الكاتب : د. فاضل حسن شريف
—————————————
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى “فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ” (هود 105) “السعيد” مشتق من مادة السعادة و معناها توفر اسباب النعمة. و “الشقي” مشتق من مادة الشقاء و معناه توفر اسباب البلاء و المحنة. فالسعداء إذا هم الصالحون الذين يتمتعون بأنواع النعم في الجنّة و الاشقياءهم المسيئون الذين هم يتقلبون في انواع العذاب و العقاب في جهنم. و ليس هذا الشقاء على كل حال و تلك السعادة سوى نتيجة الأعمال و الأقوال و النيّات التي سلفت من الأنسان في الدنيا. و العجيب ان بعض المفسّرين يتخذون هذه الآية ذريعة لعقيدتهم الباطلة في مجال الجبر، في حين انّ الآية ليس فيها اقلّ دليل على هذا المعنى، بل هي تتحدث عن السعداء و الأشقياء في يوم القيامة و انهم و صلوا جميعا بأعمالهم الى هذه المرحلة، و لعلهم توهموا هذه النتيجة من هذه الآية بالخلط بينها و بين بعض الأحاديث التي تتكلم عن شقاء الأنسان او سعادته و هو في بطن امّه قبل الولادة، و لكن هذه المسألة ليس هنا مجالها إذ لها قصّة اخرى و حديث طويل. أراد البعض ان يثبت من الآيات المتقدمة كما قلنا آنفا كون السعادة و الشقاء ذاتيين، في حين انّ الآيات المتقدمة لا تدل على هذا الأمر فحسب، بل تثبت بوضوح كون السعادة و الشقاء اكتسابيين، إذ تقول “فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا” (هود 106) او تقول “وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا” (هود 108) فلو كان كل من الشقاء و السعادة ذاتيين لكان ينبغي ان يقال (امّا الأشقياء و امّا السعداء) و ما أشبه ذلك التعبير، و من هنا يتّضح بطلأن ما جاء في تفسير الفخر الرازي ممّا مؤداه: (انّ هذه الآيات تحكم من الأن انّ جماعة في القيامة سعداء و جماعة أشقياء، و من حكم اللّه عليه مثل هذا الحكم و يعلم انه في القيامة امّا شقي أو سعيد، فمحال عليه ان يغير ذلك و الّا للزم- في الآية- ان يكون ما اخبر اللّه به كذبا و يكون علمه جهلا و هذا محال) فكل ذلك لا أساس له. و هذا هو الاشكال المعروف على (علم اللّه) في مسألة الجبر و الاختيار و الذي أجيب عليه قديما بأنه: إذا لم نرد تحميل افكارنا و آراؤنا المسبقة على آيات القرآن الكريم، فإنّ مفاهيمها تبدو واضحة، انّ هذه الآيات تقول: “يَوْمَ يَأْتِ” (هود 105) يكون فيه جمع من الناس سعداء من خلال اعمالهم، و جمع آخر أشقياء بسبب اعمالهم، و اللّه سبحانه يعلم من الذي اختار طريق السعادة باختياره، و بإرادته، و من الذي خطا خطوات في مسير الشقاء بإرادته. و هذا المعنى يعطي نتيجة معاكسة تماما لما ذكره الرازي حيث انّ الناس إذا كانوا مجبورين على هذا الطريق فإنّ علم اللّه سيكون جهلا و العياذ باللّه، لأنّ الجميع اختاروا طريقهم و انتخبوه بإرادتهم و رغبتهم. الشاهد في الكلام انّ الآيات المتقدمة تتحدث عن قصص الأقوام السابقين، حيث عوقبت عقابا جماعة عظيمة منهم بسبب ظلمهم و انحرافهم عن جادة الحق و العدل، و بسبب التلوث بالمفاسد الاخلاقية الشديدة، و الوقوف بوجه الأنبياء و القادة الإلهيين أليما في هذه الدنيا. و القرآن يقص علينا هذه القصص من اجل إرشادنا و تربيتنا و بيان طريق الحق من الباطل، و فصل مسير السعادة عن مسير الشقاء. و إذا كنّا أساسا كما يتصوّر الفخر الرازي و من على شاكلته محكومين بالسعادة و الشقاء الذاتيين، و نؤخذ دون ارادتنا بالسيئات او الصالحات، فإنّ (التعليم و التربية) سيكونان لغوا و بلا فائدة. و مجيء الأنبياء و نزول الكتب السّماويّة و النصيحة و الموعظة و التوبيخ و الملامة و المؤاخذة و السؤال و المحاكمة و الثواب. كل ذلك يعدّ غير ذي فائدة، او يعدّ ظلما.
وردت كلمة شقي ومشتقاتها في القرآن الكريم: شَقِيٌّ، شَقُوا، شَقِيًّا، لِتَشْقَى، فَتَشْقَى، يَشْقَى، شِقْوَتُنَا، الْأَشْقَى، أَشْقَاهَا. وردت كلمة سعيد ومشتقاتها: وَسَعِيدٌ، سُعِدُوا. ورد أن الله سبحانه يأمر في ليلة القدر في شقاء وسعادة العبد “فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ” (الدخان 4-5)
جاء في کتاب السعادة كيف نجدها؟ للمؤلف عيسى احمد قاسم: وإذا طالعنا المجموعة الأخيرة من النصوص، وجدناها بين ما يفضّل سعادة الدين والآخرة على سعادة الدنيا (أفضل السعادة استقامةالدين)، ومنها ما لا يلتفت إلى سعادة الدنيا ولا يعيرها نظراً بالقياس إلى سعادة الآخرة، وكأنه لا وزن لها بإزائها للفارق الهائل بين الاثنين: (سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل لآخرته)، (إن حقيقة السعادة أن يختم للمرء عمله بالسعادة، وإن حقيقة الشقاوة أن يختم للمرء بالشقاء). إن هذه المجموعة تجعل قيمة السعادة، أو حقيقتها في المحتوى الروحي الحي والمضمون المعنوي المتقدم الذي يتحقّق لذات الأنسان في هذه الحياة بجهد وجهاد من توفيق اللّه. أما ما نسمّيه سعادة من لحظات بشاشة وانشراح للنفس لملاءمة الأوضاع المادية مع مشتهاها، فهي لا تعبأ به ولا ترى له شأناً يكون به من حقيقة السعادة، ولو شملنا هذه الحقيقة لتلك اللحظات العابرة غير الخالصة تماماً من المكدّرات لو تم الإلتفاف، فهي مستوى أولي بسيط منها. السعادة بهذا المنظور روحي محلّق، ومتانة في الذات الأنسانية من حيث بناؤها المعنوي، واستيعابها للمعرفة الحقّة وتنوّرها بها، وتحليها بانعكاساتها في الشعور والنية والعمل، وتحوّلها مرآة تعكس من جمال وجلال لا منقوص ولا محدود للكامل المطلق المتعال محدوداً بما يتأنّى لها في نموّها وتكاملها في إطار الإمكان المحدود أن تعكسه. ماهي السعادة؟ السعادة لغة خلاف الشقاوة، والسُّعودة خلاف النُّحوسة. وإذا أردنا تعمّقاً، فقد تطلق السعادة على حالة التوافق بين ما تشتهيه النفس وترغبه، وبين ما تعيشه وتجده من أوضاع مادية ومتطلبات جسدية، والشؤون القريبة منها كمواقع الاجتماع والسياسة والثناء عند الناس. وقد تطلق في مرتبة أرفع على الكمال الفعلي للذات الأنسانية في أبعادها المعنوية، وشعور الذات بهذه الفعلية من الكمال وهي على مراتب بين السعادتين: وحسن المنظر، وجمال المرأى، واعتدال القوام، إلى ما إلى ذلك من أولاد وأزواج وعشائر وأنصار وأتباع وأملاك وترف وبحبوحة عيش.
ورد ان الوليد بن المغيرة كان عنده عشرة أبناء وبدل شكر الله تعالى على سعادته بهؤلاء الأولاد أخذ يتبختر ولا يحمد رب العباد على عطائه كما قال الله تعالى “ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)” (المدثر 11-16) ورد ان سعيد الدنيا الوليد بن المغيرة جعل هؤلاء الابناء جنودا يحاربون الله فنزلت الآيات المباركة.
وردت في نهج البلاغة: أنّ عليّا عليه السّلام كان يوما يخبر بحوادث المستقبل، فقال له أحد أصحابه: يا أمير المؤمنين، أتتحدّث عن الغيب و تعلم به؟ فتبسّم الإمام، و قال له: (يا أخا كلب (لأنّ الرجل كان من بني كلب)، ليس هو بعلم غيب، و إنّما هو تعلّم من ذي علم، و إنّما علم الغيب علم الساعة و ما عدده اللّه سبحانه بقوله: “إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ” (لقمان 34) فيعلم اللّه سبحانه ما في الأرحام، من ذكر أو أنثى، و قبيح أو جميل، و سخيّ أو بخيل، و شقيّ أو سعيد، و من يكون في النار حطبا، و في الجنان للنبيين مرافقا، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلّا اللّه، و ما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيّه فعلّمنيه و دعا لي بأن يعيه صدري و تضطمّ عليه جوانحي). في آخر جمعة من شهر شعبان، ألقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم خطبة أعدّ فيها المسلمين لاستقبال شهر رمضان المبارك قال فيها: (فإنّ الشّقيّ من حرم غفران اللّه في هذا الشّهر العظيم). في رواية عن على عليه السّلام: (الشقي من انخدع لهواه و غروره).
ويمنح الله قارون كنوزاً كالتلال ما جمعها بجهده، ولا بذكائه، ولا بعرقه، ولا بعبقريته، وظن أنه هو السعيد وحده، وكفر نعمة الله، وقد حذره ربه، وأنذره مولاه مغبة تصرفاته الوقحة، فأبى وأصر على تجريد المال من الشكر، والسعي في الأرض فساداً، فكان الجزاء المر فخسفنا به وبداره الأرض. وطلب السعادة الوليد بن المغيرة، فآتاه الله عشرة من الأبناء، كان يحضر بهم المحافل، خمسة عن يمينه، وخمسة عن يساره، ونسي أن الذي خلفه هو الله،فقال الله فيه واصفاً حاله: (ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد كلا). فمإذا فعل، كيف تصرف؟ أخذ عطاء الله من الأبناء، فجعلهم جنوداً يحاربون الله، إلا من رحم ربك، فقال الله فيه: سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر. فيا من يفتش عن السعادة في المال والغنى، إن الرسول الكريم يقول: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، فمع المال الصالح تأتي السعادة للرجل الصالح،سعادة يرتاح لها ضميره لأنه كسب ماله من طرق مشروعه،وأنفقها في طرق مشروعه، أطعم أهله واولاده، وأعطى حقه للمحتاجين والفقراء، وأعطى حق الله فيه، فوجد سعادة امتلأت حياته رضاً بما آتاه الله، وشكراً على نعم الله، فقاده ماله و غناه إلى شكر لله، والثناء عليه سبحانه، والتواضع لعباد الله، فيعيش مستريح النفس، هادئ البال. وهناك من يلتمس السعادة في الشهرة فيقضي ساعاته في توجيه الناس إليه، ليصبح معبود الجماهير، وحديث الركبان، وشاغل الدنيا، فيقتلعه ربك من جذوره، ويمحق سعيه (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).