آيات قرآنية في كتاب العباس عليه السلام للسيد المقرم (ح 6)

الكاتب : د. فاضل حسن شريف
—————————————
جاء في کتاب العبّاس عليه السلام للسيد عبد الرزاق المقرّم: الحائر: جاء في حديث الصادق عليه السلام لفظ الحَيْر فإنّه قال: ” وهو على شطّ الفرات بحذاء الحَيْر”. والحير، بالفتح فالسكون كالحائر: هو المكان المنخفض الذي يسيل إليه ماء الأمطار ويجتمع فيه. وفي تاج العروس بمادة حور: الحائر: اسم موضع فيه مشهد الإمام المظلوم الشهيد أبي عبد اللّه الحسين. ولم تحدث التسمية بالحائر من استدارة الماء حول القبر المقدّس حين أُجري عليه بأمر المتوكل العباسي ; لأنّ لفظ الحائر والحير وقع في لسان الصادق والكاظم قبل استخلاف المتوكّل. نعم، إنّ اللّه سبحانه أكرم حجّته، ووليه المذبوح دون دينه القويم، ممنوعاً من ورود الماء الذي جعل شرع سواء لعامة المخلوقات ; باستدارة الماء حول قبره يوم أُجري عليه، لإعفاء أثره ومحو رسمه (ولن يزداد أثره إلاّ علواً). ولقد شعّت هذه الآية الباهرة، فاستضاءت منها الحقف والأعوام، واهتزّت لها الأندية والمحافل ارتياحاً، وتناقلها العلماء المنقّبون في جوامعهم، منهم الشهيد الأوّل في الذكرى، والأردبيلي في شرح الإرشاد، والسبزواري في الذخيرة، والشيخ الطريحي في المنتخب، والشيخ المحقّق في الجواهر. كم لآل الرسول من براهين كاثرت النجوم بكثرتها، وقد اجتهد أهل العناد في إغفالها أو افتعال نظائرها لأئمتهم، حقداً وحسداً “وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ” (التوبة 32). ويمرّ أمير المؤمنين بوادي كربلاء في ذهابه إلى صفّين، فيقف هناك ويرسل عبرته ويقول: “هذا مناخ ركابهم، ومهراق دمائهم، طوبى لكِ من تربة تراق عليك دماء الأحبة ” إذن، فهلاّ تحسن مواساة صاحب الشريعة ووصيّه المقدّم بعد وقوع الحادثة على فلذة كبده صاحب النهضة المقدّسة، واللّه عزّ وجلّ يقول: “لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” (الأحزاب 21). على أنّ الأحاديث الصحيحة عندهم عن أئمتهم تحثّهم على التظاهر بما فيه إحياء أمرهم من الدعوة إلى سبيل الدّين، وإظهار الجزع والبكاء والنوح على سيّد شباب أهل الجنّة.

وعن مشهد الرأس يقول السيد عبد الرزاق المقرم: هكذا كان يسير إلى غايته المقدّسة سيراً حثيثاً، حتّى طفق يتلو القرآن رأسه الكريم، فوق عامل السنان، عسى أن يحصل من يكهربه نور الحقّ، غير أنّ داعية الحقّ والرشاد لم يصادف إلا قصراً في الإدراك، وطبعاً في القلوب، وصمماً في الآذان: ” خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ” (البقرة 7). وبلغ من غلواء ابن زياد وتيهه في الضلال أن أمر بالرأس الشريف فطيف به في شوارع الكوفة وسككها. يقول زيد بن أرقم: ” كنت في غرفة لي، فمروا بالرأس على رمح، فسمعته يقرأ:” أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ” (الكهف 9)، فوقف شعري، وقلت: رأسك أعجب و أعجب”. ولمّا صُلب في سوق الصّيارفة، وهناك ضوضاء، فأرادعليه السلاملفت الأنظار نحوه، تنحنح تنحنحاً عالياً، فاتجه الناس نحوه، وأبهرهم الحال، فشرع في قراءة سورة الكهف إلى قوله تعالى: “اِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً” (الكهف 13) وعجب الحاضرون إذ لم تعهد هذه الفصاحة والإتيان على مقتضى الحال من رأس مقطوع، وبقي الناس واجمون لا يدرون ما يصنعون. ولمّا صُلب على شجرة بالكوفة سمع يقرأ قوله تعالى: “وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ” (الشعراء 227). قال هلال بن معاوية: سمعت رأس الحسين يخاطب حامله ويقول: فرّقت رأسي وبدني إفرق اللّه بين لحمك وعظمك، وجعلك آية ونكالاً للعالّمين، فرفع اللعين سوطاً وأخذ يضرب بين رأسه المطهّر. وحدّث سلمة بن الكهيل أنّه سمع رأس الحسين بالكوفة يقرأ وهو مرفوع على الرمح: “فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (البقرة 137). كما سمعه ابن وكيدة يقرأ القرآن فشكّ أنّه صوته حيث لم يعهد مثله يتكلّم، فإذا الإمام عليه السلام يخاطبه: “يا بن وكيدة، أما علمت أنّ معاشر الأئمة أحياء عند ربّهم يرزقون، فزاد تعجّبه وحدّث نفسه أن يسرق الرأس ويدفنه، فنهاه الإمام وقال: يا بن وكيدة ليس إلى ذلك سبيل، إنّ سفكهم دمي أعظم عند اللّه من إشهارهم رأسي، فذرهم فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون”.

ويستطرد السيد المقرم في كتابه عن مشهد الرأس قائلا: وفي طريقهم إلى الشام نزلوا عند صومعة راهب، وفي الليل أشرف عليهم الراهب، فرأى نوراً ساطعاً من الرأس الشريف، وسمع تسبيحاً وتقديساً وتهليلاً وقائلاً يقول: السلام عليك يا أبا عبد اللّه، فتعجّب الراهب! ولم يعرف الحال حتّى إذا أصبح وأراد القوم الرحيل سألهم عن الرأس؟ فأخبروه أنّه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، وأُمه فاطمة، وجدّه محمّد المصطفى، فطلب الرأس من خولي الأصبحي، فأبى عليه، فاسترضاه بمال كثير دفعه إليه، وأخذ الراهب الرأس الشريف وقبّله وبكى وقال: تباً لكم أيتّها الجماعة، لقد صدقت الأخبار في قولها: إذا قتل هذا الرجل تمطر السماء دماً، ثُمّ أسلم ببركة الرأس الطاهر، وبعد أن ارتحلوا نظروا إلى الدراهم فإذا هي خزف مكتوب عليها: “وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ” (الشعراء 227). وحدّث المنهال بن عمر قال: “رأيت رأس الحسين بدمشق أمام الرؤوس ورجل يقرأ سورة الكهف فلمّا بلغ “أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً” (الكهف 9)، وإذ الرأس يخاطبه بلسان فصيح: وأعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي”. وفي هذا الحال كُلّه لم ينقطع الدم من الرأس الشريف، وكان طريّاً، ويشمّ منه رائحة طيبة. وبالرغم من جدّ يزيد في محو آثار أهل البيت واحتقار حرم النبّوة حتّى أنزلهم في الخربة التي لا تكنّهم من حرّ ولا برد، واستعماله القسوة بالرأس المقدّس، من صلبه على باب الجامع الأُموي، وفي البلد ثلاثة أيّام، وعلى باب داره.