اسم الكاتب : سلمان رشيد محمد الهلالي
ايها الانسان تفوق على نفسك …. (نيتشة)
الانساق العراقية : هى الانماط الثقافية والسلوكية والنفسية التي تميز الشخصية العراقية بخاصة والمجتمع العراقي بعامة عما سواه من الشخصيات والمجتمعات الاخرى في العالم ,والتي تراكمت عبر التاريخ من خلال التفاعل بين الايكولوجيا(البيئة الجغرافية) من جانب وبين التحولات والتطورات والتاثيرات والتداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جانب اخر . وقد ذكر العديد من الكتاب والمفكرين العراقيين هذه الانساق وانماطها في مقالاتهم ودراساتهم ومؤلفاتهم كشذرات متفرقة وظواهر منفصلة ولم يذكروها بالاسم الصريح , وانما وصفوا مفاهيم واراء وسلوكيات شخصية ومجتمعية عامة , ولم يدرجوها ايضا في كتب خاصة او مستقلة (وهو مشروع عندي قيد الدراسة) واولهم الشيخ علي الشرقي في مقالاته واشعاره المتعددة , ثم علي الوردي في مؤلفاته التسعة المثيرة للجدل وعبد الجليل الطاهر(وخاصة كتابه اصنام المجتمع) وسيار الجميل في مؤلفاته ومقالاته ومحاضراته (وخاصة محاضرته “الجغرافية الثقافية للعراق الحديث” التي ادرج فيها اصطلاح الانساق الثقافية العراقية ولكنه يختلف عن موضوعنا) وفالح عبد الجبار في مؤلفاته ومقالاته (وخاصة كتابيه : “في الاحوال والاهوال المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف” و”العمامة والافندي”) وثامر عباس في مقالاته ومؤلفاته (وخاصة كتابيه “الجغرافية الشقاقية” و”الهوية الملتبسة”) وشاكر شاهين(وكتابه العقل في المجتمع العراقي) وابراهيم الحيدري في مقالاته ومؤلفاته (وخاصة كتابيه “تراجيديا كربلاء” و”الشخصية العراقية البحث عن الذات”) وعلي عنبر السعدي في مقالاته ودراساته ومؤلفاته (وخاصة كتابه العراق غمد السيف ام درب المعبد) وقاسم حسين صالح في دراساته ومؤلفاته (وخاصة كتابه المجتمع العراقي تحليل سايكو – سيوسولوجي لماحدث ويحدث) وباقر ياسين (وخاصة كتابيه “شخصية الفرد العراقي” و”تاريخ العنف الدموي في العراق”) وميثم الجنابي في مقالاته ومؤلفاته (وخاصة كتابيه “اشجان واوزان الهوية العراقية و”التوتاليتارية العراقية”) وعبد الخالق حسين في مقالاته ودراساته في موقع الحوار المتمدن ورسول محمد رسول في مؤلفاته (وخاصة كتابه نقد العقل الاصلاحي قراءة في جدلية الفكر العراقي الحديث) وناجي عباس مطر الركابي (وخاصة كتابه الاساطير المؤسسة للعقل الثقافي العراقي) وغيرهم . وقد استطعت اضافة الاغلبية من الانساق التي جمعتها من خلال القراءات والدراسات الخاصة والاكاديمية بتاريخ العراق السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي , وقسمتها الى انساق بدائية – او اصلية – تشكلت خلال تمرحل التاريخ الرافديني العراقي القديم , وانساق عصرية تبلورت من خلال التحولات والتطورات والاحداث المفصلية التي انتابت المجتمع العراقي في العصر الحديث . واهم هذه الانساق هى : ظاهرة النزعة المثالية والتماهي مع الايديولوجيا والازدواجية الشخصية والتفكير الشعري والانغماس بالشان الادبي والسياسي وغياب التفكير المعرفي وعصاب الغرب ونمط الغواية والفتنة والمغالطات واحتقار الضعيف وتقديس القوي وظاهرة (التهنبل) و(الخبن) والتهويل وعبادة الاصنام البشرية (شيخ العشيرة ورجل الدين ورجل السلطة) والادعاءات الفارغة والوعي الزائف والتسامي عن الواقع وسايكولوجية الحقد وايديولوجية الكراهية وادلجة العقل وعقدة كيس الحاجة عند الاقليات والخصاء عند المثقفين الشيعة والحنين للاب الميت عند السنة وندرة التفكير المعرفي و(التناقض والتسلط والدموية) والخضوع للمتخيل القومي والسلطوي والتنافر بدل التكامل والانتماء التقوقعي وتصدع البناء النفسي وترسيخ القلق وصراع الانتماءات ونقل الولاءات والانعزال الاجتماعي والتذمر الطفولي والحكم الشعبوي وتمجيد الذات وعقدة البطل الشعبي والتلقين التربوي وصراع القيم المدنية والريفية والمقدس والمدنس في النظرة للقوميات والامم والفهم الشعبوي للمصطلحات والمفاهيم والرضوخ للمركزية السنية والصرع الايراني وشيزوفرينا الوعي الجغرافي والتقاعس والكسل والخبالية والعدوى الوجدانية والخضوع المطلق للاعلام والتوق للقائد الرمز والتماهي مع الجلاد وغياب التفكير الجدلي والنقدي وترسيخ الوعي الدنيىء والعدوى الوجدانية ونمط المبالغة والتعميم والتناقض بين الواقع والمثال والدولة الغنيمة ومهادنة الطائفية والعنصرية والنستولوجيا (التوق غير السوي للماضي) والنرجسية وتضخم الذات وسبات العقل والتفكير الوظيفي والانفعالية والعداوة المطلقة والشاملة والبارانويا والتغابي والتذاكي في الموقف الواحد والدوغمائية والثقافة البطريريكية والقابلية للعبودية والتدين الطقوسي الزائف وتغير الاهواء وتقلب الامزجة والتنازع الدائم والهياج الجمعي وتشويه الاخر والهيام الكاذب بالمثل العليا ونمط الشقاق والنفاق والمخاتلة والنزعة الخطابية والثورية والعنف المجتمعي وووووو.
والسؤال الذي يطرح نفسه : هل ان هذه الانساق العراقية هى ايجابية في مطارحاتها العامة ام سلبية في تداعياتها ؟ ؟ لاحاجة الى التفكير العميق في القول : ان نتائج هذه الانساق على الواقع العراق في الماضي والحاضر (ومن المؤكد حتى على المستقبل) هى سلبية بالمطلق وسيئة بالمجمل , والدليل عندنا الواقع المعاش في البلاد والشاهد العيني الذي نراه يوميا (والشاهد يدل على الغائب) كما يقولون . فالتراجع الحضاري والنكوص المدني والانحلال القميي والاحتراب الاثني والانقسام الاجتماعي والحال المزري والتناشز السياسي والغياب المعرفي والتاخر الاقتصادي والتخلف التربوي والتشظي الثقافي ووووووو وغيرها من السلبيات والماخذ التي يرزح تحت ظلها المجتمع العراقي تؤكد هذه الفرضية . كما ان نظرة سريعة على التاريخ العراقي العام – سواء اكان القديم منه او الاسلامي او الحديث – تجد التراجيديا الغامضة باجلى مظاهرها بسبب افرازات تلك الانساق وتداعياتها , لان الانساق كما انها احدى اهم افرازات الواقع من جانب , الا ان لها نتائج موضوعية على الارض من جانب اخر , حتى انها قد تعيد تشكيل الواقع – او ربما تخلق الواقع الذي تريده – اي ان العراقي – في الاخير – هو ضحية انساقه التي صنعها بنفسه , واذا كان جورج طرابيشي يقول(نحن صنعنا العصر الذي صنعنا) فاننا في العراق نقول (نحن صنعنا الانساق التي صنعتنا) .
وربما قد يعترض احدهم على هذه الاطروحة بدعوى ان التراجيديا العراقية الغامضة ليست سبهها تلك الانساق العراقية الفاعلة التي ذكرتها , وانما سببها هو الظلم والاستبداد والديكتاتوريات والاحتلالات التي حكمت البلاد طيلة القرون الثلاثين الاخيرة , واذلت البلاد والعباد واسهمت بصورة رئيسية وفاعلة بعملية التراجع الحضاري والتاخر الاقتصادي والاحتراب الاهلي . في الواقع لااحد ينكر دور الاستبداد السياسي في بلورة تلك الماساة وترسيخها في العراق , ولكن قبل ذلك يمكن طرح الاسئلة الاتية : الا نجد ان للانساق العراقية الفاعلة دورا في تاصيل ذلك الاستبداد وديمومته من خلال نسق (القابلية للعبودية وايديولوجية الحقد وسايكولوجية الكراهية) دورا رئيسيا في صناعته وصياغته ؟ الا نجد في نسق (الوعي الدنيىء) – بلغة هيغل – الذي يعد احد اهم تمايزات وتمظهرات الانساق العراقية دورا في قيام تلك الديكتاتوريات واعادة انتاج نفسها في كل مرة ؟ ولكن مع ذلك يجب الاعتراف بحقيقة محددة : ان الانساق – وكما لها دورا اساسيا في صناعة الاستبداد وقيامه – الا انها من جانب اخر كان لها دورا رئيسيا في بلورة انساقا خاصا بها تشكلت على اسس محددة , كااحدى اهم افرازات الطغيان والعبودية والظلم كالنفاق والشقاق والتملق والقلق وغيرها .(ادرجها عبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد”) .
وبما اننا حصلنا على اجابة متفق عليها حول سيئات تلك الانساق العراقية وسلبياتها على الواقع والتاريخ والمصير قديما وحديثا , فان السؤال الذي يطرح نفسه عفويا : هل توجد هناك مشاريع معرفية او حلولا واقعية عند الانتلجنسيا العراقية لتجاوز تلك الانساق او تعديلها واصلاحها نحو افق افضل من العقلانية والموضوعية والعلمية ؟ ؟ بل وقبل ذلك هل يوجد خطاب معرفي عراقي خاص يتناول بالدراسة والتحليل الاشكالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع العراقي ؟؟ ان اي متتبع للشان الثقافي والسياسي يخرج بحصيلة محددة ومؤسفة وهى : انه لاتوجد حتى الان اي حلول واقعية او مشاريع معرفية عند هذه الانتلجنسيا الرثة لتجاوز هذه الانساق المريعة , بل ان الاغلبية الساحقة من المثقفين والمتعلمين العراقيين عندهم اصرار عجيب على ترسيخ تلك الانساق والترويج لها في خطاباتهم وارائهم وسلوكياتهم والتماهي معها لاسباب عديدة , اهمها : الرغبة بتمرير اجندات ذاتية وسياسية وايديولوجية محددة تسهم بتحقيق مالات شخصية واهداف سلطوية اولا , والخضوع للمنطلقات الشعبوية والرغبات العصابية ذوات النزعات الريفية والبدائية ثانيا, (والنسق في الاخير له وظيفة محددة كما يقول الغذامي) , لان الرؤية المعرفية والموضوعية لاتسمح بمرور تلك المشاريع الشخصية والسياسية والايديولوجية , ومن ثم ترسيخ تلك الانساق الفاعلة . بل والاسوء من ذلك ان الاغلبية من المثقفين العراقيين لايعترفون حتى بوجود تلك الانساق السلبية ويعدونها من التلفيقات المكررة التي ادرجها علي الوردي وغيره في الوسط الثقافي العراقي سابقا – ذهبت صرعتها حاليا – او ربما هى نوعا من جلد الذات العربية والعراقية يقوم بها بعض الكتاب انبهارا بالغرب واطروحاته الليبرالية ومطارحاته الاستعمارية , وتقليدا له في نقد المقدس والمجتمع , لذا تجدهم يلقون تبعات تلك السلبيات التي تكتنف الواقع العراقي المتخلف الى(اكباش محترقة) اخرى , او قوى خارجية (حقودة) ساهمت في خلق تلك السلبيات وادرجتها ضمن سلوكيات هذا المجتمع الوديع (فالنقمة لاتساعد على ادراك الواقع الحقيقي انما تقود الى استخدام اكباش محترقة) – كما يقول كروزية – كل ذلك وغيره تملقا للوسط الشعبوي العصابي ورغبة بحيازة المقبولية والاعتراف من هذا الوسط الموتور الذي لايجيز الاعجاب بالمثقف ونتاجه الثقافي والادبي الا من كان متماهيا مع انساقه او متلاصقا مع مداره .
الا ان هناك من يرد على هذه الاطروحة بالقول ان هذه الانساق – وان كانت هى فعلا موجودة – ولااحد ينكرها – لكنها في الاخير انساقا لاشعورية انسابت الى الشخصية العراقية من خلال التاريخ والبيئة ولادخل له بها , وهى نوعا من الانماط العليا او الاصلية – بحسب منهجية يونغ – تواردت اليه من الماضي الكئيب الى العصر الحديث عبر الية الانسياب المعروفة , وانها ملاصقة له كالقدر المحتوم الذي لاخلاص منه . في الواقع لااحد ينكر ان التماهي المطلق مع تلك الانساق والرضوخ التام لها اصبح نوعا من اللاشعور الجمعي والسلوك اللاواعي عند الفرد والمجتمع العراقي , حتى اننا قد لانعرف العراقي بدون انساقه , فهى هويته الذاتية الملاصقة له , وصورته الانطباعية المتماثله معه , لاتتغير مع الزمان ولا تتحول مع المكان , رفيق دائم في الهجرة والسفر والاغتراب . وان التحرر منها يحتاج الى فعل ثقافي رصين وجهد معرفي مكثفف وارادة شخصية مميزة قد لاتتوفر عند كل مثقف او متعلم – ناهيك عن الانسان العامي البسيط – ومن المؤسف ان نرى ان الانتلجنسيا العراقية هى اكثر الناس خضوعا الى تلك الانساق اللاشعورية – سيما العصرية منها – تتحكم بسلوكياته الشخصية ومطارحاته الثقافية وتوجهاته الايديولوجية (ومن تلك الانتلجنسيا الغبية التي يتحكم بها اللاشعور؟) وهذا الفعل البدائي والتماهي النفسي قد يعاد النظر بها كنخبة مثقفة وعصرية , فسبق ان بين (هيغل) في تعريفه للمثقف بانه ذلك الانسان الذي يستطيع ان يخرج من ذاته وينظر لها من بعيد , لان الخروج من الذات والتسامي عنها – وعن الانساق التي تحركها وتسيرها – هو (الف باء) الثقافة و(اس الاساس) في تعريف المثقف ومهمته ووظيفته , لان ذات الانسان هى سجنه , والانساق قيده , ليس لانها تشكل حاجزا صلدا امام الرؤية الموضوعية والعقلانية التي تقارب الواقع , بل لان التوجهات والانطباعات النفسية والسلوكية تلقي بظلالها القاتمة على تلك المطاراحات الثقافية , لذا فان الخروج عنها يجب ان يكون هدفه الاسمى في حياته الفكرية والسياسية , والتحرر منها يجب ان يكون مشروعه الاوحد في مسيرته العلمية , وكما قال ادونيس (انك لن تعرف نفسك الا اذا خرجت منها) . ولكن – مع ذلك – يجب الاقرار اولا براي فرويد (ان اغلب الافعال اللاشعورية قد تتحول الى شعورية بالتدريج , لان اللاشعور غالبا لايصعد الى سطح الشعور الا بوجود لاشعور وسيط قابل للتحول الى شعور) , اي ان الكثير من تلك الانساق العراقية اللاشعورية الفاعلة قد تحولت الى منطقة الشعور بحكم الوعي بممارستها والرغبة بتحقيق المنافع الوظيفية والسياسية والذاتية ومن ثم الاصرار عليها من خلال الجدل والنقاش والدفاع عن مرتكزاتها ومتبنياتها وانماطها , بل وربما امتدحها البعض واصر على ترسيخها وتاصيلها باعتبارها تشكل هوية العراقي الذاتية وصورة المجتمع الثقافية, وهذا يعني ان التماهي معها والدفاع عنها والتصرف وفق مقتضايتها اصبح نوعا من الوعي الموضوعي والسلوك الجمعي العقلاني .
وقد يسال احدهم : لماذا استعراضك للانساق العراقية الفاعلة قد اقتصر على الانساق السلبية وانماطها السيئة ولم تذكر – او تشير حتى – الى الانساق الايجابية في المجتمع العراقي ؟؟ في الواقع ان الاجابة عن هذا السؤال ينقسم الى شقين يصبان في الاخير في مجرى واحد : الاول , ان الانساق السلبية التي ادرجناها هى سبب ماساة المجتمع العراقي وتخلفه وتراجعه المزمن ونكوصه الدائم , وبالتالي فان تشخيص الامراض ومكامن العلل هو الهدف الاول للمثقف والكاتب والمفكر , من اجل تحديد العلاج اللازم وتبيان الدواء النافع للاشكالات المستعصية والبنى المتاخرة , باعتبار ان ذلك يشكل هدفا ملحا غير قابل للتاجيل او المجاملة او التجاوز (فالرائد لايكذب اهله) والدكتور لايجامل مريضه والمثقف لايراوغ مجتمعه . كما ان الانساق الايجابية في المجتمع العراقي لاتشكل ضغطا ملحا للاستعراض والدراسة والتحليل , لانها في الاصل ايجابية في نتائجها ونافعة في مساراتها , ولاتشكل اي اختلال او اشكالية في المنظومة الثقافية والسلوكية للشخصية العراقية حتى يمكن الاطناب في وصفها والاستغراق بتعريتها وتفكيكها . والثاني : ان المجتمع العراقي يعني اصلا من تخمة مفرطة في امتداح الانساق الايجابية وابرازها واستعراضها , وخاصة المنشورات الحكومية التمجيدية والدراسات الايديولوجية الخطابية والمؤلفات الحماسية التبجيلية ذوات النزعات الثورية كالشيوعية والقومية والاسلامية , فضلا عن الوطنيين والاستقلاليين والمتزلفين والانتهازيين الذين نشروا الاف الكتب في تقديس المجتمع العراقي ومدحه وتبرئته من جميع السلوكيات السلبية والنواقص الثقافية والاختلالات النفسية , تملقا لاصواته وتزييفا لوعيه وتجهيلا لفكره , والقوا مسؤولية تلك النواقص والاختلالات على عاتق القوى المتضادة معها , التي اسموها الرجعية والليبرالية والعلمانية والانظمة المعادية الاخرى , حتى اصبح المجتمع العراقي يعاني من تضخما مفرطا للذات , وتورما هائلا بالهويه , واضحت النرجسية صفة ملاصقة للشخصية العراقية . فيما وجدنا – على النقيض من ذلك – ندره ظاهرة في الدراسات النقدية والخطابات التحليلية والمؤلفات الموضوعية والعقلانية التي لم يتصدى لكتابتها وتدبيجها سوى الكتاب الليبراليون التنويريون الذين لايبحثون عن التبجيل والسمعة والاصوات, بقدر مايبحثون عن الاصلاح والتحديث والتطوير, وطرح الاشكالات المستعصية في البنى العراقية – كما هى – دون مجاملة او مواربة او رتوش .
ان الماساة الغامضة ستبقى تلاحق المجتمع العراقي على مدار العصور اذا بقيت انساقه نفسها , وسيبقى يعيد انتاج انماطه العليا نفسها من الحزن والتوتر والفتن والعنف والاحتراب مادام عنده هذا الاصرار العجيب والرضوخ المطلق والتمسك الغريب بتلك الانساق والتماهي معها دون الغاء او تصحيح او تعديل . ولايتصور احدا ان تقنين تلك الانساق والغائها يكون من خلال الشعارات اليوتوبية والنصائح المجانية والدعوات النظرية والدراسات الاكاديمية , بل ان الامر يحتاج تغيير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في البلاد اولا , وتبني مشاريع فكرية واصلاحية ذات قيم تنويرية وتحديثية وكونية ثانيا , ولكن قبل ذلك يجب الاعتراف بوجود هذه الانساق العراقية وسلبياتها وخطورتها والاشكالية التي تفرزها على صعيد الواقع المعاش اولا , حتى تكون مدخلا للاصلاح الشامل او الانطلاق نحو افق العصرنة , فالاعتراف بالمشكلة هو بداية حلها والتغاضي عنها والتدليس عليها هو استمرارية مؤكدة لنتائجها وتداعياتها , بل وترسيخها عبر الاجيال المتعاقبة .(فمن اجل تجاوز مرحلة ما والدخول الى مرحلة اخرى يجب ادراك المرحلة الاولى فكريا) – كما يقول غرامشي , لان السلاح الامضى لتفكيك تلك الانساق وتجاوزها وتعديلها هو الفكر الرصين والمعرفة الموضوعية , باعتباره يشكل مدخلا اوليا للاصلاح ومسارا ابتدائيا للانطلاق الذي يجب ان يكون مشروعا حكوميا متكاملا ومرتكزا مجتمعيا وشاملا .