اسم الكاتب : محمد يسري
تلعب الظروف الجغرافية دوراً مهماً في نمو البلدان المختلفة. وكذلك، تلقي الظروف السياسية بظلالها على التطور الحضاري في كل دولة. نلقي الضوء في هذا المقال على تأثير تلك العوامل في تغير الأسماء التي عُرف بها العراق عبر تاريخه الطويل، لنرى كيف تبدلت تلك المسميات بين سومر، وكي أن جي، وميزوبوتاميا، وأرض السواد. وكيف استقر الوضع في نهاية الأمر ليحمل هذا البلد اسم العراق الذي نعرفه حالياً.
سومر وأرض القصب
استوطنت الشعوب السومرية المناطق الجنوبية من العراق الحالي في فترة موغلة في القدم. يختلف الباحثون في تحديد تلك الفترة. ذهب البعض أن الاستيطان وقع في الألف السادسة قبل الميلاد، فيما يرى آخرون أنه وقع في الألف الرابع أو الألف الثالث قبل الميلاد. بغض النظر عن الاختلاف في تلك التوقيتات، تمكن السومريون من بناء حضارة مزدهرة في المناطق التي سكنوها في منطقة السهل الرسوبي الذي تكوّن بفعل ترسبات نهري دجلة والفرات. وبنوا المدن السومرية الرئيسية كأور، ونيبور، ولارسا، ولجش، وكولاب، وكيش وإيسن. واخترعوا اللغة المسمارية التي انتشرت في أنحاء مختلفة من الشرق الأدنى القديم. ورغم أن السومريين لم ينتشروا في بقية مناطق العراق إلا أنهم كانوا الأكثر تحضراً وازدهاراً. من هنا، كان من الطبيعي أن يكون الاسم الأشهر للحضارة العراقية في تلك الوقت هو اسم “بلاد سومر/شومر”.ا
في عام 2270 قبل الميلاد تقريباً، تمكن لوكال زاكيزي من فرض سيطرته على جميع المدن السومرية. وأطلق على نفسه لقب ملك “كلام” بمعنى ملك الإقليم. من هنا عُرفت الأراضي السومرية كلها باسم “كلام”. وصارت تلك الكلمة تعني البلاد أو الوطن. أيضاً، جاء في بعض الوثائق الطينية السومرية أن السومريين عرفوا بلادهم باسم “كي- أن- جي” والتي تعني أرض القصب. من الجدير بالذكر ها هنا أن هناك اعتقاداً قوياً بأن “سهل شنعار” الوارد ذكره عدة مرات في الكتاب المقدس هو نفسه بلاد سومر الواقعة في جنوب العراق.
تغير اسم العراق مع تبدل موازين القوى بين الجماعات القاطنة فيه في العصور القديمة. على سبيل المثال، انهارت القوة السومرية أمام الأكاديين. وتمكن سرجون الأكادي من تأسيس دولته الواسعة. أطلق على نفسه اسم ملك الجهات الأربعة. من الممكن أن نفهم أن تلك التسمية وردت على سبيل المبالغة وأن سرجون اعتبر نفسه ملكاً للعالم كله. ومن الممكن أيضاً أن نفهم أن سرجون قصد من مصطلح “الجهات الأربعة” العراق وحده. في العصور اللاحقة تغير اسم البلد بحسب القوة الغالبة والمسيطرة. عُرفت العراق باسم بلاد آشور في ظل صعود الإمبراطورية الآشورية في القرن الثامن قبل الميلاد. ومع السيطرة البابلية في القرن السادس قبل الميلاد تحول اسمها إلى بلاد بابل.
بلاد الرافدين وميزوبوتاميا
إذا كانت الأوضاع السياسية في العراق القديم لعبت دوراً مهماً في تغير أسمائه عبر العصور، فإن العوامل الجغرافية لعبت دوراً مشابهاً. كان سريان نهري دجلة والفرات في أرض العراق سبباً في ارتباط تسمية تلك الأرض بالنهرين عند الكثير من الجغرافيين والرحالة القدامى. على سبيل المثال يذكر عالم الآثار العراقي طه باقر في مقال نشره في مجلة “العاملون في النفط” سنة 1954م تحت عنوان “العراق… من أين جاءت تلك التسمية؟” أن العديد من المؤرخين والجغرافيين اليونانيين والرومان الذين زاروا العراق سموها ببلاد بابل وبلاد آشور، كما أنهم ربطوا تسميتها بدجلة والفرات. يقول باقر: “…وأضاف بعض أولئك الكتاب الكلاسيك مصطلحاً جغرافياً جديداً هو “ما بين النهرين- ميزوبوتاميا” الذي شاع استعماله في البلاد الأوروبية في إطلاقه على القطر العراقي حتى بعد ذيوع استعماله مصطلح العراق”.
يذكر المؤرخ العراقي سالم الألوسي في كتابه “اسما العراق وبغداد” أسماء بعض الجغرافيين الأوائل الذين استخدموا اسم “ميزوبوتاميا”. ومنهم، على سبيل المثال، اليوناني بوليبيوس الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد، والجغرافي الروماني استرابون الذي عاش في القرن الأول الميلادي، والذي تحدث في الفصل السادس عشر من مؤلفه الشهير “الجغرافيا عن بلاد ميزوبوتاميا”.
ذكر هذا الاسم أيضا في مدونات المؤرخ الإغريقي فلافيوس آريانوس الذي عاش في القرن الثاني الميلادي. يقول آريانوس في الفصل السابع من كتابه المسمى “حملات الاسكندر الكبير”: “ووصل الاسكندر بلدة تفساح في شهر هيكا تومبيون -يصادف شهريّ تموز وآب سنة 331 ق.م- ووجد عندها جسرين محمولين على قوارب قائمين على النهر وكان مازايوس الذي عهد إليه الملك داريوس بأمر حراسة النهر وجعل بإمرته 3000 من الفرسان منهم 2000 من المرتزقة الإغريق، يرقب النهر بعيون يقظة حتى ذلك الحين، ولهذا السبب لم يعمد المقدونيون إلى إيصال الجسر عند النهر، وما أن سمع هذا أن الإسكندر قادم إلا وأطلق ساقيه للريح ومعه جنده، ثم اخذ يضرب في البلاد المسماة ميزوبوتاميا جاعلاً نهر الفرات وجبال أرمينيا على شماله”.
يجدر ملاحظة أن اشتهار مصطلح ميزوبوتاميا في اللغات الأوروبية الحديثة قد وقع بسبب ارتباط هذا المصطلح بمصطلح آخر ورد في “الكتاب المقدس” عدة مرات، وهو مصطلح “آرام-نهارايم” الوارد في سفر التكوين. استخدمت الترجمة السبعينية، وهي هي الترجمة التي تمت في القرن الثالث قبل الميلاد في العصر البطلمي وتُرجم فيها العهد القديم من العبرية إلى اليونانية، كلمة “ميزوبوتاميا” بدلاً من الكلمة العبرية آرام نهاريم. أدى ذلك إلى أن الكثيرين خلطوا بين المصطلحين وعدّوهما متطابقين وأن لهما معنى واحد، في الحقيقة يخالف ذلك الحقيقة الجغرافية، فمصطلح ميزوبوتاميا، أو ما بين النهرين بالعربية، يشير لجميع الأراضي الواقعة بين نهري دجلة والفرات. أما مصطلح آرام- نهاريم فيشير للمنطقة الواقعة في شمال العراق فحسب.
العراق وأرض السواد
عرف العرب العراق بهذا الاسم في القرن السادس الميلادي. يرى الباحثون أن هناك ثلاث احتمالات لأصل هذا الاسم. أولها أن يكون الاسم من أصل عربي خالص، وثانيها أن يكون من أصل فارسي مُعرب. أما ثالث الاحتمالات فيذهب إلى أن هناك أصلاً تراثياً للاسم.
إذا ما رجعنا للمعاجم العربية التي بين أيدينا سنجد أنها تذكر أن العراق هو “شاطئ البحر والنهر”. ومن هنا، يرى البعض أن اسم العراق أُطلق على بلاد الرافدين بسبب شواطئ دجلة والفرات. أيضاً قيل إن: العراق هو حرف الجبل أي أن المصطلح مأخوذ من حروف الجبال وسفوحها التي هي أول ما يواجه المسافر من إقليم السهل في الجنوب باتجاه الشمال والشمال الشرقي.
يتحدث طه باقر عن الرأي الثاني لمعنى كلمة العراق. فيقول: “…أما الذين يقولون بأصله الفارسي فقد اختلفوا أيضاً في معناه فمنهم من ذهب إلى أنه مأخوذ من كلمة (إيران شهر) التي تشير الى النخل والشجر الكثير، فعُربت هذ الكلمة إلى (عراق)، ومنهم من يشتقه من كلمة (ايراه) التي تعني الساحل في الفارسية فعربوه الى (أيراق) ثم إلى (عراق) أو أنه تعريب الكلمة الفارسية (إيراق) بالقاف التي تعني مفيض الماء وحدوره. وفي مفاتيح العلوم للخوارزمي وتاريخ حمزة الأصفهاني أن تسمية (ايران) بالكاف الفارسية أي أن (إيران) أصل لفظ (إيران) و(العراق)، وفي الأفستا (الإبستاق) أن إيراكستان وهي المورة بين فيروز أباد وخليج العرب أي العراق يجب أن تلفظ (إيراكستان) بالكاف الفارسية، وشبيهة بهذا ما ذهب إليه الآثاري الشهير هوتسفيلد من أن كلمة عراق معربة من (إيراك) الفارسية التي تعني البلاد السفلى والجنوب”.
أما الرأي الثالث، والذي يرى أن هناك أصولاً تراثية لكلمة العراق. فيجمله باقر بقوله: “…إن لفظ العراق سومري أو لعله ما قبل العهد السومري وإنه مشتق من كلمة تعني المستوطن ولفظها (أوروك) وهي نفس الكلمة التي سميت بها المدينة السومرية الشهيرة (الوركاء) التي تكتب بالعلامة المسمارية التي تعني المستوطن، فكلمة (أوروك) بالسومرية تدخل في تركيب أسماء جملة مدن سومرية شهيرة مثل (أور)، أبو شهرين الآن قرب الناصرية، و(لارسا) السنكرة الآن القريبة من أور…”.
تجدر الإشارة إلى أن العرب استخدموا أسماء أخرى للإشارة إلى العراق ككل أو إلى بعض أقاليمه المهمة في أوقات مختلفة من تاريخهم. على سبيل المثال، ورد الحديث عن “أرض السواد” في المصادر التاريخية الإسلامية التي تناولت أخبار الغزو العربي للعراق في القرن السابع الميلادي. تشير أرض السواد إلى جميع الأراضي الزراعية الخصبة الواقعة بين نهري دجلة والفرات. ويفسر ياقوت الحموي تسميتها بهذا الاسم في كتابه “معجم البلدان”، فيقول: “سُمي بذلك لسواده بالزروع والنخيل والأشجار لأنه حين تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر كانوا إذا خرجوا من أرضهم ظهرت لهم خضرة الزرع والأشجار فيسمونه سواداً كما إذا رأيت شيئاً من بعد قلت: ما ذلك السواد؟ وهم يسمون الأخضر سواداً والسواد أخضر”.
في مرحلة لاحقة، سيؤسس العرب مدينتين جديدتين في العراق وهما الكوفة والبصرة. ستُعرف المدينتان باسم “العراقَيْن” في الكثير من الأحيان. أيضاً، ستظهر فيما بعد تسمية “العراق العجمي” -للإشارة إلى إيران- تمييزاً لتلك المناطق الجغرافية عن المناطق الواقعة في العراق العربي.