ثامر عباس
الخصائص المعيارية للشخصية العراقية (القسم الثاني) الخاصية الاستعراضية (الهنبلة) : التفاخر بالأنساب والتنابز بالألقاب
يعد أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة ذي قار الدكتور (سلمان محمد رشيد الهلالي) أول من أستخدم عبارة (الهنبلة) لوصف طبيعة الشخصية العراقية ، وذلك خلال بحثه في ماهية (النسق) السوسيو- ثقافي الذي حشرت داخله هذه الشخصية دون أن تفلح في التغلب عليه والخروج منه ، بحيث كلما حاولت الإفلات من أساره والتخلص من قيوده ، كلما عاودت الانزلاق فيه والانجذاب إليه سواء بوعي أو بدونه ، وكأنما هي (منوّمة) مغناطيسيا”. وعبارة (الهنبلة) الازدرائية التي يتداولها العراقيين فيما بينهم لانتقاد شخص ما ، هي كناية وصفية لكل من ينسب لنفسه (خصال) و(شمائل) لا يملكها في الأصل ، وإنما يحاول أن يوهم الآخرين بأنها جزء من كيانه وصلب شخصيته ، والغاية من ذلك – كما نعلم – انه يسعى لإخفاء هشاشته ومدارات عجزه ، والظهور من ثم بمظهر (الوحيد) في عصره و(الفريد) في زمانه .
والحقيقة ان لهذه الخاصية (الاستعراضية) تاريخ طويل يمتد الى مئات السنين يوم كانت حياة (البداوة) تسود هذه الربوع المتصحرة ، باستثناء رقع متناثرة من (المدن) و(البلدات) التي هي أقرب عمرانيا”وسكانيا”الى (القرى) و(الأرياف) منها الى المدن الحقيقية ، هذا بالإضافة الى طغيان القيم والأعراف (القبلية) و(العشائرية) التي كانت تضبط إيقاع العلاقات المضطربة بين شعث جماعات امتهنت نشاط الغزو والنهب والتخريب . ولما كانت حياة الإنسان تقوم على هذا الضرب من العيش والعلاقات في بيئة عدائية باستمرار ، كان لابد ألاّ يكون فقط خشن الطباع وصلب العريكة فحسب ، وإنما أن يواظب على الاندماج بجماعته والتماهي مع قيمها والدفاع عن حياضها ؛ أولا”لضمان سلامته الشخصية والأسرية ، وثانيا” لتأمين حاجاته المادية والمعنوية ، وثالثا”للحفاظ على سمعته وهيبته .
وفي إطار مثل هذه الظروف والأوضاع والمعطيات ما كان للجماعات المتنافسة على شحة الموارد الاقتصادية والمتصارعة على فرض الهيمنة الجغرافية ، إلاّ أن تفاخر في أصلابها وأنسابها وتباهي باستعراض قوتها وقدراتها ، ليس فقط لإثبات ذاتها أمام منافسيها وخصومها من الساعين الى ذات الأهداف فحسب ، وإنما لردع إرادتهم وبثّ الخوف في نفوسهم ومن ثم حملهم على التفكير ألف مرة قبل يجرؤا لانتهاك مجالها الجغرافي أو التطاول على سلطانها السياسي . من هنا نشأت ونمت النزعة (الاستعراضية) التي اشتهر بها الإنسان (البدوي) المحاط ببيئة عدائية لا ترحم الضعيف أو المتردد ، بحيث أضحت له هذه النزعة بمثابة مقوم أساسي من مقومات كيانه الشخصي والقبلي على حدّ سواء . ولهذا فليس من المستغرب أن يبدو الإنسان العراقي – باختلاف مستوياته الثقافية والحضارية – شديد التعلق بأصوله (القبلية – العشائرية) ، حتى ولو أظهر العكس في بعض الحالات الخاصة مراعاة منه للظرف أو الحالة التي تستوجب منه الظهور بمظهر الإنسان (المتحضر) المتسامي فوق عصبياته الانثروبولوجية .
والجدير بالملاحظة ان سيرورات وديناميات (المجايلة) الاجتماعية والثقافية لعبت – ولا تزال تلعب – دورا”أساسيا”في ثبات وديمومة هذه النزعة لدى معظم الجماعات العراقية ، سواء منها التي تعيش في الريف أو تلك التي تسكن في المدن ، لاسيما وان الغالبية العظمى من سكنة هذه الأخيرة هم من أصول ريفية أو قروية ، لم تبرح قيم وأعراف (البداوة) تؤطر الكثير من تصوراتهم وعلاقاتهم وسيكولوجياتهم . ولعل ما زاد الطين بلّة ، ان كل الذين حكموا (الدولة) وتحكموا ب(المجتمع) على مدى قرن (1921 – 2025 ) ، ليس فقط أنهم لم يهتموا بمعالجة هذه الظاهرة والحدّ من آثارها المدمرة على آفاق التطور الاجتماعي والحضاري كما كان يزعم في الخطابات والشعارات فحسب ، وإنما تعمدوا تكريسها – لا بل وتغذيتها – في الوعي والسيكولوجيا الجمعيين ، لغرض استغلال واستثمار دورها في ترسيخ الانقسام والتشرذم بين الجماعات ومن ثم إبقائها في حالة من الضعف وعدم القدرة على تحدي السلطة الحاكمة من جهة ، وتثبيت سلطتهم وتعزيز سيطرتهم وتقوية قبضتهم وفرض إيديولوجيتهم من جهة أخرى .
وحيثما تسود الكيانات (القبلية) و(العشائرية) و(الطائفية) و(الاثنية) وتشرأب قيمها وأعرافها وسردياتها ورموزها ، على خلفية انحسار سلطة الدولة واستشراء الفساد في مؤسساتها من جهة ، وتراخي قبضة القانون وانعدام هيبته وتلاشي ردعه – كما هو حاصل في العراق – فلن يكون أمام الإنسان العراقي سوى مخرج واحد لا بديل له ، وهو اللجوء الى (قبيلته) أو (عشيرته) أو (طائفته) أو (إثنيته) أو كلها مجتمعة ، وذلك للاحتماء بحياضها والاستنجاد بقوتها والتباهي بصيتها والتفاخر بأصالتها ، كما كان يفعل آبائه وأجداه من قبل . وهكذا ، بالتقادم والتراكم ، استحالة (الظاهرة) السيكولوجية التي استوجبتها ظروف خاصة وسياقات محددة ، الى (واقعة) سوسويولوجية متواترة لم تلبث أن تطورت الى (خاصية) بنيوية ضمن معمار الشخصية العراقية ، بحيث بات من الصعب العثور على عراقي – بصرف النظر عن تحصيله العلمي ورصيده الثقافي ومستواه الوظيفي – يقدم نفسه للآخرين بصفة هويته (الوطنية / العراقية) الجامعة ، دون أن سبقها بانتمائه (القبلي) وولائه (الطائفي) وأصله (الإثني) وانحداره (المناطقي) .