فبراير 11, 2025

بهجت العبيدي البيبة

في سياق التفكير النقدي تجاه التراث والمنظومة الفكرية السائدة في العالم العربي، برزت العديد من الأفكار التي طرحت تساؤلات جوهرية حول أسباب التراجع الثقافي والحضاري للأمة العربية. إن هذه الأفكار، التي عبر عنها العديد من المفكرين، من بينهم عبدالله القصيمي، تكشف عن أزمة عميقة تمتد جذورها في بنية العقل الجمعي العربي. ومن خلال تحليل هذه الأفكار، يمكننا تسليط الضوء على قضايا محورية تعيق التقدم وتُبقي على حالة الجمود.

التاريخ المقدس والحكايات المروية

في المنظومة الفكرية العربية، أصبح التاريخ أكثر من مجرد سجل للأحداث، بل تحول إلى نص مقدس يُمنع الاقتراب منه نقديًا. تُروى الحكايات التاريخية وكأنها نصوص منزلة، لا تقبل التشكيك أو التمحيص. إن هذا التقديس يخلق حاجزًا أمام النقد الموضوعي، فالنقد يعني ضمنيًا نزع القداسة، وهو ما يُعتبر تهديدًا للسردية التي تحميها طبقة “السدنة” بكل الوسائل الممكنة.

فعندما يصبح الماضي مقدسًا، يتوقف المستقبل عن كونه هدفًا. وبدلاً من العمل على تخيل مستقبل أفضل، يتم استحضار الماضي كنموذج يُسعى إلى تقليده. إن هذه العودة إلى الوراء تُغلق الباب أمام الإبداع والتجديد، وتجعل من التقدم مفهوما غريبًا عن العقل العربي.

التراث والسردية المهيمنة

إن التراث في المنظومة العربية ليس مجرد إرث ثقافي أو معرفي، بل هو مرجعية شاملة تغطي كل مناحي الحياة. وهو محمي بسردية لا تقبل التفكيك أو المراجعة. إن أي محاولة لنزع القداسة عن التراث تُعتبر تهديدًا لوجود السردية بأكملها، مما يجعل النقد الفكري عملاً محفوفًا بالمخاطر.

إن انهيار هذه السردية يعني، بالنسبة للمدافعين عنها، انهيار الهوية الثقافية للأمة. لكن الحقيقة أن الحفاظ على سردية جامدة يعيق عملية التجدد التي تحتاجها المجتمعات كي تزدهر.

الدين والوطن: الصراع بين الانتماءين

إن المنظومة الفكرية السائدة تجعل الدين هو الرابط الأساسي بين الأفراد، متجاوزة في ذلك مفهوم الوطن كحاضنة جامعة. فيُنظر إلى الوطن كمساحة مادية، “حفنة تراب عفنة”، وفق التصور السائد، وهذا التعبير هو ما ذكره مرشد جماعة الإخوان الإرهابية في مصر، ومن ثم فإن الانتماء للوطن عند هؤلاء لا يقارن بالانتماء الديني الذي يُعتبر أسمى.

إن هذا التصور يُضعف الشعور بالمواطنة، ويجعل من السهل التفريط في الأرض لصالح الهويات الدينية أو الأيديولوجية. كما أنه يخلق حالة من الصدام مع فكرة الدولة المدنية التي تقوم على فصل الدين عن السياسة، وهو ما ترفضه المنظومة بشدة.

الفنون والثقافة: الضحية الأولى

إن الفنون، كالغناء والشعر والرسم والتمثيل، تواجه عداءً صريحًا في هذه المنظومة. فالنصوص الدينية، أو التأويلات المحافظة لها، تُستخدم لتجريم هذه الفنون وتصويرها كأعمال شيطانية أو مضيعة للوقت.

وفي ظل هذا العداء، تصبح الثقافة مجرد وسيلة لتكريس “ثقافة القبور”، حيث يتم تمجيد الموت والغيب، بينما يُنظر إلى الفنون كترف لا طائل منه، بدلاً من كونها وسيلة تعبير عن الروح الإنسانية ومصدر للإلهام والتغيير.

الأبوة الفكرية وميلاد الأجداد من جديد

إن العقل العربي لا يعرف مفهوم تجاوز الآباء والأجداد، بل يُصر على إعادة إنتاجهم في كل جيل جديد. فيتم غرس طابع الأجداد في الأبناء، وتُحارب كل محاولة للخروج عن هذا النمط باعتبارها تمردًا على القيم والمبادئ.

إن هذا النمط من التفكير يمنع أي تقدم حقيقي، إذ أن التقدم يتطلب قتل الأب، بمعناه الرمزي، أي تجاوز الأفكار القديمة وتبني رؤية جديدة.

النهاية: مستقبل مؤجل

في ظل هذه المنظومة، يصبح التخلف نتيجة حتمية. فالعقل الذي يقدس الماضي، ويغلق أبوابه أمام النقد، ويرى في الفنون عدوه الأول، لا يمكنه أن ينتج حضارة.

إن الخروج من هذا المأزق يتطلب ثورة فكرية شاملة، تُعيد بناء العقل العربي على أسس جديدة. أسس تقوم على النقد بدل القداسة، وعلى الإبداع بدل التكرار، وعلى المستقبل بدل العودة إلى الوراء.

إنها دعوة لصناعة عقل جديد، عقل قادر على مواجهة التحديات، وقادر على تجاوز عقدة الماضي. فقط عندها يمكن للعقل العربي أن يخطو نحو المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *