وبالتالي فان هناك سلوك سياسي وعمل ثقافي محدد اخترع هذا المفهوم وبلور هذه الامة , ويكفي ان نعرف ان اول من اطلق اصطلاح (الامة العراقية) هو الملك فيصل الاول . لذا وبحسب منهجية بندكت اندرسن في كتابه (الجماعات المتخيلة) فأن الامة جماعة سياسية متخيلة ,وان الأمم الحديثة لم تكن أبداً أمماً طبيعية، مشكلة من الأواصر القديمة كالدم والدين واللغة والثقافة، كما تقول الخطابات «الوطنية»، وانما من خلال عزم وقرار وجهود افراد معينين ارادوا بلورة تلك الامة وتشكيلها من خلال الترويج لمفهوم القومية التي تستنهض الامة ومفهوم الوطنية الذي يستنهض الدولة , ومن ثم ايجاد الشعوب الخاصة بها , وكما قال ازغليو (مادمنا قد اوجدنا ايطاليا فعلينا ايجاد ايطاليين) . وهذا ماحصل في مشروع تاسيس الدولة في العراق عام 1921 فقد اخذ على عاتقها بلورة مفهوم الامة العراقية ومقاربة القاعدة السابقة (مادمنا قد اوجدنا العراق فعلينا ايجاد عراقيين) لان لفظة العراق لم تدل على هوية او سكان ,وانما اسما لارض اكثر مما كونا اسما لسكان هذه الارض . فقد اكد اريل دان في كتابه (العراق تحت حكم قاسم) (ان دولة العراق كانت مخلوقا مصطنعا ,وانه في نهاية العهد العثماني لم يكن هناك شيىء اسمه القومية العراقية) فيما اكد اليزر بيري (ليس هناك امة عراقية ولاتقاليد في التعاون لتوحيد الطوائف المختلفة) واما ايلي خضوري فقد كان اكثر صراحة عندما قال (ان ارادة اولئك الضباط الشباب (يقصد الضباط العراقيين القوميين) شاءت قيام امة عربية ولم يكن للاثنوغرافيا او الجغرافية او التاريخ اية اهمية الا بالقدر الذي يعزز تلك الخيالات) . وبهذا الصدد وصف حنا بطاطو المجتمع العراقي بانه لم يكن(شعبا واحدا او جماعة سياسية واحدة , وهذا لايعني الاشارة فقط الى وجود الكثير من الاقليات العرقية والدينية في العراق كالاكراد والتركمان والفرس والاشوريين والكلدانيين واليهود واليزيديين والصابئة واخرين , فالعرب انفسهم الذين يؤلفون اكثرية سكان العراق كانوا يتشكلون الى حد بعيد من جملة المجتمعات المتمايزة والمختلفة في مابينها ) . كما ادرج شيركو كرمانج في كتابه (الهوية والامة في العراق) راي بعض الباحثين حول الحتمية السياسية لهذا الكيان الهش , (كونه قد تشكل بعد الحرب العالمية الاولى عن طريق توحيد غير طوعي لمجوعات مختلفة عرقيا ودينيا من بقايا الامبراطورية العثمانية السابقة) .فيما يرى اوليري وايلاند ان العراقيين لم ينحدروا من اصل مشترك , كما انهم ليسوا موحدين بسبب عملية هجرة او انصهار مشتركة الولايات الثلاث التابعة للامبراطورية العثمانية , لم تكن ابدا متحدة سياسيا وثقافيا بسبب مشاعر او عقائد ناجمة عن هوية جامعة . والعراق ليس امة واحدة ولم يتحول الى امة ابدا خلال العصر الحديث . واما غيلب وغالبريث فقد اكد بان الادعاء ان المجتمعات الثلاث الرئيسة في العراق تشارك احساسا واحدا الانتماء الوطني , ادعاء ضعيف من ناحية المفهوم , لان كل واحدة من هذه المجموعات تميل الى التفكير اساسا من منطلق قوميتها او مذهبها وهويتها) .
وقد ارجع الباحثون فشل مشروع الدولة في العراق الى اسباب عدة لا يمكن الاحاطة بها كلها، الا ان العوامل الرئيسية او الاسباب البنيوية التي كان لها الدور الاساس في ذلك الفشل هي :
1 – التاسيس الخاطىء والمريب للدولة العراقية الحديثة عام 1921 والتلاعب الذي قام به السير برسي كوكس في الخريطة التاريخية للعراق . وهذا الخطا اتخذ ثلاث مسارات :
المسار الاول : الخطا في تاسيس العراق المركزي الواحد ,وجمع هذه المكونات والجماعات التي لايجمعها رابط تاريخي او مذهبي او قومي او اثني واحد , وليس لها قابلية الانسلاخ عن هويتها الثقافية والاجتماعية في دولة مركزية واحدة دون الاستناد الى حقائق التاريخ , او الاعتماد على ماذكره الجغرافيون العرب في صدر الاسلام من ان العراق ينقسم الى منطقتين مختلفتين هما :
1 – عراق العرب (السهل الرسوبي) وهو العراق التاريخي او الاصلي (ان صح التعبير) . ويمتد من المنطقة القريبة من مدينة بلد في شمال بغداد وحتى ساحل خليج البصرة ,بما فيها منطقة عربستان في ايران حاليا . وقد اعتبر الجغرافيون العرب هذه المنطقة هى العراق فقط , ثم اضافوا لها كلمة العرب . يقول الخطيب البغدادي (ان العراق يمتد من بلد الى عبادان) . والدليل على ان العراق هو السهل الرسوبي والجنوب ان جميع الاراء التي ادرجت اسم العراق اشتقت من دلالات او جذور او مظاهر جنوبية فقط , ولاتوجد أي دلالة او رواية ترجح اسم العراق الى دلالات ومظاهر شمالية . يقول المسعودي (ان الراي الغالب بان السواد هو العراق ,لان ارضه كانت مستغلة زراعيا) . وقيل ايضا العراق سمى عراقا لانه دنا من البحر او لانه على شاطىء دجلة والفرات , او لاستواء ارضها حيث خلت من الجبال . وقال الاب الكرملي (العراق هو البلاد المنخفضة المعرضة للغرق) . واما المستشرق هرتسفيلد فقد اكد (ان العراق معرب لفظ ايراك ومعناه البلاد السفلى او الجنوب) . فيما ارجع طه باقر اسم العراق الى صيغة سومرية من مفردة (اوروك) عاصمة الملك السومري كلكامش والتي تسمى حاليا بالوركاء في جنوب العراق . واما الدكتور علي الوردي فقد كان اكثر صراحة عندما قال (المنطقة الرسوبية : وتشمل وسط العراق وجنوبه . وهي أكثر مناطق العراق أهمية من الناحية الإجتماعية والتاريخية. وأن الجغرافيين القدماء إذا ذكروا العراق عنوا به هذه المنطقة . وقد اعتادوا ان يميزوا منطقة الجزيرة عن العراق ويعدوها قطرا قائما بذاته …. وان هذه المنطقة الرسوبية هي التي أعطت العراق طابعه الإجتماعي الذي اشتهر به منذ قديم الزمان . وهي البودقة الرئيسة للمجتمع العراقي ، وفيها تبلورت الشخصية التي تميز بها الفرد العراقي بوجه عام) . وبما ان هذه المنطقة هى متجانسة قوميا (عرب)ودينيا (مسلمين)ومذهبيا (شيعة) فان المفروض ان يكون تاسيس الدولة العراقية ضمن حدود هذا العراق التاريخي والاصلي , الا انها هذا لم يحصل , حيث تم اضافة ولاية الموصل (السنة والاكراد) لاغراض طائفية وسياسية , وتسويات اقليمية ودولية , الامر الذي افتقد فيه العراق سمة التوحد القومي والمذهبي .
2 – الجزيرة الفراتية : وهى المنطقة الممتدة من بلد في شمال بغداد وحتى اقصى الشمال الغربي . وهو الاقليم الي يقع بين نهري دجلة والفرات في شمال العراق وشمال شرق سوريا . ويحده من الشمال جبال طوروس ومن الشرق جبال زاكروس ومن الجنوب بادية الشام ومنخفضات الحبانية والثرثار . وتعتبر الموصل وصلاح الدين وكركوك واغلب مناطق اربيل ودهوك والقسم الشرقي من الانبار من اهم مناطقها في العراق . ومنطقة الجزيرة هذه تقارب ولاية الموصل التي تضم الاكراد والسنة , والتي اضيفت للعراق رسميا عام 1925 بعد بروز مايعرف بمشكلة الموصل ومناداة تركيا بها .
المسار الثاني : الخطا في جمع الولايات العثمانية السابقة الثلاث وهى (بغداد والبصرة والموصل) في دولة العراق الجديد عام 1921 وعلى غير الاسس التي اعتمدتها الدولة العثمانية في العقود الاخيرة . والملاحظ ان هذا التنظيم العثماني في الادارة والحكم كان يعبر وبصورة تقريبية عن المكونات الاجتماعية والمذهبية الثلاث وهم الشيعة في ولاية البصرة والسنة في ولاية بغداد والاكراد في ولاية الموصل , وذلك بما يحفظ هويتها وكيانها المستقل والمختلف عن الاخر . ومن سخريات القدر ان تكون الدولة العثمانية المعروفة بتخلفها ورجعيتها قد اتخذت هذا التنظيم الناجح في ادارة العراق , فيما تكون بريطانيا التي عرفت بالتعددية السياسية والثقافية قد اتخذت النموذج المركزي القسري الفاشل . ولانعرف هل ان بريطانيا قد اضطرت الى هذا المسار من التاسيس للدولة العراقية ام انها قد تعمدت ذلك من اجل زراعة قنبلة موقتة من الاحتراب بين المكونات في هذه الدولة قابلة للانفجار في أي وقت ؟؟ لان اتفاقية سايكس – بيكو السرية بين فرنسا وبريطانيا عام 1916 قد عزلت العراق التاريخي الاصلي (السهل الرسوبي) ضمن المنطقة الحمراء ,والتي تقع تحت الادارة البريطانية المباشرة . فيما اعتبرت المنطقة الاخرى التي تقع شمال بغداد ضمن تقسيم سياسي مختلف اطلق عليه منطقة النفوذ البريطاني (عدا الموصل) التي اعتبرت ضمن النفوذ الفرنسي . ويقال ان الثورة البلشفية (الشيوعية) في روسيا عام 1917 هى من غيرت الخطط والسيناريوهات بين فرنسا وبريطانيا , واصبح الخطر الشيوعي يشكل هاجسا في تنظيم الدول وتخطيط الحدود . فيما يعتقد الكاتب الامريكي وليم بولك في كتابه (لكي نفهم العراق) بانه (وقبل نشوب الثورة الروسية , كانت بريطانيا تخطط لتسليم الموصل الى فرنسا بحيث تكون منطقة عازلة بين عراق البريطانيين (يقصد الوس والجنوب) ومنطقة النفوذ الروسي التركية – الكردية – الارمنية الى الشمال . وفي مثل ذلك الوضع تكون فرنسا هى القوة التي تواجه الروسيين , ولكن عندما انسحبت روسيا الثورية (يقصد الشيوعية) من معاهدة سايكس – بيكو التي تقضي بتقسيم الشرق الاوسط , سارع البريطانيون الى تغيير موقفهم , وبدات الموصل تبدو انها تستحق الاصرار عليها والتمسك بها , عندما ادرك البريطانيون انه من المحتمل ان تحتوي تلك المنطقة عائدات هائلة من النفط . وهكذا ضم البريطانيون ولاية الموصل الى ولايتي بغداد والبصرة لتكوين العراق) .
المسار الثالث : سلخ منطقة عربستان الشيعية واضافة ولاية الموصل (السنة والاكراد) الى الدولة العراقية الجديدة .
1 – سلخ منطقة عربستان : عمل الانكليز الذين اسسوا الدولة العراقية الحديثة عام 1921 على سلخ وعزل منطقة عربستان الشيعية التابعة حاليا لايران باسم (خوزستان) من العراق الجديد خشية الاغلبية المطلقة والكاسحة للشيعة في البلاد . وربما كان لثورة العشرين وما قام به الشيعة من ثورات وانتفاضات ومقاومة للاحتلال البريطاني دور في هذا العزل والتهميش . ومن الثابت تاريخيا ان منطقة عربستان او اقليم الاحواز هو من ضمن ارض السواد الممتدة – كما قلنا – من بلد وحتى عبادان وبما ان (السواد هو العراق) فان هذه المنطقة هى امتداد جغرافي وطبيعي وتاريخي للعراق الاصلي . كما ان سكان هذه المنطقة هم من العرب الشيعة , وينتسبون عشائريا الى الديموغرافية العراقية في الوسط والجنوب ,وبالتالي كان من الواجب – او الضروري – انضمامها الى خريطة العراق السياسي الحديث , من اجل حيازة سمة التوحد الاجتماعي الذي يشكل المرتكز الاساس لقيام الدول وقوتها . بل حتى الانكليز عندما نزلوا في مثلث الفاو عام 1914 ارسلوا قوة عسكرية للسيطرة على ابار النفط في الاحواز . وعندما اعلن مراجع الشيعة الجهاد وتنظيم القوات لمحاربة الانكليز بقيادة السيد الحبوبي , كان لمنطقة الاحواز دور كبيرا في المشاركة فيها , ونسفوا انابيب النفط , وتعرضوا في سبيل ذلك الى الحرق والقمع , فيما كان امير الاحزاز الشيخ خزعل احد المرشحين لعرش العراق . وكان يمكن لمنطقة عربستان الانضمام للعراق الجديد لسببين :
الاول : وقوع العراق او بلاد مابين النهرين والاحواز بصورة عامة تحت السيطرة البريطانية المباشرة , التي كانت لها اليد الطولى في التلاعب وتنظيم الحدود الجغرافية والديموغرافية للدول الحديثة التي تاسست بعد الحرب العالمية الاولى , وربما لو ان مراجع الشيعة قد تفاهموا مع الانكليز , ولم يرفعوا لواء المقاومة والرفض للاحتلال لكان باستطاعتهم ضم هذه المنطقة للعراق الجديد .
الثاني : الاستقلالية التي تتمتع بها منطقة الاحواز اثناء تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وعدم انضمامها رسميا للحكومة الانقلابية الايرانية الجديدة التي تشكلت عام 1921 وبقائها اقليما مستقلا حتى عام 1925 , قد يشكل عاملا مهما لانضمامها للعراق الجديد ,سيما وان ايران كانت تعيش اجواء من الاضطراب والصراع السياسي بعد اسقاط القاجاريين على يد رضا خان .
2 – اضافة ولاية الموصل (السنة والاكراد) الى دولة العراق الجديد . فمن المعروف ان الاتراك اخذوا يطالبون بولاية الموصل ,لان الانكليز سيطروا عليها بعد اعلان هدنة موردوس في تشرين الثاني عام 1918 ,سيما بعد ان تولى كمال اتاتورك السلطة واعاد قوة الاتراك واخذوا يهددون باعادة احتلالها ,الامر الذي اثار مخاوف الملك فيصل الذي اسرى للانكليز انه من غير المعقول ان يكون سنيا ويحكم بلدا شيعيا , وخشيته من عملية انضمام ولاية الموصل للعراق ,سيما بعد ان عرف ان التوجه العام لاهل الموصل هو الانضمام للاتراك بسبب الميول العثمانية والاسلامية والمذهبية التي يحملونها . فاخذ يعمل مابوسعه على ضم ولاية الموصل من خلال التعاون مع الانكليز ,حتى انهم رفعوا الامر الى عصبة الامم . وبعد مداولات ولجان وزيارات للمنطقة اعلنت عصبة الامم ضمها للعراق الجديد عام 1925 . الامر الذي شكل توازنا مذهبيا واجتماعيا في العراق ,ولكنه من جانب اخر افتقدت البلاد سمة التوحد القومي والمذهبي , بسبب انضمام السنة والاكراد للبلاد ,سيما اذا عرفنا انهم من الاقليات الكبيرة التي تتميز بصعوبة اندماجها , واصبح العراق (غير عربي بالمطلق وغير شيعي بالمطلق وغير سني بالمطلق) .
2 – الطائفية السياسية : وهي من اخطر المظاهر التي ورثتها الدولة العراقية الحديثة من سلفها الدولة العثمانية, ونعني بها : تهميش الاغلبية الشيعية عن الادارة والحكم بصورة لا تعكس التمثيل النسبي الحقيقي في البلاد. ويرجع سبب ادراج هذا العامل في مقدمة اسباب فشل مشروع الدولة وبناء الامة : هو ان الفئة الاجتماعية التي تم تهميشها واستبعادها عن المشاركة السياسية الحقيقية والمناصب العليا في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، انما تشكل اغلبية ابناء المجتمع العراقي ، وبالتالي فان هذا يجعل قطاعا ضخما من افراد هذا المجتمع في حالة من الاغتراب والتوجس من الدولة ومؤسساتها، تطور بمرور الوقت الى حالة من الاحتراب والاقتتال بين الامة والدولة. وقد اشارت الكاتبة الامريكية (لوكيتيز) بهذا الصدد الى الحالة العراقية بالقول (ليس هناك مجتمع عراقي، ولا دولة عراقية، ولا نعلم ان كانت الهويات تستطيع ان تتعايش على ارض الواقع) ورغم محاولة البعض ارجاع سبب بلورة الطائفية السياسية في البواكير الاولى لتاسيس الدولة العراقية الى اخطاء وقع فيها الشيعة -او بعض مراجع الدين- وعدم التصرف بواقعية مع الطرف الاقوى في المعادلة السياسية انذاك، وهم الانكليز. والمتمثل ذلك في فتوى الخالصي والنائيني والاصفهاني بحرمة المشاركة انتخابات المجلس التاسيسي عام 1922 الذي كان سيأخذ على عاتقه الموافقة على مسودة الدستور العراقي وقانون انتخابات مجلس النواب والمصادقة على المعاهدة العراقية البريطانية عام 1922، الا ان هذا الراي لا يصمد امام حيثية مهمه وهى: ان قرار التهميش قد تبلور بعد ثورة العشرين، لاسيما بعد اعلان تشكيل عبد الرحمن النقيب حكومته الاولى في تشرين الثاني عام1920 التي ضمت وزيرا شيعيا واحدا، بل ان احد الباحثين ارجع قرار الاقصاء ابعد من ذلك، اذ بين ان السياسة البريطانية في العراق ومنذ البدء ، قامت على اقصاء الشيعة من جميع المناصب الرفيعة، وهذا يعني ان قرار الاستبعاد قد اتخذ من خلال التحالف بين القوى الثلاث: البريطانيين الباحثين عن مصالحهم القائمة على التحالف مع الاقلية الاجتماعية التي ستكون دائمة الحاجة اليها من اجل الاستمرار في السلطة. والضباط العثمانيون السابقون الذين تصدوا لادارة الدولة بين عامي1921-1958 والقوى التقليدية الدينية التي هي حصيلة تاريخ طويل من التماهي مع الدول الاسلامية الطائفية والتي مثلها رئيس الوزراء عبد الرحمن النقيب. ولا حاجة الى استعراض التطور التاريخي للطائفية السياسية ومظاهرها المتعددة في الادارة والجيش والتعليم والاوقاف والجنسية وغيرها، لان ذلك يخرجنا عن موضوع الدولة والطائفية السياسية الذي نحن بصدده , والذي تجلى صورة واضحة واساسية في عملية توزيع المناصب العليا في الدولة العراقية. فطيلة العهد الملكي ين عامي1921–1958 تشكلت (58) وزارة لم يتسلم رئاسة الوزراء فيها من الشيعة سوى اربع وزارات فقط. واما في مجال الحقائب الوزارية في هذا العهد ايضا ، فقد دلت الاحصاءات ان من اصل (575) منصب وزاري، كان للشيعة منها (159) منصب، اي ما يعادل نسبته (27,7%) من العدد الاجمالي. وهي موزعة بحسب المراحل الاتية:
السنة مجموع المناصب عدد مناصب الشيعة النسبة المئوية
1921 – 1932 113 20 17,7%
1932 – 1936 57 9 15,8%
1936 – 1941 65 18 27,7%
1941 – 1946 89 25 28,1%
1947 – 1958 251 87 34,7%
المجموع 575 159 100 %
((جدول المناصب الوزارية الشيعية في العهد الملكي باستثناء منصب رئاسة الوزراء)).
وضمن السياق النيابي الذي كان من المفترض ان يقوم ضمن الاسس الديمقراطية التي تمثل القاعدة الاجتماعية للمكونات في العراق، فان اعلى نسبة حصل عليها الشيعة في مجلس النواب كانت (43,7%) في حزيران عام1954 رغم انهم يشكلون اغلبية المجتمع، فيما ان هذه النسبة سبق لها ان تدنت فوصلت عام1938 الى (28,4%). والملفت في الامر انه كان من الممكن ان يرشح نائب سني لتمثيل المناطق الشيعية في المجلس ، الا انه لم يحدث قط انتخاب سياسي شيعي كنائب عن المناطق السنية.
بعد ثورة تموز1958 واعلان الجمهورية العراقية, تشكل مجلس السيادة بحسب المكونات الاثنية والمذهبية الرئيسية الثلاث في العراق، فكان محمد نجيب الربيعي من العرب السنة، ومحمد مهدي كبة من الشيعة، وخالد النقشبندي من الكورد. لكن حكومة عبد الكريم قاسم لم تخرج عن تشكيلات او وزارات العهد الملكي، فابقى الطابع المذهبي التقليدي في عدد الوزارات، اذ ضم مجلس الوزراء (13) شخصية. ستة من السنة العرب وثلاثة من الكورد واربعة من الشيعة. لكن الامتياز في حكومة عبد الكريم قاسم انه لم يلتزم بسياسة العزل المذهبي او الفحص الطائفي للمتقدمين لاشغال المناصب الكبيرة في الدولة، اذ اختار ممن يتمتعون بالسمعة الوطنية والتاريخ النزيه.
بعد انقلاب شباط 1963 الذي قاده حزب البعث العربي الاشتراكي بلغ عدد الاعضاء الشيعة في المجلس الوطني لقيادة الثورة (5) من اصل (18) عضوا ، فيما لم يحصل الشيعة العرب في الوزارة الانقلابية الاولى عام 1963 التي راسها احمد حسن البكر سوى (6) وزارات من اصل (21) وزارة . واما رئاسة لوزراء بين عامي (1963 – 1968) فلم يتسلمها سوى شيعيا واحدا وهو ناجي طالب فيما ترأسها من السنة كل من احمد حسن البكر وعبد الرحمن البزاز وطاهر يحيى . وبعد الانقلاب البعثي الثاني في تموز 1968 فقد اخذ المنحى الطائفي والتهميش السياسي للاغلبية الشيعية في العراق اكثر وضوحا . فمجلس قيادة الثورة التي تشكل يوم 17 تموز – وهو اعلى سلطة تنفيذية وتشريعية وعسكرية في البلاد – لم يضم شيعيا واحدا من اصل ستة اعضاء وهم (احمد حسن البكر وحردان التكريتي وعبد الرزاق النايف وابراهيم الداود وحماد شهاب وسعدون غيدان) . وكذا الامر مع مجلس القيادة الثاني الذي تشكل في 30 تموز بعد طرد النايف والداود , فقد ضم ثمانية اعضاء كلهم من السنة وهم (احمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وحردان التكريتي وصدام حسين وسعدون غيدان وطه ياسن رمضان وعزت مصطفى وصلاح عمر العلي) . واما القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم يوم 17 تموز 1968 فقد ضمت عشرة اعضاء كلهم من السنة وهم (احمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وصدام حسين وصلاح عمر العلي وعبد الله سلوم السامرائي وعبد الخالق السامرائي وعبد الكريم الشيخلي وشفيق الكمالي وطه ياسين الجزراوي وعزت مصطفى العاني) . فيما تشكلت الوزارة الاولى من (25) وزيرا كان عدد الشيعة منها (4) وزراء فقط .
ولم يقتصر التعامل والتمييز الطائفي ضد الشيعة على الاقصاء من الادارة والحكم فحسب , بل وامتد الى المكافحة الثقافية والابادة الجماعية والتخوين السياسي والتشويه الاجتماعي الذي وصل الامر برأس الدولة ان يكتب مقالات بجريدة (الثورة) الرسمية عام 1991 وهى تنال من الاغلبية الشيعية العربية وتنعتهم بالاباحية والانحلال والسقوط الاخلاقي , الامر الذي جعل الشيعة في حالة توجس من الدولة ونظامها السياسي والتمركز على الهوية , الا ان هذا التوجس والتمركز لم يكن على وتيرة واحدة من القوة خلال العمر الاول من الدولة العراقية (1921 – 2003) وانما اتخذ ثلاث مراحل :
الاول : وامتدت من تاسيس الدولة عام 1921 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 . وتميزت بان الشيعية اتخذوا موقف التوجس والتردد والتمرد على الدولة , بسبب طبيعتها الطائفية والعنصرية والعثمانية في تعاملها من الاغلبية الشيعية . فكانت الانتفاضات العشائرية والتمردات والتظاهرات والاضرابات سمة تلك المرحلة .
الثانية : وامتدت من عام 1945 وحتى عام 1980 . وتميزت بان الاغلبية الشيعية تركت هويتها الثقافية وتلاشت نزعتها الذاتية واندمجت مع الرؤية السياسية والايديولوجية للدولة العراقية وتماهت الانتلجنسيا الشيعية العصرية مع التيارات الفكرية والعلمانية الوافدة والنزعات الوطنية والقومية واليسارية والليبرالية . سيما بعد انتشار التعليم وبروز الطبقة الوسطى وتزايد سكان المدن وتبلور المجتمع المدني .
الثالثة : وامتدت من عام 1980 وحتى سقوط النظام البعثي الحاكم عام 2003 . وتميزت بانبعاث الهوية الشيعية عند النخبة الاسلامية والانتلجنسيا العصرية بسبب التمييز الطائفي العلني والاستبداد البعثي والديكتاتورية الفردية التي مارسها الرئيس صدام حسين بعد استحواذه على السلطة وعزله الرئيس السابق احمد حسن البكر . الامر الذي جعل تلك النخب تعيد النظر بطريقة تعاملها مع الدولة والتنازلات المجانية التي كانت تقدمها بدعوى الوحدة الوطنية والمصلحة العامة . وقد اتخذ انبعاث الهوية الشيعية ورفض التمييز والاضطهاد والاستهداف الطائفي طريقين :
الطريق الاول : المعارضة المسلحة ضد النظام في خارج العراق والقيام بعمليات عسكرية في الداخل ضد اعضاء حزب البعث الحاكم والتحريض عليه . وتجسدت تلك المعارضة في التشكيلات العسكرية والسياسية والاعلامية التي اقيمت في ايران وسوريا واوربا .
الطريق الثاني : الانتفاضة الشعبانية في اذار 1991 والتي حررت مايقارب من (15) محافظة عراقية (شيعية وكردية) من سيطرة النظام البعثي الحاكم . وماتبعها في عقد التسعينات من مواقف لاحصر لها من المقاومة والرفض .
3 – الطابع العنصري للدولة: اعتمدت النخبة الحاكمة على الصيغة الطائفية في الحكم من اجل الاستئثار بالسلطة والهيمنة على مقدرات الدولة العراقية، الا انها من جانب اخر اعتمدت ايضا على الصيغة او الورقة القومية في سبيل تهميش المكونات الاجتماعية والاثنية غير العربية, مثل الكورد والتركمان والسريان المسيحيين وغيرهم . وقد هيمن الطابع العنصري العربي على الدولة العراقية بتشجيع ظاهر من قبل سلطات الانتداب البريطاني, لمواجهة نمطين مختلفين من التحديات التي كانت تنتاب المشروع السياسي الحديث في البلاد وهما: الحركة الوطنية الاستقلالية التي تطالب بالاستقلال الحقيقي وانهاء الانتداب. والميول العثمانية والتركية عند اهل السنة في العراق، الذين ارتبطوا بها تاريخيا ودينيا وفكريا ما يقارب الاربعة قرون لاسيما فئة الافندية منهم.
وبعد تاسيس الدولة العراقية تبلورت في البلاد التوجهات الرئيسية الثلاث وهي: الوطنية العراقية والقومية العربية والقومية الكوردية . وقد تجلت النزعة الوطنية العراقية عند الاحزاب الليبرالية والماركسية ، فيما تبلورت النزعة القومية عند السلطات الحاكمة المتعاقبة والاحزاب القومية . وركزت الاحزاب الوطنية على التراث الرافديني للعراق القديم باعتباره اكثر تمثيلا للتنوع الاثني للبلاد ، فيما نظرت السلطات والاحزاب القومية الى ضرورة الحاق العراق بالامة العربية من اجل تحويل نفسها من وضع الاقلية الى مسار الاكثرية , على اعتبار ارجحية التفوق العددي للاسلام السني على الشيعي في العالم العربي الكبير . وبهذا الصدد انتقد الكاتب الامريكي (اريك دافيس) كلا المفهومين الوطني والقومي ، على اعتبار ان الرؤية القومية التي تجعل العراق جزء من الامة العربية ذات الغالبية السنية قد عجزت عن تبيان حق غالبية الشعب والاقليات الاخرى في المشاركة السياسية والخوف من الاندماج القسري وفقدان الهوية . في حين ان ان الوطنيين العراقيين قد اخطأوا عندما تجاهلوا مخاوف الطبقات الوسطى والمناطق الحضرية والمدنية (الشيعية والسنية) من التصدع الثقافي والاجتماعي الذي كان ماثلا في العراق طوال القرن العشرين والحاجة الى الاستقرار السياسي والوحدة الاندماجية للمكونات الاجتماعية , وبما ان الوطنية العراقية قد انحسرت بسبب تهميش السلطة ودعمها للحركة القومية العربية في مواجهة المكونات الاثنية الاخرى، ولم يتبق منها سوى بعض الاحزاب الليبرالية واليسارية وبعض التوجهات الثورية، فقد انحصر الصراع بين القومية العربية والاثنية الكوردية على طول عمر الدولة العراقية، وخلق حالة من الاغتراب والانفصام بين الدولة والمكونات الاجتماعية الاخرى تطور الى مديات واسعة من الاقتتال والاحتراب الداخلي.
لم يشر دستور العهد الملكي عام 1925 الى المكونات الاجتماعية الاخرى غير العربية بالاسم , رغم تاكيده على مبدأ المساواة بين العراقيين في الحقوق (وان اختلفوا في القومية والدين واللغة) واتاح للطوائف المختلفة حق تاسيس المدارس لتعليم افرادها بلغتها الخاصة، مشيرا الى حق كل طائفة في تاليف مجالس في المناطق الادارية المهمة، الا ان ذلك لم يتم تفعيله او تطبيقه على ارض الواقع. واستمر الطابع العربي للدولة دون مشاركة حقيقية للمكونات الاثنية الاخرى رغم اقرار الدستور العراقي لتلك الحقوق. وبعد اعلان الجمهورية العراقية عام 1958 اشار الدستور المعلن في المادة الثالثة منه على ان العرب والكورد شركاء في هذا الوطن، وان الدستور اقر حقوقهم القومية ضمن الوحدة الوطنية. ويبدو ان النزعة الوطنية وضعف الطابع القومي في الجمهورية الاولى ادى الى تلاشي النسق العنصري بالدولة العراقية، لكن ذلك لم يستمر طويلا، اذ سرعان ما اعاد انقلاب شباط 1963 الذي قاده تنظيم حزب البعث الطابع العنصري للدولة، فالتركيبة الاثنية للمجلس الوطني لقيادة الثورة لم تضم اي شخصية كوردية او تركمانية، وعكس الدستور الجديد الذي اقر عام1964 تطلعات الرئيس عبد السلام عارف الى الوحدة العربية عندما عرف الشعب العراقي كجزء من الامة العربية، واتخذ علما جديد يتالف من الوان علم الثورة العربية التي قادها الشريف حسين بن علي عام 1916 والشبيه بتصاميم علمي سوريا ومصر، مع ثلاث نجمات تمثل الدول العربية الثلاث المتوقع انضمامها الى الجمهورية العربية المتحدة، ولم يحمل العلم بالتالي اي رمزية وطنية عراقية , واستمر حكم الاحزاب والشخصيات القومية ذات الطابع القومي العربي في العراق طيلة حكم الاخوين عارف بين عامي 1963-1968 , والحكم البعثي الثاني للرئيسين احمد حسن البكر وصدام حسين بين عامي 1968 – 2003 .
الطبقة السياسية العليا العرب السنة العرب الشيعة الاكراد اخرون المجموع
العدد النسبة العدد النسبة العدد النسبة العدد النسبة
الطبقة الاعلى(أ)30 79% 6 16% 2 5% ـــــــ ــــــ 38
الطبقة الادنى(ب)57 46% 43 35% 16 13% 8 6% 124
المجموع 87 54% 49 30% 18 11% 8 5% 162
((جدول يبين الاساس العرقي والمذهبي للطبقة السياسية العليا في العراق 1958-1968 )).
4 – الاستئثار بالسلطة والاستبداد: اعتمد النظام الملكي في حكمه على مبدأ الاستئثار بالسلطة من قبل الضباط الشريفيين والعوائل الاجتماعية المتنفذة وبقايا الارستقراطية التركية القديمة, وهو النظام السياسي الذي يطلق عليه: الحكم الاوليغاركيOligarchy)) الذي يرتكز على اساس حكم النخبة المتميزة والفاعلة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. الا انه في الاجمال سمح لهامش من الحريات الشخصية والسياسية والاقتصادية، ساعدت على نمو الطبقة الوسطى والمجتمع المدني الحديث , حتى يمكن وصفه بالنظام شبه الديمقراطي او الليبرالي. ولا يمكن بالتالي وصفه بالنظام الاستبدادي، لذا كان الافضل اطلاق صفة الاستئثار على نمطه او نظامه السياسي المعتمد في الادارة والحكم . فيما اعتمدت الانظمة الجمهورية اللاحقة في البلاد على مبدأ الاستبداد بالراي والقرار والحكم، والهيمنة المطلقة على مقدرات الدولة من قبل مجموعة من الضباط الذين يرجعون في اصولهم الاجتماعية الى مناطق ريفية تقع في غرب وشمال غرب العراق، لم يسمحوا باي هامش من الحريات السياسية والعامة في البلاد. وبهذا الصدد يذكر الكاتب تشارلز تريب: ان العرب السنة الذين شكلوا 20% من السكان – ونظرا لكونهم اقلية بالمعنى الاقتصادي والمذهبي –وبسبب ميولهم الاستبدادية– لم يشكلوا اساسا واعدا للوحدة الوطنية، التي كان من المفترض ان ترافق بناء الدولة الحديثة . ويمكن وصف طبيعة الاستئثار والاستبداد في نظام الحكم في العراق خلال المراحل الزمنية المتعاقبة بحسب الترتيب الاتي :
السنوات طبيعة السلطة الحاكمة
1921-1932سلطة حكم الاقلية المذهبية من ابناء المدن لاسيما بغداد والموصل
1933-1958سلطة النخبة داخل الاقلية المذهبية مع ظهور سلطة العوائل الوزارية
1958-1963 الاقلية العسكرية ذات الدعم الشعبي الواسع .
1963-1968 حكم الاقلية الحزبية (البعثية والناصرية) ذات الاصول الجغرافية والعشائرية في المثلث السني .
((جدول يبين طبيعة السلطات الحاكمة في العراق بحسب المراحل الزمنية بين عامي 1921-1968)) .
5 – تدخل الجيش في السياسة: ترجع جذور النزعة العسكرتارية في المجتمع العراقي الى سنوات ولاية مدحت باشا، عندما اسس متوسطة الرشيدية العسكرية في بغداد عام 1870 التي ساهمت في تخريج كادر مهني من المراتب مؤهل للخدمة في الجيش العثماني، ثم تلا ذلك تاسيس اعداديات عسكرية ترسل الخريجين منها للدراسة في الكلية العسكرية في اسطنبول. وأُعتبر العراق من اكثر البلدان العربية التي خرجّت ضباطا في الكلية العسكرية، حتى وصل عددهم عند قيام الحرب العالمية الاولى الى ما يقارب الالف ضابط ، قدّر لهم لاحقا لعب دور سياسي وعسكري كبير في الدولة العراقية الحديثة. وبعد الاحتلال البريطاني للعراق واعلان الانتداب، شجعت وزارة المستعمرات في لندن على تشكيل الجيش العراقي من اجل تقليل نفقات الامن والادارة ، والمساهمة الفعالة في فرض الامن في البلاد، وتم تشكيل الوحدة العسكرية الاولى في السادس من كانون الثاني عام1921- اي قبل تاسيس الدولة العراقية في اب1921, وهو بذلك يكون الجيش الوحيد في العالم الذي يتشكل قبل تاسيس الدولة. وقد استعين بالضباط العراقيين- العثمانيين الشريفيين الذين درسوا في اسطنبول في ادارة وقيادة هذا الجيش، مما ادى الى فرض النمط او النسق العثماني السابق عليه، وشكلوا العمود الفقري للمؤسستين السياسية والعسكرية في الدولة العراقية الحديثة، فقد تعاقب على رئاسة الوزراء في العراق الملكي (23) شخصا . كان منهم (15) شخصا من ذوي الاصول العسكرية ، اي ما نسبته (65%) . فيما وصلت نسبة استحواذ الضباط الشريفيون على منصبي وزير الدفاع والداخلية بين عامي 1921-1958 الى (41,07) . الا انه في الاجمال لم يكن تدخل الجيش في الشأن السياسي في البلاد على وتيرة واحدة، وانما يتبع ذلك تبعا للظروف والمتغيرات السياسية. وبحسب منهج الدكتورعقيل الناصري في كتابه (الجيش والسلطة في العراق الملكي) يمكن تقسيم المحطات الاساسية للجيش العراقي من حيث التدخل بالشأن السياسي بين عامي 1921- 2003 الى خمس محطات اساسية :
أ- مرحلة التاسيس1921-1932: وتبدأ بالاجتماع التداولي الذي عقده جعفر العسكري وزير الدفاع في حكومة عبد الرحمن النقيب في 6 كانون الثاني1921 لاتخاذ الخطوات العملية لتاسيس الجيش العراقي. وقد اعتبر هذا الاجتماع بمثابة التاريخ الرسمي للتاسيس الذي احتفل به رسميا لاول مرة كعيد للجيش عام1941 ، ابان تصاعد النزعة العسكرتارية والقومية الشوفينية ALchauvinismفي البلاد. وانشغل الجيش العراقي خلال هذه المرحلة باكمال بناء تشكيل مؤسساته وصنوفه وزيادة اعداد افراده، من خلال التشجيع على مبدأ التطوع الذي كان معمولا به قبل صدور قانون الدفاع الوطني رقم (1) لسنة 1934 الذي فرض نظام تجنيد الاجباري على العراقيين. ولم تحصل محاولات لتدخل الجيش العراقي بالشان السياسي بقوه حلال هذه المرحله, ليس بسبب ضعفه وعدم اكتمال مؤسساته فحسب, بل لقوة شخصية الملك فيصل وسيطرته على مقاليد السلطه بتوازن واعتدال, فضلا عن تواجد سلطات الانتداب البريطاني والمستشارين الذين كانوا يشكلون عاملا اساسيا في ترسيخ العملية السياسية انذاك.
ب – مرحلة الانطلاق1932-1941: وتميزت بالتدخل المباشر والصريح في العمل السياسي، والقيام بالانقلابات التي تزامنت مع تصاعد الميول والتوجهات القوميه. فقد شهدت البلاد اول انقلاب في العالم العربي في التاريخ المعاصر قام به بكر صدقي ضد حكومة ياسين الهاشمي عام1936، الذي فتح المجال على مصرعيه في تدخل الجيش في الصراعات السياسيه بين اعضاء النخبه الحاكمه، من خلال دعم مرشح معين لمنصب وزير الوزراء على حساب مرشح اخر, لاسيما في الاعوام1937-1938-1940، توجت بحركة مايس التي قام خلالها الجيش بالسيطرة على مقاليد السلطه في البلاد, ادت الى هروب الوصي عبد الاله الى الخارج , وانتهت بالاحتلال البريطاني الثاني للبلاد.
ج – مرحلة الانكفاء 1941-1949: وتبلورت هذه المرحله بعد فشل حركة مايس ودخول القوات البريطانية للعراق ضمن احداث وتداعيات الحرب العالميه الثانيه. اذ شهدت انحسارا واضحا لدور الجيش العراقي في المسار السياسي، لاسيما بعد حملة الاعتقالات والاعدامات التي طالت قادة الحركه والضباط المساهمين فيها او المتعاطفين معها.
د – مرحلة التكتل 1949-1958: وتبلورت هذه المرحلة من خلال تشكيل وتاسيس خلايا سرية في القوات المسلحة اطلق عليها اسم (الضباط الاحرار). وتاسيس البواكير الاولى لها بعد نجاح الثورة المصرية عام 1952 التي قام بها الضباط المصريون، التي اعطت الانطباع لدى زملائهم العراقيين في امكانية تغيير النظام السياسي كليا عبر الانقلاب العسكري.
ه – مرحلة السلطة 1958- 2003 : وفيها تسلم الجيش العراقي مقاليد السلطة رسميا بانقلاب عسكري في تموز 1958 تحولت اثاره ونتائجه الراديكالية الى نمط (الثورة) وهو التغيير الجذري في بنية المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتسلم السلطة خلال هذه المرحلة جميع رؤساء الجمهورية ورؤساء الوزراء من العسكر – عدا عبد الرحمن البزاز – فقد تسلم رئاسة الجمهورية ومجلس السيادة كل من: محمد نجيب الربيعي وعبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف. فيما تسلم رئاسة الوزراء كل من: عبد الكريم قاسم واحمد حسن البكر وطاهر يحيى وعارف عبد الرزاق وناجي طالب وعبد الرحمن عارف. ولم يقتصر الامر في هذه المرحلة على استيلاء العسكر على السلطة فحسب، بل حدثت انقلابات عسكرية ضد هذه السلطة ايضا، كما في انقلاب 8 شباط 1963 او انقلاب عبد السلام عارف ضد البعثيين في 18تشرين الثاني1963 او المحاولات الفاشلة التي قام بها عارف عبد الرزاق بين 1965-1966، والمفارقة الاخيرة في هذا العهد ان سلطة العسكر قد سقطت في انقلاب قاده العسكر من البعثيين في تموز 1968 الذي هيمن على البلاد حتى عام 2003 , حيث تسلم السلطة احمد حسن البكر – وهو من الضباط التكريتيين – ثم عزله بعد ذلك قريبه صدام حسين عام 1979 الذي تسلم السلطة مقلدا نفسه رتبة (مهيب ركن) رغم انه كان مدنيا ولم يخدم في العسكرية قط .
ثالثا – تداعيات فشل مشروع الدولة العراقية خلال (100) عام (التداعيات)
في البدء يجب ان نذكر ان الكثير من العراقيين يخلطون بين مصطلح السلطة وبين مصطلح الدولة . فالسلطة نظام للحكم قديم تطور عبر التاريخ منذ العصور البدائية , فيما ان الدولة كيان سياسي حديث تبلور في اوربا قبل اكثر من قرنين على هامش الحداثة والتنوير ,واعتمد مبدا المساواة والحرية والديمقراطية والبروقراطية الادارية والتعددية الثقافية , واطلق عليها تسمية (الدولة الهيغلية) نسبة الى الفيلسوف الالماني (هيغل) الذي وصف الدولة بانها (اله يمشي على الارض) او الدولة الحديثة التي ربما تختلف عن الدولة القديمة التي كانت اقرب الى السلطة منها الى الدولة . والعراق على مدى تاريخه الطويل كانت تحكمه سلطات محلية استبدادية او اجنبية محتلة , حتى قيل (ان هذه البلاد هى ذكرى مستبدين ومحتلين) ,ولم يعرف معنى الدولة الا بعد الاحتلال البريطاني (1914 – 1917) والتي قامت باجراءات متعددة انتهت عام 1921 بتنصيب فيصل ابن الحسين ملكا على العراق . ولكن السؤال الذي يطرح نفسه : هل ان ماحصل عام 1921 هو تاسيس دولة ام ترسيخ سلطة اقلية معينة ؟ في الواقع ان الامر عندي يدعو الى الحيرة , فكيف يمكن القول ان ماحصل بين تاسيس الدولة عام 1921 وبين سقوطها عام 2003 هو (دولة) ؟! , فيما كان الحكم هو بيد الاقلية السنية العربية , وان الشيعة والكورد هم اقرب للرعايا والعبيد رغم انهم يشكلون اكثر من 80% من الشعب العراقي ؟؟!! اعتقد ان العقل والمنطق لايقبل بذلك , رغم ان تلك السلطة هيمنت على الدولة ومقدراتها ورسخت من قوتها وعصبتها وايديولوجيتها القومية العربية بسبب شعورها بالاقلية في البلاد . وتبقى القضية محل جدل ونقاش بين الباحثين في العلوم السياسية المختصين بهذا الشان , ولكن يبقى في الاخير اننا نطلق اصطلاح الدولة من باب المجاز وتحصيل حاصل لما يذكره المؤرخون ..او ربما يمكن القول ان ارهاصات تشكيل الدولة قد اخذت بالتبلور في العهد الملكي , الا انه تلاشى كليا نحو السلطة والاستبداد بعد ثورة تموز 1958 وانقلاب شباط 1963 .
اما على المستوى الاجتماعي فالدولة عضو غريب على الجسم العراقي , والسبب هيمنة قوى ما قبل الدولة على المجتمع العراقي كالعائلة والعشيرة والدين والاثنية والطائفة على هذا الجسم . حتى ان احد الكتاب وصف الدولة العراقية بانها (دولة متناشزة) (بلد متخلف اقتصاديا واجتماعيا وفيه حكومة عصرية نيابية) – كما قال المستشار البريطاني بوزارة المعارف المستر ليوبيل – لذا قام الانكليز بترميم تلك القوى القديمة وادراجها في نسيج الدولة العراقية الحديثة , حتى اصبحت الدولة في العهد الملكي دولة الشيوخ والعوائل والاغوات وبقايا الترك والمماليك والانكشارية . وكما عبر عن ذلك الدكتور علي حاكم صالح (بان تاسيس الدولة اشبه بعملية خروج سياسية – اجتماعية قسرية من عالم قروسطي تقليدي ومجتمعات محلية شبه مستقلة الى مشروع دولة الامة الحديثة) .
ان الولاء الاول والاهم في العراق هو الى تلك القوى واهمها العشيرة , وكما قال طالب الشطري (ان العراقي اذا شتمت عشيرته يقتلك ,واذا شتمت زعيمه وشيخه يقتلك ,واذا شتمت حزبه يقتلك ,ولكن اذا شتمت الدولة يمدحك) . لان الدولة بعد السقوط 2003 لاعصبة سياسية واجتماعية لها, وهى رمز عصري غريب عن افق العراقي وميوله وتوجهاته , فيما ان العشيرة هى رمز التباهي والاعتزاز والفخر وتتلائم مع نظامه المعرفي وافقه الاجتماعي . رغم الادعاء الكاذب برفض العشيرة والعشائرية عند الكثير من العراقيين , الا انهم يظهرون خلاف مايضمرون , فالعراقي – كما صور ذلك الدكتور علي الوردي – عنده شخصيتان في داخله – وهو لايعرف ذلك طبعا – وليس شخصية واحدة :
الاولى : وهى الشخصية الظاهرية والمعلنة : وتقدر الدولة وتدعمها وتطالب بالعدالة والمساواة والنزاهة والمثل العليا والمبادىء والقيم العصرية ورفض المحسوبية والواسطة والفساد . وهى ليست الشخصية الحقيقية للفرد العراقي , رغم ادعائه العكس من ذلك , ولكنه يحتاجها للتباهي والتذمر والنقمة والاحتجاج فقط . ويبدو ان الوردي قد عرف هذا النسق مبكرا عندما قال (ان العراقي اكثر الناس هياما بالمثل العليا , ولكنه اكثر الناس ابتعادا عنها) .
الثانية : وهى الشخصية الباطنية والحقيقية : وهى تقدر القيم البدوية والعشائرية القائمة على الاستئثار والتغالب والمحسوبية والبحث عن الواسطة والقرابة واستغلالها لمصلحته والنظرة الغنيمة للدولة وتقدير القائد والرمز والشيخ النهاب الوهاب .وحتى في قضية الانتماء المتطرف للاحزاب السياسية والتماهي المغالي معها والدفاع عنها عند العراقيين بعد الحرب العالمية الثانية , نجد السبب هو تشابه نمطها مع العشيرة من حيث التكاتف والتضامن والحماية والتعصب والزعامة .(فالحزب في العراق هو عشيرة سياسية) . (والعشيرة هى حزب اجتماعي) . واهم سمات هذه الشخصية الباطنية ان قيمها الاجتماعية والاقتصادية تقوم وفق منطق الغنيمة والسلب والنهب والاستغلال للدولة , لانها تشكل الاساس لنظامها الاجتماعي والثقافي المتوارث من الصحراء والقبيلة والريف , فيما تقوم الدولة الحديثة ضمن سياق التجارة والانتاج .
وابلغ دليل على ان الدولة عضو غريب على الجسم العراقي هو عدم قدرتهم على تاسيس الدول الحديثة بالمقارنة مع تشكيل السلطات القمعية الحاكمة الاخرى , وان كلا الدولتين اللتين قامتا في العراق المعاصر قد تم تاسيسهما من قبل الاجانب المحتلين .فالدولة عام 1921 اسسها الانكليز , فهم عينوا الحكومة المؤقتة برئاسة عبد الرحمن النقيب ونصبوا فيصل ملكا على البلاد وكتبوا الدستور واسسوا الجيش العراقي وعينوا الوزراء والمستشارين ورسموا الحدود مع دول الجوار . فيما اسس الامريكان الدولة الجديدة عام 2003 وعينوا مجلس الحكم الانتقالي وحلوا الجيش العراقي وشكلوا بديلا عنه واعطوا الملامح العامة للدستور الديمقراطي وغيرها . والملاحظ بان العراق ما ان تحرر من سلطة الاجانب وحصل على الاستقلال الوطني من كلا الدولتين المحتلتين حتى دخل في دوامة خطيرة من الاحتراب الداخلي والانقسام الاجتماعي والصراع السياسي , تمظهرت بانقلابات عسكرية وانتفاضات عشائرية وتمردات اثنية وحروب داخلية وخارجية , وكانهم غير قادرين على ادارة بلدهم لوحدهم ودون مساعدة الاجانب . فبعد ان حصل العراق على الاستقلال بتاريخ 3/10/1932 ودخل عصبة الامم – كاول دولة عربية مستقلة – حتى حصل تمرد الاثوريين والبرزانيين في الثلاثينات , وانتفاضات العشائر بالفرات الاوسط والجنوب عام 1936 وانقلاب بكر صدقي عام 1936 ورشد عالي الكيلاني عام 1941 وثورة تموز 1958 وانقلاب 1963 و1968 والحرب مع الاكراد في السبعينات ومع ايران بالثمانينات واحتلال الكويت عام 1990 وانتفاضة عام 1991 وغيرها . وكذا الامر مع الدولة التي اسسها الامريكان عام 2003 . فما ان انسحبت قواتهم عام 2011 بمقتضى (اتفاقية الاطار الاستراتيجي) بين الحكومة العراقية والولايات المتحدة الامريكية عام 2008 حتى ارتفعت وتيرة الارهاب الدموي والتمرد السني , وسيطر تنظيم الدولة الاسلامية في العراق وبلاد الشام المعروف اختصارا بداعش عام 2014 على ثلاث محافظات سنية وهى (الموصل وصلاح الدين والانبار) ولم يتم تحريرها الا بعد انطلاق فتوى الجهاد الكفائي التي اعلنها المرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني وتشكيل فصائل الحشد الشعبي الشيعي وبمساعدة الجمهورية الاسلامية الايرانية وقوات التحالف الدولي .
واما الدليل الاخر على عدم قدرة العراقيين على تاسيس الدولة وترسيخها بهذا المسار هو صراعهم فيما بينهم على الزعامة والقيادة والرئاسة , وهو مايفسر قيام الانكليز باستيراد الملك فيصل الاول من الحجاز لادارة العراق وحكمه , وعدم اختيار عراقي لهذه المهمة , حتى سخر من هذه الظاهرة السلبيه الشيخ علي الشرقي بقوله :
قومي رؤوس كلهم ارايت مزرعة البصل ؟
وهو الامر المشابه لما حصل قبل اربعة قرون , عندما عينت عشائر المنتفك احد الوافدين من الحجاز – ادعى انه من الاشراف – ويدعى (حسن بن مانع) شيخا عليهم اتخذ احفاده فيما بعد تسمية ال سعدون , وسيطروا على المنطقة الجنوبية بالتعاون مع الدولة العثمانية طيلة اربعة قرون (1530 – 1918) .
واما المفارقة الكبيرة التي وجدناها فهى ان اقوى واشرس الموانع التي تقف بوجه الدولة وترسيخها وهيمنتها في العراق هم اصحاب السلطة انفسهم , فهم يريدون السلطة وليس الدولة , لانهم يعرفون جيدا ان الدولة عندما تفرض نسقها وسلطتها وهيمنتها واكمال مؤسساتها وتقوية قدراتها وتنمية اقتصادها , انما هو في المدى البعيد يضعف قدرتهم على التمدد على الدولة ويشكل خطرا على سلطتهم , وان الدولة سوف تبتلعهم ثم تلفظهم . وقد ذكر هذا الرأي المفكر السوري المرحوم جورج طرابيشي حول السلطة في العالم العربي وتهميشها للدولة , ولم اتقبله في البدء لاني كنت اعتقد ان تقوية الدولة انما هو في صالح السلطة والاقلية الحاكمة , ولكن ظهر لي فيما بعد ان العكس هو الصحيح . وقد تجلت هذه الظاهرة بوضوح في العراق بعد الانقلاب القومي (البعثي والناصري) عامي 1963 و 1968 عندما اخترقت الاقلية الطائفية الحاكمة الدولة ومقدراتها الامنية والاقتصادية والاعلامية والتعليمية خوفا من انقلابها عليهم . وكذا الامر بعد السقوط عام 2003 حيث عمد الكثير من الاحزاب والشخصيات والميليشيات والطائفيين والارهابيين والعشائريين على تهميش مفهوم الدولة , من خلال عدم بلورة عصبة خاصة بها تاخذ بها نحو افق الاصلاح والبناء .
ظهرت تداعيات فشل مشروع الدولة وبلورة الامة العراقية بعد اسقاط النظام البعثي الحاكم عام 2003 . حيث تلاشت مؤسسات الدولة الامنية والادارية والاعلامية والاقتصادية في ظرف عشرين يوم من المواجهة مع الامريكان , وانفجرت المكونات الاجتماعية والطائفية والدينية والاثنية وهى تعلن عن نفسها . ودخلت البلاد في مستنقع الاحتراب والانقسام والتكفير والتخوين والارهاب والحرب الاهلية بصورة لامثيل لها , وبرزت الى السطح قوى ما قبل الدولة كالعشائرية والعائلية والمذهبية والاثنية , الامر الذي يؤكد الفشل الذريع للدولة في انصهار المكونات الاجتماعية في بوتقة واحدة من التكاتف والتلاحم . واذا كان العراق البريطاني (1921-2003) (دولة تبحث عن امة) فانها بالعراق الامريكي بعد 2003 (امة تبحث عن دولة) .وبالتالي كان الفشل مزدوجا : فشل مشروع الدولة وفشل بناء الامة . وبهذا الصدد ذكر الكاتب ابراهيم الحيدري في كتابه (الشخصية العراقية – البحث عن الهوية) (ان ثمانية عقود (1921-2003) من تاريخ الدولة العراقية الحديثة لم تكن كافية لبناء (امة عراقية) ذات ذاكرة تمتد عميقا في التاريخ , لان الدولة المنتجة لها لم تكن موحدة في هوية وطنية واحدة لها مقومات مادية ومعنوية واضحة , مما جعل كل هوية من الهويات الفرعية معنية قبل كل شيىء بضمان حقوقها السياسية وتامين مصالحها الاقتصادية والثقافية , وبالتالي اقوى من الهوية العراقية الجامعة ,فكانت الدولة الوليدة الضعيفة ولم تستطع رغم بعض المحاولات القليلة ان تبسط سلطتها , وتقوم بتوزيع الحقوق والواجبات وفق مبدا المساواة بين المواطنين . ولذلك كان هناك تمايز وتمييز سياسي واقتصادي وثقافي ظهر بوضوح سافر خلال العقود الثلاثة الاخيرة) . اذن نستشف من هذا النص ان هناك ثلاث موانع عملت على فشل بناء الامة العراقية وهى :
1 – التمييز السياسي والاقتصادي والثقافي بين العراقيين وخاصة في العقود الثلاث الاخيرة (1968-2003) , حيث تعرض الاغلبية الشيعية والكورد والتركمان الى تمييز وتهميش واضح , تطور في السنوات الاخيرة الى حملة منظمة من الابادة والتصفية والقمع .
2 – عدم وجود ذاكرة تاريخية واحدة بين المكونات العراقية , تعمل على انصهار الهويات الاجتماعية في بوتقة واحدة من المشاعر والتطلعات . فالذاكرة الشيعية التاريخية تختلف عن السنية . وكذا الامر مع الذاكرة القومية الكردية التي تختلف عن الذاكرة القومية العربية .
3 – رغبة الهويات الفرعية بضمان حقوقها السياسية وتامين مصالحها الاقتصادية والثقافية على حساب الهوية العراقية الجامعة . وقد ظهر هذا واضحا وجليا بعد السقوط 2003 عندما تسابقت الهويات الفرعية وجميع المكونات الاجتماعية – وحتى الصغيرة منها – بالحصول على الغنائم والمكاسب والمناصب والوظائف والاموال من الدولة , وبجميع الطرق المشروعة وغير المشروعة , حتى اصبحت الدولة وكانها غنيمة بجب الى الاستحواذ علي اكبر قدر ممكن من اموالها ومقدراتها .
ان المطلع على تاريخ الدولة العراقية الحديثة بعمرها الاول (1921 – 2003) يجد انه تاريخ من الصراعات والثورات والانتفاضات والانقلابات والتصفيات والابادات والاحتلالات والحروب والفتن والاستبداد والقمع والتهميش والتمييز , انه تاريخ طويل من الالام والمعاناة والدموع والقتل والدماء , كانت الضحية الرئيسة فيه هم الاغلبية الصامتة من الشيعة والاكراد , ولكن الاختلاف فيه ان الاكراد كانوا ضحية الدولة القومية العربية العنصرية فقط , التي مارست معهم سياسة الابادة المنظمة والارض المحروقة , حتى وصل الحال ان استخدمت اسلوب العقوبات الجماعية في عمليات الانفال (1986- 1989) وضربهم بالاسلحة الكيمياوية عام 1988 , ناهيك عن العمليات العسكرية والتهجير والاغتصاب والاعدامات الجماعية وخطف النساء والمصادرة والحرق والتهميش والتخوين وغيرها , فيما ان الشيعة تعرضوا للابادة والتصفية المزدوجة بطريقين :
1 – الابادة والتصفية والاستهداف من الدولة الطائفية والعنصرية من خلال الاستهداف الرمزي (التخوين والتكفير والتشويه والمكافحة الثقافية والتهميش والتمييز والاقصاء) , والاستهداف المادي (المقابر الجماعية والاعدامات والحروب والتهجير والاغتصاب والتجويع).
2 – الابادة والقتل من خلال الدفاع عن الدولة القومية والطائفية في حروبها العبثية ومغامراتها وانقلاباتها , فالشيعة كانوا وقود تلك الحروب التي تقوم بها تلك الحكومات من جانب , وضحايا تلك الحكومات القمعية من جانب اخر . والسبب الاعم هو ان الجيش العراقي السابق الذي حله الحاكم الامريكي بول بريمر عام 2003 قد تاسس وفق صيغة – ربما غير موجودة بجميع دول العالم – وهى ان جنوده من الشيعة وضباطه من السنة , فمن الطبيعي ان يكون الجنود هم وقود الحروب وضحاياها الاساسيين , فيما يكون الضباط بالخلف امنين واول الهاربيين عند ظهور بوادر الهزيمة او الانسحاب , كما حصل في الكويت عام 1991 عندما انهزم الضباط وحدهم , ولم يعطوا حتى اوامر الانسحاب للجنود , الامر الذي ادى الى مذبحة تاريخية بطريق الموت بين البصرة والكويت على ايدي طائرات التحالف العربي – الامريكي . واعاد هؤلاء الضباط المشهد نفسه عام 2003 عندما هربوا من المعركة مع الامريكان وتركوا الجنود لمصيرهم المجهول , بل ان الاغلبية منهم اتصل بالامريكان وعرض عليهم الاستسلام والانسحاب من ارض المعركة مقابل تامين سلامتهم وامنهم . وعندما نستعرض الحروب الخارجية سواء اكانت مع اسرائيل عامي 1948 و1973 ومع ايران 1980 – 1988 ومع التحالف العربي – الامريكي لتحرير الكويت عام 1991 والاحتلال الامريكي عام 2003 , والحروب الداخلية واهمها التمرد الكردي خلال الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات , والانقلابات العسكرية والانتفاضات العشائرية , يجد ان اغلب ضحاياها هم من الشيعة , فيما كانت السمعة والمجد والاعلام والصور البراقة والخطابات الحماسية للقادة والرؤساء والوزراء والضباط السنة . وحتى بعد السقوط عام 2003 وتاسيس العراق الامريكي استمر الشيعة بتقديم الاف الشهداء للدفاع عن هذا الوطن المازوم ضد الارهاب , وحماية البلاد من التامر العربي والخليجي , والحفاظ على وحدته من الانفصاليين الاكراد والمتمردين والانتحاريين العرب , ولكن الاختلاف عن الدولة القومية والطائفية السابقة ان الضحايا ليسوا من قبل الدولة واجهزتها الامنية والعسكرية , وانما من الارهاب والقوى الاجتماعية والسياسية الاخرى مثل العشائر والاحزاب والميليشيات , فالدولة بعد السقوط هى مثال الضعف والتسيب والفوضى ولاعصبة لها تحميها وتعززها , بل انها عاجزة ومكبلة ومقيدة , لانها تاسست على التوافق بين المكونات الاجتماعية والانتخابات والحرية والتعددية السياسية والثقافية .
ويبقى السؤال قائما : هل ان العراق دولة تبحث عن امة ؟ ام امة تبحث عن دولة ؟ ام ان العراقيين يبحثون عن كلاهما ؟؟ بمعنى هل ان الخلل في الدولة التي لاتستطيع ان تبلور مفهوم الامة العراقية الجامعة ؟؟ ام ان الخلل بالامة التي لاتستطيع الانضواء تحت عنوان الدولة الموحدة ؟؟ في الواقع ان كلاهما غير متوفران حتى الان . فالدولة رغم الاندماج القسري الذي قامت به السلطات الحاكمة خلال (80) عاما من اجل ترسيخ سطوتها وهيمنتها , مازالت تبحث عن الامة العراقية الجامعة الموحدة وتفتقد وجودها المفترض , بسبب التشظي الكبير بين الجماعات العراقية والتمركز على الذات والانقسام الداخلي والتماهي مع الهويات الدينية والمذهبية والقومية والاثنية والمناطقية والعشائرية الفرعية , ولم تنجح بالتالي من ازالة جدران العزلة والتمايز بين تلك الهويات والمكونات او ارساء مجتمع المواطنة الحقيقية , الامر الذي ادى بالكاتبة الامريكية (ساندرا ماكي) في كتابها The Reckoning الى تحذير الحكومة الامريكية من الانغماس في عملية بناء امة في العراق , لانها لاتوجد بالاصل امة لبنائها !! وكذا الامر مع تلك الجماعات العراقية المتشظية والهويات الفرعية والمكونات الاجتماعية ,فانها مازالت تبحث عن دولة تعمل على توحيدها وانصهارها في بوتقة واحدة من الاندماج والتضامن العضوي , لانها في الاخير لاتستطيع الاستغناء عن الدولة ومقدراتها وامكاناتها وسلطتها , لان الدولة رمز الحياة والوجود والكرامة – كما قال السيد هاني فحص – الا ان الدولة للاسف طرحت نفسها في مواجهة تلك المكونات والجماعات والهويات , وهمشت قيمها الثقافية وذاكرتها التاريخية , وعملت كل مابوسعها على فرض نسقها السياسي والطائفي والقومي على تلك المكونات , وسخرت جميع مقدراتها على تدجين المجتمع وترويضه وحتى اخصائه , الامر الذي ادى بتلك الجماعات – التي نسميها مجازا بالامة العراقية – الى الشعور بالاغتراب عن الدولة والتوجس من قراراتها واهدافها وخطابها السياسي والقومي , وربما التمرد على سلطتها واستبدادها وتفردها بالادارة والحكم , نتج عنه في الاخير ان جعل الدولة في حالة من عدم الاستقرار والقلق , حتى ان الشاعر علي الشرقي وصفها بانها مثل مهد الاطفال (مهزوزا تارة بالشمال وتارة باليمين) , بل ان الروائي غائب طعمة فرمان قد نفى اصلا وجود الدولة في العراق في روايته (المخاض) التي صدرت عام 1973 بقوله (يبدو لي انكم لن تكونوا دولة … انكم شبح دولة وليست دولة .. العراق طوال حياته يسبح في بحر من الفوضى . انتم العراقيون تعودتم على الفوضى ولاتحسون بها , ولكن الرجل من الخارج يحس بذلك راسا) , وبالتالي فان فشل الدولة والامة في العراق ادى الى النتيجة التي اكدها الفيلسوف الالماني (فيختة) بقوله (ان الدولة تجسيم للامة . وان كل امة لاتنسجم في دولة انما هى امة ضعيفة وعاجزة , وان الدولة التي لاتقوم على امة انما هى دولة باردة لاحياة لها) .والمفارقة ان كلا النتيجتين قد تجسدتا في العراق المعاصر . فالامة العراقية المتخيلة لم تنسجم في دولة , واصبحت بالتالي امة ضعيفة وعاجزة . وكذا الامر مع الدولة العراقية التي لم تقوم على امة , فاضحت دولة باردة لاحياة لها .
بمعنى ان فشل الدولة العراقية في تكوين الامة او فشل الامة العراقية في الانسجام مع الدولة انما يرجع الى سببين :
1 – فشل الدولة العراقية في عمرها الاول (1921 – 2003) في توحيد الامة , بسبب طبيعة حكم الاقلية السنية القومي والطائفي وتهميش الشيعة والكورد الذين يشكلون مايقارب (80%) من عدد السكان .
2 – فشل المجتمع بعد السقوط عام 2003 بالارتقاء الى مستوى الدولة , وركونها الى الهويات الفرعية , سيما وان النظام السياسي الديمقراطي الجديد اعتمد مبدا التوافق والمشاركة السياسية لجميع المكونات والهويات والجماعات في الدولة والسلطة على حد سواء .
واعتقد ان من اهم اسباب فشل الدولة والامة في العراق بين عامي 1921 – 2003 هو تفضيل الهوية القومية على حساب الهوية الوطنية , او الترويج للامة العربية على حساب الامة العراقية . فكما ذكرنا سابقا ان الملك فيصل هو اول من استعمل مفهوم الامة العراقية والترويج له من اجل جمع المكونات الاجتماعية في الهوية الوطنية العراقية , الا ان الامر لم يستمر طويلا , اذ سرعان ما انكر – وبحزن – عدم وجود امة عراقية في مذكرته الشهيرة التي دونها في اذار 1933 بقوله (إن البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ، ذلك هو الوحدة الفكرية والملية (الوطنية ) والدينية .فهي والحالة هذه مبعثرة القوى ،مُنقسمة على بعضها ، يحتاج ساستها الى ان يكونوا حُكماء مدبرين .وفي عين الوقت أقوياء مادة ومعنى غير مجلوبين لحسابات أو اغراض شخصية أو طائفية متطرفة ….. وان العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني .وهذه الحكومة تحكم قسما كرديا أكثريته جاهلة، بينه اشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلص منها بدعوى انها ليست من عنصرهم ، وهناك أكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصريا الى نفس الحكومة ،أي عربية إلا أن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه ، والذي فتح خندقا عميقا بين الشعب العربي المنقسم الى هذين المذهبين) . ويبدو ان الشعور بعدم وجود امة عراقية هو من جعل الساسة والضباط الشريفيين بالتماهي مع مفهوم الامة العربية كعامل انجذاب وانصهار وتوحد للمكونات العربية العراقية . لذا اخذت تلك النخبة الحاكمة في عقد الثلاثينات بالترويج لمفهوم الامة العربية , فيما يذكر البعض ان السبب هو عدم عراقيتها ووطنيتها وشعورهم بالغربة عن المجتمع العراقي الذي يعد اهل الجنوب المرتكز الدلالي فيه اولا, واعطاء الشرعية لحكمها بحسب الرابطة القومية العربية التي استندت اليها الثورة العربية ضد العثمانيين عام 1916 والتي قاتل ضمن صفوفها الضباط العراقيين الذين عرفوا لاحقا بالشريفيين , لانهم قاتلوا تحت راية الشريف حسين بن علي بالتحالف مع الانكليز ثانيا. كما ان الحركة الوطنية الاستقلالية التي اطلقت ثورة العشرين ومهدت بالتالي لقيام الدولة العراقية قد تزعم قيادتها الشيعة , وبما انهم اصروا على المقاومة والاستقلال ورفض الانتداب والمعاهدات مع الانكليز , واستمروا في منهج الترويج للهوية الوطنية , فعملت تلك النخب الحاكمة بالتعاون مع الضباط المستشارين الانكليز على تهميش هذا النمط والترويج لنمط اخر وهو الامة العربية , كمعادل موضوعي ومتضاد مع الهوية الوطنية , عززه شعور النخبة الحاكمة السنية بالاقلية في العراق والاغلبية عند العرب . وكان المنظر الاول والداعم الرئيسي للترويج للقومية العربية على حساب الهوية الوطنية هو المنظر القومي ساطع الحصري , واستمر هذا النمط القومي العربي معمولا به حتى السقوط عام 2003. وبهذا الصدد ذكر الكاتب الامريكي اريك دافيس في كتابه (مذكرات دولة – السياسة والتاريخ والهوية الجماعية في العراق الحديث) (في غمار عملية بناء الامة هناك , نموذجان متنازعان فيما يتعلق بالمجتمع السياسي , احدهما النموذج العراقوي والاخر القومي العروبي . وكان هذان النموذجان يتصارعان فيما بينهما من اجل الهيمنة , وان عدم قدرة العراقيين على بناء نموذج ناجح للمجتمع السياسي يفسر الى حد بعيد عدم استقرار البلاد اجتماعيا وسياسيا) .
رابعا – الحلول والمعالجات لمشكلة الدولة في العراق (الحلول)
بعد ان ظهرت نتائج فشل العراقي البريطاني (1921- 2003) , وبعد ان تاكد فشل العراق الامريكي (2003-2021) بعد الخيبات الكبيرة من الارهاب والتسيب والفوضى وانعدام العصبة والفساد ونقص الخدمات وانبعاث المكبوت السياسي والاجتماعي المتراكم عبر التاريخ ضد الدولة , ان الاوان التفكير بانتاج العراق العراقي , وبلورة مفهوم الدولة الواقعية التي تؤسس لنمط جديد ياخذ بالحسبان عوامل الفشل بالعراق البريطاني والامريكي على حد سواء . وقد يقترح احدهم اعطاء فرصة او مجال زمني للعراق الامريكي مثلما اعطى مجال زمني للعراق البريطاني استمر اكثر من (80) عام , سيما وانه يحمل الكثير من الايجابيات بالقياس الى العراق البريطاني اهمها القيم الليبرالية والنظام الديمقراطي التوافقي والحريات العامة والتعددية السياسية والثقافية , الا انه – وكما يبدو – ان لامستقبل زاهر لهذا النظام , فالقيم الليبرالية والديمقراطية والتعددية هى غريبة على النظام المعرفي والنسق الثقافي للمجتمع العراقي , بل انها غريبة حتى عند الانتلجنسيا العراقية العصرية ذات الاصول الريفية التي تقدس الايديولوجيا والمناصب والهبات اكثر مما تقدس الحرية والكرامة والتعددية , سيما بعد استفحال مظاهر الارهاب والتمرد والفساد والميليشيات والمحاصصة , واختراق قوى ما قبل الدولة كالطوائف والاثنيات والعشائر والصعاليك والعوائل والسراتية والاعيان للنظام السياسي الحاكم , ولكن تبقى اهم الاختلالات والسلبيات في العراق الامريكي هو انعدام وجود العصبة السياسية والاجتماعية لها , رغم ان المفترض ان يكون الشيعة هم عصبة الدولة الذين ياخذون بيدها نحو افق الاصلاح والتقدم والتوحد , بسبب القرون الطويلة من المظالم والتهميش والاقصاء الذي تعرضوا له , الا ان المؤسف له انهم تنصلوا من هذه المسؤولية , وانشغلوا بدل ذلك بالصراعات السياسية والحزبية والاستحواذ على المغانم والمناصب والمكاسب , حتى اندمجت جميع الاحزاب والمكونات والفئات والطبقات بالدولة , فيما اخذت – من جانب اخر – تهاجم الدولة بلا هوادة . ولم يقتصر الامر على النخبة والسياسيين فحسب , بل وحتى العامة من الشيعة الذين حصلوا على مكتسبات معنوية ومادية لم يحصل عليها ابائهم واجدادهم طيلة قرون طويلة , مثل ارتفاع مستوى المعيشة وادراج اكثر من 70% منهم ضمن الطبقة الوسطى ومشاركتهم الفاعلة في اغلب مناصب الدولة السياسية والوزارية والامنية والعسكرية والاكاديمية والنيابية والقضائية وغيرها , ولكنهم ايضا انساقوا الى الحملات الاعلامية العربية والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي – واهمها الفيس بوك – الذي شن حملة شعواء من التخوين والتشويه والافتراء والكذب على الدولة العراقية الجديدة , تصاعدت بقوة بعد احداث التظاهرات التي بدات في في تشرين الاول عام 2019 في جنوب العراق ضد حكومة عادل عبد المهدي , بدفع وتحريض من السفارة الامريكية ومؤسساتها الاعلامية والشعبية ومنظمات المجتمع المدني في كردستان والحزب الشيوعي العراقي وتحريض الاعلام الخليجي والطائفي والبعثي , بسبب عقده الاتفاقيات الاقتصادية مع الصين واوربا وعلاقاته الجيدة مع ايران , رغم ان المعلن من قبلهم هو المطالبة بالاصلاح والقضاء على البطالة ونقص الخدمات وغيرها , الا ان استقالة عبد المهدي وتعيين الكاظمي المقرب من امريكا والعرب والاكراد بدلا عنه , وتلاشي التظاهرات ورفع خيم الاعتصام رغم تدهور الاوضاع الاقتصادية والامنية وارتفاع الاسعار لجميع المواد الغذائية والانشائية والكهربائية والخدمات بعد رفع سعر الدولار وحرق المستشفيات وانهيار المنظومة الكهربائية بالكامل وتصاعد العمليات الارهابية , كلها ادلة قاطعة ان التظاهرات لم يكن هدفها الخدمات والبطالة وغيرها , وانما كانت مسيرة من جهات دولية وخليجية نافذة ومسيطرة على العقل الجمعي العراقي – وخاصة الشيعي – كان نتيجتها ان تلاشت الدولة في الجنوب – التي هى في الاصل هشة – وتصاعدت سلطة العشائر والمتظاهرين والفوضويين واصحاب (الستوتات) الذين يقطعون الطرق والجسور ويعزلون المسؤولين ويهينون الاجهزة الامنية والضباط والجيش والشرطة .
في الواقع لايمكن اعطاء وصفات جاهزة ومعالجات سحرية لحل مشكلة الدولة في العراق التي تراكمت خلال (100) عام , سيما بعد التداخل المعقد بين الفئات والمكونات الاجتماعية من جانب , والتدخل الدولي والاقليمي في مشاكل المنطقة بعامة والعراق بخاصة , وخشيتها من انعكاس الاحداث والتطورات والمعالجات الجذرية عليها من جانب اخر . ولكن يمكن طرح مقاربات عامة عن هذا الموضوع عسى ان تتوفر الفرصة المناسبة لتطبيقها :
اولا : التقسيم : يمكن القول ان التقسيم هو افضل الحلول الجذرية للتاسيس الخاطىء للدولة العراقية التي تاسست عام 1921 . فمن المستحيل جمع المكونات العراقية في دولة واحدة ناجحة ومستقرة . واذا بقيت الدولة بهذا الشكل فان احفادنا سيكتبون عن معاناتهم من هذه الدولة الفاشلة بعد (100) عام اخرى . وبما ان التقسيم قد يزيد من حدة الاحتراب والانقسام والارهاب في العراق , سيما الاعتراض الاقليمي والدولي المؤكد , فان الحل هو البحث عن خيارات اخرى .
ثانيا : الكونفدرالية : هو افضل الحلول الواقعية رغم انه غير مطروح في الدستور العراقي الدائم عام 2005 . وميزة هذا الحل انه يعزل الفئات الاجتماعية تدريجيا عن بعضها الاخر , ويلغي رغبة المكونات الاخرى بالاستحواذ على مقدرات الدولة لصالحها بالطرق المشروعة وغير المشروعة , والاعتماد على نفط الجنوب واستغلاله من قبل المكونات الاخرى التي لاتشارك بدينار واحد في الموازنة واهمهم الاكراد والسنة .
ثالثا : الفيدرالية : وهو من الحلول القانونية والواقعية التي اقرها الدستور العراقي عام 2005 الذي يعزل المكونات الثلاث (الشيعة والاكراد والسنة) عن بعضهم الاخر , الا انه لاينهي قضية الاحتراب والانقسام الاجتماعي والاستحواذ على المقدرات والاعتماد على نفط الجنوب فقط , وبقاء تلك المكونات عالة على الشيعة فقط دون ان تقدم اي واجبات .
رابعا : الدولة المركزية الديكتاتورية الشمولية التي تجمع المكونات الاجتماعية والسياسية قسرا في نظام سلطوي واحد لامجال فيه للحريات والديمقراطية والتعددية , كما هو معمول فيه اثناء الحقبة القومية (الناصرية والبعثية) (1963 – 2003) على اعتبار ان التعددية والديمقراطية والحرية لاتلائم الشعب العراقي المتخلف . وبالطبع لاحاجة الى القول ان التجربة خلال اربعين عاما اثبتت فشل هذا النظام الديكتاتوري في العراق , الذي ادى به الى مستنقع الاستبداد والطائفية والعنصرية والحروب والفتن والانقلابات والانتفاضات والتمردات والحصارات والابادات وغيرها .الا ان البعض يطالب بحكم فردي عادل او المستبد المستنير – بحسب الادبيات الاوربية والعربية في عصر النهضة – يضرب بيد من حديد مظاهر التسيب والفوضى التي تخلفها عادة الديمقراطية في الانظمة العربية . واذا تجاوزنا استحالة الجمع بين النقيضين (الاستبداد والعدالة) فان هذه الاطروحة تبقى قفزة بالمجهول ورجما بالغيب , فالتفريط بالديمقراطية والحرية والتعددية على امل قدوم المخلص والمنقذ والقائد الاوحد , الذي ياخذ البلاد الى افق التطور والعدالة والاستنارة , انما هو دعوة خطيرة للطغيان والديكتاتورية , فالحاكم المستبد يجب ان يقوم بسلوكيات من التجاوز والقمع والقتل من اجل فرض نسقه ونظامه وسطوته , ولانعرف ماهو الوقت المقرر او المطلوب حتى ينجح بعمله هذا ؟, وربما تستمر المرحلة الانتقالية عشرات السنين او عقود طويلة حتى يظهر لنا عدله او انجازاته , وقد يبقى للابد حاكما اوحدا فردا صمدا .
خامسا : النظام الديمقراطي التوافقي التعددي اللامركزي المعمول به حاليا بعد السقوط عام 2003 الذي اسسه الامريكان بالتعاون مع اقطاب المعارضة العراقية السابقة للنظام البعثي الحاكم . وهو – كما قلنا – يعاني من اختلالات كبيرة وخطيرة في نظامه السياسي واهمها الارهاب والفساد والميليشيات والعشائر , الا ان البعض يطالب باعطاء هذا النظام مزيدا من الوقت , (لان الديمقراطية عادات وليس محفوظات) – كما قال علي الوردي , وهى تنضج وتتطور من خلال الممارسة .

الخلاصة
مرت الدولة العراقية الحديثة خلال (100) عام من تاسيسها عام 1921 وحتى هذا العام 2021 باربع انظمة سياسية حاكمة متمايزة وهى :
1 – النظام الملكي الدستوري شبه الديمقراطي والليبرالي الذي يغلب عليه طابع الاستئثار بالسلطة من قبل الضباط الشريفيين (1021-1958) .
2 – النظام العسكري القاسمي السلطوي والقومي (البعثي والناصري) الاستبدادي (1958-1968) .
3 – النظام البعثي الشمولي والعشائري والاسري والطائفي والعنصري (1968 – 2003) .
4 – النظام الديمقراطي الدستوري التوافقي التعددي الذي يفتقد للعصبة والضابطة والمخترق من الفئات الاجتماعية والسياسية (2003 – 2021) .
وتكمن المفارقة ان جميع تلك الانظمة تعاني من اختلالات وسلبيات خطيرة يتعلق اغلبها بغياب القيم الليبرالية والديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية والحريات العامة , وحتى النظام السياسي بعد السقوط عام 2003 توفرت فيه الكثير من تلك القيم والحريات , الا انه اخذ يعاني من تحديات واختلالات ايضا , اهمها رغبة الاقلية السنية بالعودة الى الوراء والاستحواذ على السلطة من خلال استخدام ورقة الارهاب والطائفية .
كما مرت الدولة العراقية الحديثة منذ تاسيسها عام1921 باطوار متعددة من حيث الانظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية . واذا اعتمدنا منهجية عالم الاجتماع الالماني (ماكس فيبر) في تقسيمه للسلطات الى الانواع الثلاث , فانها ستكون في العراق بحسب الترتيب الاتي :
1. السلطة التقليدية : التي تعني هيمنة ونفوذ قوى الاسرة والقبيلة والطائفة والاثنية والتقاليد الاجتماعية . وقد يطلق عليها تسمية (الشرعيه التقليديه) التي تستند الى مصادر دينيه او عصبيه قبليه او اسريه او مناطقيه او غيرها . ونجد ان السلطة التقليدية في العراق قد تجسدت في العهد الملكي بين عامي 1921-1958، الذي تميز بهيمنة القوى البدائية وسلطة القبيلة والعائلة وشيوخ العشائر والنسق القرابي.
2. السلطة الكارزمية Charismatic(الملهمة): التي تعني هيمنة القائد الرمز الاوحد وسيطرته على مقدرات الدولة , وقد يستعين على ذلك بتنظيم حزبي او عسكري, ويطلق عليها تسمية (الشرعيه الثوريه) التي تعني الاستيلاء على السلطه او الحكم من خلال الثوره او الانقلاب العسكري . وقد تجسدت السلطة الكارزمية في العهد الجمهوري بين عامي 1958-2003، والذي تميز بهيمنة القادة العسكر الملهمين، الذين يمتلكون – بحسب اعتقادهم – قدرات خاصة وفائقة يستطيعون قيادة الدولة دون مشاركة المجتمع او مراعاة لواقعه او حقوقه او حريته.
3. السلطة الديمقراطية (القانونية) : التي تخضع الى نظام من القواعد والتشريعات والقوانين التي تستند الى الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية). ويطلق عليها ايضا تسمية (الشرعيه الدستوريه) التي تستند نظريا الى اطروحة الحكم بمقتضى الدستور والانتخاب واعتبار الشعب مصدر السلطات . وقد تجسدت نظريا بالنظام السياسي الذي تبلور في العراق بعد عام 2003، الذي قد لا تنطبق عليه الكثير من صفات الديمقراطية والقانونية المثالية ، بحكم المرحلة الانتقالية التي يمر بها حاليا، الا انه تميز في اعتماده الفصل بين السلطات الثلاث والتعددية السياسية والنزعة الدستورية والليبرالية .
واما الكاتب العراقي الدكتور علي السعدي , فقد اكد ان العراق عبر تاريخه المعاصر مر بمراحل من الأنظمة السياسية ، التي اختصرت معنى الدولة بكل مقوماتها ،يمكن تقسيما الى ثلاث مراحل :
١ -الدولة الكابوسية : التي سقطت بعملية استئصال مؤلمة بعد أن استهلكت الكثير من الجهود والإمكانيات والأزمنة ، (تأخذ كل شيء – وتعطي ماتريد) وهى الدولة العراقية في زمنها الاول (1921 – 2003) .
.٢ – الدولة الرومانسية : وقد ساهم الاعلام في صنعها بعد ٢٠٠٣ ، لكنها ولدت عاجزة مشوهة ،وتلقت الكثير من الضربات ، فترنحت وخرجت عن السياق للأداء الطبيعي ، .لكنها بقيت في المتصور ان عليها القيام بكافة مهماتها ،وهذه النوع من (الدولة ) لايتوقع لها ان تنهض، أو تؤدي ماعليها , بل سيستمر عجزها ويتفاقم ، بصرف النظر عما ستؤول إليه النتائج اللاحقة .
٣ -الدولة الواقعية : وهي الوحيدة الممكن قيامها ، لكنها تحتاج الى بنية فكرية ثقافية سياسية ، وحاضنة اجتماعية ، تتولى اعادة تعريف شامل لمعنى الدولة الحديثة ومهماتها وعلاقتها بمواطنيها ..وهذا مالم يعد متوفراً وليس متوقعاً توفره .أقله في المدى المنظور .
لذا سيبقى العراق يعيش مرحلة هلامية بين دولة رومانسية ليس من المتوقع قيامها دون الوقوع بالمزيد من العجز .وبين دولة واقعية يصعب قيامها , فالدولة الواقعية تصنعها الاعتبارات وليس الشعارات .ولأن الشعار مازال طاغيا على حساب الإعتبار .لذا فعلى العراق ان يقطع أزمنة أخرى للوصول الى مرحلة بناء الدولة الواقعية.أسوة بالشعوب المتطورة .
في الختام يجب الاعتراف ان العراق السياسي الحديث الذي تبلور بعد الحرب العالمية الاولى غير قابل للحياة والتطور والازدهار مالم تطرح قضية التاسيس الخاطىء للدولة العراقية عام 1921 على بساط البحث والمصارحة والتحقيق لان من المستحيل ان تقبل الاقليات الكبيرة (السنة والاكراد) الانصهار في الوحدة الوطنية الجامعة او النظام الديمقراطي التعددي دون ابتزاز او استحواذ . وقد يطرح البعض اراء نظرية او يوتوبية حول امكانية التعايش والتطور اذا توفرت ارادة سياسية تعتمد نظام المواطنة والعدالة والسلم الاهلي او الحاكم العادل والقائد المستنير الذي يتبنى معيار الكفاءة والنزاهة في الادارة والحكم وغيرها من المفردات المثالية والوصفات الجاهزة التي تردد باعلام دون وعي او تحقيق . ويضربون مثلا عن ذلك (مهاتير محمد) رئيس وزراء ماليزيا الذي نقلها من التخلف الى التطور والازدهار . في الواقع لايمكن الجزم او نفي ظهور مثل هذا القائد والمصلح في العراق , فلانعرف مايضمر الغيب من احداث في المستقبل القريب او البعيد , ولكن اجد من الصعوبة بمكان تحقيق ذلك في العراق لوجود ثلاث معرقلات :
الاول : صعوبة ظهور مثل هذا القائد المتفرد والتاريخي في العراق , لان الفرد في هذه البلاد ينظر لتحقيق المصلحة الانية والشخصية والاستحواذ والنظرة الغنيمة للدولة اولا , وليس الخلود التاريخي الذي يتحقق من خلال الاصلاحات والقرارات الاستراتيجية . بمعنى ان لا يخرج عن النظام الاخلاقي والثقافي والفكري والسياسي لهذا المجتمع , والذي هو بالاصل من مجتمعات العالم الثالث .
الثاني : صعوبة توفر الظروف المساعدة والاجماع الشعبي ودعم المكونات الاجتماعية والاثنية والمذهبية والدينية والقومية وتفاعلها مع قرارات واصلاحات هذا القائد المستنير والحاكم العادل .
الثالث : صعوبة الاجماع على هذا القائد بسبب ازدواج القيم عند العراقيين . وهذا الرأي طرحه الدكتور علي الوردي . فبحسب الرأي الذي ذكرناه سابقا حول ان العراقي عنده شخصيتان تقعان تحت تاثير لاشعوري من نظامين من القيم (المدنية الظاهرية) و(العشائرية الباطنية) فان القائد الذي يريدونه من ضمن أي القيم يكون ؟؟ بمعنى ان العراقي – وبحسب القيم المدنية والعصرية – يريد القائد العادل الذي يحقق المساواة والنظام والتطور وسيادة القانون ويحارب الواسطة والمحسوبية والتملق . الا انه من جانب اخر – وبحسب القيم العشائرية والريفية – يفضل القائد الذي يشبه الشيخ النهاب الوهاب الذي يقرب اهله وعشيرته وحزبه وطائفته , ويبذل الاموال والمناصب والمغانم للاقارب والحوشية واهل المنطقة والمحلة . لذا تجد العراقي يرفع صوته عاليا في المقابلات والمحافل والاعلام – وخاصة بالفيس بوك مؤخرا – وهو يطالب بالدولة المدنية والعدالة والمساواة وسيادة القانون ورفض الواسطة والمحسوبية , ولكن نفس هذا العراقي وما ان يعرف ان احدا من عشيرته واقاربه وحزبه اصبح له مركزا او منصبا بالدولة , حتى يسعى اليه راكضا من اجل تحقيق المطالب غير المشروعة له او لاولاده او اخوانه من قبيل الوظائف او المناصب او العقود او المقاولات وغيرها . وهذا الازدواج بالقيم من الصعوبة ان يفرز قائدا يكون عليه الاجماع الوطني , لانه اذا توفر قائدا مدنيا عصريا رسخ سلطة القانون والعدالة والمساواة , انتقده العراقيون وهاجموه بحسب القيم العشائرية والريفية التي تقدر القرابة والواسطة والمحسوبية , وبالعكس اذا برز قائدا بحسب القيم الريفية وقرب عشيرته واقاربه ومنطقته وحزبه , فانهم يهاجمونه بحسب نظام القيم المدنية والعصرية والمثالية . وقد رفض الوردي وصف هذا الازدواج عند المثقفين والمتعلمين والعامة من العراقيين بالنفاق لانه تصرف لاشعوري او واعي من قبلهم , فيما انا اجد هذا السلوك اذا حصل عند المثقفين والمتعلمين هو قمة النفاق والازدواجية , ولكن اذا حصل من قبل العامة من الناس او السديم فانه لايقع ضمن خانة النفاق , فالازدواجية عند العوام هى لاشعورية . واما اذا اعتبرنا المتعلمين والمثقفين في العراق هم عوام في سرائرهم واعماقهم فان هذا بحثا اخر .
ذكر الوردي اراء كثيرة حول صعوبة ظهور الزعيم في المجتمع المزدوج , لانستطيع ذكرها كلها , ولكن ندرج اهمها في كتابه (وعاظ السلاطين) (ومشكلة المشاكل في مجتمعنا الراهن انه مزدوج , فهو يريد زعيما , ولكنه لايملك في نفسيته نزعة التقدير اللازمة لظهور الزعماء ….. ان المجتمع المزدوج يقل فيه ظهور الزعماء الاقوياء في الغالب , فكل زعيم يظهر في هذا المجتمع يقابله الناس يالجدل والشغب والانتقاد ….. والزعيم لايعتمد في زعامته على مواهبه فقط , انما هو يعتمد ايضا – كما قلنا – على تقدير الناس له وتشجيعهم اياه . والزعيم في المجتمع المزدوج لايجد تشجيعا او تقديرا الا بمقدار ضئيل … ان الزعيم يخلق الامة وهى تخلقه في الوقت ذاته , فالامة لاتستطيع ان تخلق من شخصا تافه زعيما . وكذلك لايستطيع الشخص الموهوب ان يكون زعيما في امة لاتقدره … ان الزعيم يحتاج الى تقدير اجتماعي عام لكي يستطيع النهوض برسالته . فالزعيم لاينهض بشخصيته وحدها . والناس حين يقدرون الزعيم يخلقونه خلقا جديدا , ولهذا تجد الزعماء الاقوياء يظهرون في البلاد التي تكون نزعة التقدير فيه قوية …. ومن يقارن العراق بسائر البلاد الشرقية يجده قاحلا من الزعماء المشهورين …فنحن في اعمالنا بدو نحتقر الضعيف ونحترم القوي . واما في افكارنا افلاطونيون ننشد المثل العليا) .الدكتور سلمان الهلالي – جامعة ذي قار .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *