اسم الكاتب : رياض سعد
مهما احتوت الشعارات المرفوعة والبرامج المطروحة من معان سامية ومعلومات قيمة … ؛ فإنها تفقد بريقها وتأثيرها اذا لم تجد سبيلاً لتطبيقها على ارض الواقع ؛ سواء كان التطبيق على صعيد النخب والقيادات ام الافراد والجماعات او على واقع البنى والاسس التحتية والخدمية والثقافية والسياسية والاقتصادية والحضارية … ؛ وتاريخنا العراقي حافل بهذه التجارب فهي لا تعد ولا تحصى .
بل طالما تحولت تلك الشعارات والبرامج الى جحيم بفعل الممارسات الخارجية الخاطئة , والتي قد تسبب بسقوط التجربة او الثورة او العملية السياسية بصورة حتمية ؛ ولهذه الظاهرة اسباب عديدة لا مجال لحصرها هنا جميعا , ولعل من اهم اسبابها خيانة العملاء وارتباط الحكام والزعماء بقوى الاستعمار والاستكبار , وتنفيذ اوامرهم واجنداتهم الخبيثة … ؛ او بسبب جهل وتخلف وعدم تخصص وكفاءة المتصدين للعمل السياسي … ؛ وقد تسببت تلك الشعارات والثورات والحركات السياسية والحكومات بإحداث جروح غائرة في اعماق نفوس المواطنين , بعد ان استهوت تلك الشعارات والحركات الشباب والرجال وصدقوا بها , وافنوا زهرة شبابهم واعمارهم من اجلها , وبذلوا الغالي والنفيس لتحقيقها على ارض الواقع … ؛ الا ان جهودهم ذهبت ادراج الرياح , هباءً منثورًا , وتكبدوا الخسائر المادية والمعنوية المتتالية , والهزائم والانكسارات الكارثية المتتابعة ؛ ولا نجانب الصواب ان قلنا : ان من اهم اسباب الخيبة السياسية العراقية , والفشل في احداث التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتنموية الايجابية ؛ جراء الثورات والحركات والتظاهرات والانتفاضات ونضال الاحزاب والجماعات … ؛ هو إذعاننا المتأصل والتاريخي لكل من ادعى القيادة والزعامة وايماننا المطلق بهم , وتصديقنا بكلامهم وشعاراتهم وادعاءاتهم السياسية والدينية والثقافية … الخ ؛ وطالما اسفر الحراك الشعبي والنضال الوطني عن نتائج تصب في مصلحة هؤلاء والاعداء , وبعيدة كل البعد عن تحقيق مصالح وتطلعات الامة العراقية ؛ لذا ذهب البعض الى القول : بأن العراق بلا قيادة ... ؛ اذ يرى هؤلاء بأن العراق يخلو من القادة الحقيقيين والزعماء الاصلاء النبلاء … ؛ واما الذين حكموا العراق سابقا وحاليا فهم مجرد عملاء او مدراء ازمات ليس الا , او انصاف قادة في احسن الاحوال … .
ولكن للحقيقة والانصاف بلاد الرافدين كانت ولا زالت ؛ ولادة للرجال والقادة , فالعراق لا يخلو من الشخصيات الوطنية والسياسية الشريفة والنزيهة , و اصحاب الكفاءة والخبرة … ؛ الا ان اغلب هؤلاء تعرضوا للضغوط والتهديدات , وانزوت الدنيا والشهرة عنهم ؛ بسبب رفضهم للإغراءات والتهديدات , والبعض منهم استشهد في سبيل المبادئ والقيم الوطنية والاخلاقية السامية … ؛ والبعض الاخر من القيادات والزعامات مفككة ومخترقة من قبل المنكوسين والعملاء … ؛ وقد حقق بعض قادة الاغلبية العراقية الاصيلة مكاسب تاريخية لا تنسى ابدا .
الا اننا نأمل من البعض ؛ التحلي بروح المسؤولية , والتمسك بالهوية العراقية الاصيلة , والشعور بالروح الوطنية , وتقديم مصلحة الوطن والمواطن على المصالح الفئوية والحزبية والشخصية الضيقة … ؛ ومن الشواهد التاريخية العالمية على هذا الشعور الوطني السامي ؛ شارل ديغول ؛ ففي عام 1969 خسر ديغول في تمرير قرار سياسي ؛ من خلال الاستفتاء الشعبي , وعلى اثرها اعلن قائلا : ( … سأتوقف عن مهامي كرئيس للجمهورية , وان هذا القرار سيدخل حيز التنفيذ اليوم مع منتصف النهار … ) وهذا اخر ما نطق به الرئيس الفرنسي ديغول ؛ فقد احترم رأي شعبه , وتاريخه السياسي والعسكري والوطني ؛ وذهب الى الريف , وكتب مذكراته ؛ قائلا : (ليس المهم ان أكون الرئيس ، المهم ان ارى فرنسا في المقدمة ) … ؛ فنحن اليوم بأمس الحاجة لانبثاق زعامات عراقية وظهور قيادات وطنية ؛ تعمل على اجراء المراجعات وتصحيح المسيرة والحسابات وتغيير البرامج والشعارات ؛ وتحقيق الانجازات والنجاحات في مختلف الاصعدة والمجالات … ؛ والسعي من اجل بناء دولة وطنية قوية مقتدرة وفاعلة , ورفع شعار : العراق اولا واخيرا .
ومن الواضح ان المجتمعات الديمقراطية الحقيقية توجد فيها ثلاث توجهات سياسية ؛ مسيطرة على المشهد السياسي , الا وهي : احزاب تمثل اليسار , واحزاب تمثل اليمين , واحزاب تمثل تيار الوسط … ؛ وكلها تعمل من اجل المصلحة الوطنية لا غير ؛ وهذا هو منطق السياسة الوطنية الحقيقية … ؛ فلو كانت الاحزاب والحركات السياسية العراقية راغبة فعلا ؛ في تطبيق النظام الديمقراطي الحر وارساء قواعد رصينة للعملية السياسية المستقرة وتقوية المسار الديمقراطي ومبدأ التداول السلمي للسلطة … ؛ لبادرت إلى تنظيم المشهد السياسي الذي يتسم بالضبابية والهلامية والفوضى وانعدام الرؤية الوطنية والهوية العراقية الاصيلة ؛ فإحداث ثلاثة أقطاب سياسية لا غير ؛ وبصورة حقيقية و واقعية ؛ هو عقلنة للمشهد الحزبي الشارد.(1)
لكن واقع الحال في عراقنا ؛ يظهر التناقض الصارخ والكذب الفاضح والمهازل السياسية ، إذ طالما لعب السياسي والزعيم الشعبي – البعض منهم كما اسلفنا – على احبال السياسة كالقرد ؛ فبينما تراه في الانتخابات السابقة قوميا او اسلاميا ؛ واذ به يتحول بقدرة قارد الى منظر وطني او علماني في الانتخابات اللاحقة , وقد يتحول من اليسار الى اليمين , بطرفة عين , ومن اليمين الى الوسط … ؛ وهكذا دواليك ؛ اذ ترى الأحزاب والساسة يتخاصمون ويتراشقون حين تقترب الانتخابات , وبعدها يتحالفون ويتجادلون ، ويضحكون ويمرحون ؛ ففي تقسيم الغنائم يتوافقون وعند توزيع الامتيازات والمناصب يتفقون ، وهكذا يفعلون دائما فهم في السر غيرهم في العلن … ؛ وعندها لا يستطيع المواطن البسيط التمييز بين الاسلامي والليبرالي والعلماني والشيوعي والقومي والوطني … ؛ اذ يصبح المبدأ الثابت والعقيدة الراسخة في اللعبة السياسية ؛ تحقيق المصلحة الشخصية والحزبية والفئوية باي ثمن كان ؛ وبغض النظر عن الاضرار الفادحة التي تلحق العراق والامة العراقية جراء قراراتهم المنكوسة وافكارهم الهدامة وسلوكياتهم اللاوطنية وتصرفاتهم اللاإنسانية .
ومن البين ان هذه التصرفات والرؤى السياسية المنكوسة تؤثر سلبا على الواقع العراقي العام ؛ اذ تولد نفورا من الاحزاب والحركات السياسية , وابتعادا عن العملية السياسية , وبغضا بالحكومات واشمئزازا من الانتخابات … ؛ وهو ما يؤدي إلى خلق بيئة خصبة مليئة باليأس وفقدان الثقة وانعدام الشعور بالوطنية والمسؤولية ، مما ينعكس سلبا على المبادرة الحرة، والمشاركة الايجابية , والتنمية السياسية , والاهتمام بالصالح العام … ؛ وهذه الظواهر تؤدي بدورها الى الموت البطيء والهشاشة والكبت والضياع الذي يسبق العاصفة العوجاء والثورة الحمراء ... ؛ ومن المعلوم ان كثرة الانتظار من قبل الجماهير والمواطنين , وترديد الوعود السياسية في كل دورة انتخابية من قبل الساسة والمرشحين ؛ تفقد القيم والمثل والمبادئ والشعارات بريقها وقيمتها وقوة تأثيرها … ؛ بل وتفسد صلاحياتها في قلوب العراقيين .
……………………………………
1-الانتخابات أو حينما تفقد الديمقراطية بريق بوصلتها / منير الحردول / بتصرف .