يوليو 10, 2025
download (3)

رشيد الخيون

عندما سُئل قاضٍ عراقيّ سابق، وناشطٌ سياسيٌ حاضرٌ، بعد تَسنّمه مراكزَ عليا في الدَّولة، عن سبب عدم زيارة الرَّئيس رونالد ترامب للعراق؛ قال جاداً: “لوجود أمر قبض عليه”. ظهر مصرحاً صوتاً وصورةً؛ وبالفعل صدرت مذكرةُ إلقاءِ قبضٍ بحقِّ الرَّئيس الأمريكي (7/1/ 2021)، وفق المادة (406) مِن قانون العقوبات العراقيِّ، الخاصة بالقتلِ العَمدِ، وعقوبتها الإعدام.
جاء في المذكرة القضائيَّة- الفضائيَّة- بشأن الرَّئيس الأميركيّ: “إحضاره إلى قاضي محكمة تحقيق الكرادة في الحال، كونه متهماً في الشّكوى المقامة ضده في مركز شرطة السَّعدون”. كانت التّهمة اغتيال قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشّعبي أبو مهدي المهندس، فجر(3/1/2020).
لا اعتراض على تصريح القاضي والمحافظ السّابق؛ لإحدى أهم محافظات العراق؛ إذا كان واثقاً مما ذهب إليه، وأوصله حسه الحقوقي، بأن مذكرة قاضي الكرادة منعت ترامب مِن زيارة العراق؛ لكنَّ رئيس جمهورية العراق هنأ بفوز ترامب، في ولاية ثانية، قائلاً: “أتقدم بالتهنئة للرئيس دونالد ترامب، بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية، نتمنى له ولإدارته التوفيق في قيادة الولايات المتحدة…”(وكالات الأنباء).
كذلك اتصل رئيس الوزراء بترامب، قبل إعلان فوزه، ثم بعث برقية تهنئة بالفوز، أشار بها “إلى تطلع العراق لتعزيز أواصر التَّعاون والشرَّاكة مع الولايات المتحدة؛ ضمن اِتّفاق الإطار الاسِتراتيجي، والمصالح المشتركة للبلدين…”(رئاسة الوزراء، الموقع الرّسميّ).
بعدها دعا جماعة مِن الحقوقيين إلى محاكمة يزيد بن معاوية(تـ: 64هج)، بقضية قتل شبيه بما صدر ضد الرَّئيس الأمريكيّ، وهو حاكم مِن خارج العراق قام بجريمة قتل داخل العراق؛ حصل ذلك قبل نحو 1400 عام، والقضية المطلوب إثارتها وتفعيلها هي قتل الحسين بن علي(61هج) بكربلاء؛ فظهر حقوقيون يدافعون عنها، لأنَّ الحقّ لا يسقط بالتّقادم.
شُكلت قبلها في جامعة الكوفة، وبحضور رئيس الجامعة (الأكاديميّ)، محاكمةٌ استدعت هشام بن عبد الملك(تـ: 125هج)، كونه مارس القتل مِن خارج العراق ضد زيد بن عليّ(122 هج). هذا، ودعاة محاكمة يزيد بن معاوية، والمطبقين درساً أكاديميّاً بمحاكمة هشام بن عبد الملك، هؤلاء هم محامون، وكُتاب عدل، وقضاة اليوم؟ فإلى أين يتجه العِراق؟
عن ثقل وظيفة القاضي، كتب القاضي ابن حيان وكيع (تـ: 306 هج): “سمعتُ حميد بن الرَّبيع يقول لنا: جئ بعَبد اللهِ بن إدريس، وحفص بن غياث، ووكيع بن الجراح إِلى هارون الرَّشيد؛ دخلوا ليوليهم القضاء؛ فأما ابن إدريس فقال: السَّلام عليكم، وطرح نفسه كأنه مفلوج(مشلول)؛ فقالَ: هارون: خذوا بيد الشَّيخ: لا فضل في هذَا؛ وأما وكيع فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أبصرت بها منذ سنة، ووضع إصبعه على عينه، وعنىَ إصبعه: فأعفاه هارون؛ وأما حفص فقال: لولا غلبة الدَّين(بفتح الدَّال) والعِيال ما وليت”(وكيع، أخبار القضاة). فكم تبدو خطيرة وظيفة القاضي، ولخطورتها دولٌ لا تحدد رواتبَ لقضاة محاكمها العليا، بل مفتوحةً، وضمير القاضي هو الرّقيب.
أقول: إذا كان قاضٍ، درس القانون والسّياسة، يُصرح هذا التّصريح العجائبيّ، ويرده المذيع مندهشاً، بأنَّ مذكرة توقيف منعت الرَّئيس الأمريكيّ مِن زيارة العِراق؟! وهو يصرُّ على صحة جوابه؛ وآخرون حقوقيون يحاكمون مَن بلت عظامه قيل أربعة عشر قرناً، فعلى القضاء والسِّياسة السَّلام، ببلد ابتلى بالجهل “حتى اختزى”، وقد يستدرك ويُعالج الجهل وفقدان الوعي، في مجال غير القضاء والعدل، لكنه القضاء، الخلل فيه بلاء على الأوطان؛ بخلله يمكن قتل وخطف ثمانمائة إنسان، ويشهد القاتل على نفسه تبجّحاً، ولم تهتز للقضاء قصبة.
هذا، ولا أزيد على الشّريف الرّضي(تـ: 406هج)؛ بما عاتب أباه وأخاه: “إذا اضطرمتْ ما بين جنبيَّ غصةٌ/ وكاد فمي يمضي مِن القولِ ما يمضي/شفعتُ إلى نفسي لنفسي فكفكفتُ/مِن الغيظِ واستعطفتُ بعضي على بعضي”(ابن الطَّقطقيّ، كتاب الأصيليّ). إنها “حَيرةُ الألبابِ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *