صباح البغدادي
في حديث للرسول محمد (صلى الله عليه وآله) انه قال:” لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَلِكُلِّ زَمَانٍ رِجَالٌ “ومقولة الأمير الهلالي :”لِكُلِّ زَمَانٍ دَوْلَةٌ وَرِجَالٌ”لكل زمن دولة ورجال… ففي زمن التحدي، تقوم دولة الإرادة ويقوم رجال البناء هنا تُحمّل المقولة معنى اخر إيجابيًا، وعلى الرغم من كل سلبياته، كان زمنًا اجتمعت فيه “دولة” (مؤسسة حكم ذات سيادة وقرار) مع “رجال” (كفاءات هندسية وعلمية مخلصة لوطنها ). كانت هناك إرادة سياسة واحدة والتزام وطني، فنتج عنها أعجوبة جسر الجادرية وإعادة بناء جسر المعلق وتحدي الحصار الجائر لذا فكان لزمن التحدي دولة الإرادة فأنجبت رجال البناء والإعمار ، فأقيم جسر الجادرية بتصميم عراقي خالص..
أما في زمن المحاصصة الطائفية والمذهبية ، تقوم دولة أحزاب الإسلام السياسي ، فولدت دولة الفساد المالي والإداري والأخلاقي فأنتجت رجال الانهيار، فتهاوى جسر العطيشي على رؤوس أبنائها. فالعار ليس على الرجال وحدهم، بل على الدولة التي تصنعهم وترميم صوري لجسر الناصرية الكونكريتي مدة سنه 7اشهر ومبلغ اكثر من 7 مليار دينار, وجسر الطوبجي قيد الإنشاء في بغداد، إلى انهيار جزئي نهاية العام الماضي.
أن “الدولة” في العهد الحالي ليست سوى وهم، فقد تم تفكيكها وتحويلها إلى دويلات طائفية وحزبية متناحرة. وبالتالي، فإن “الرجال” الذين تنتجهم هذه “الدولة” المريضة هم ليسوا رجال بناء وإعمار، بل هم رجال فساد ونهب ووساطة، وتكون النتيجة الطبيعية هي انهيار الجسور على رؤوس المواطنين.
ما أشبه الليلة بالبارحة! ها هم أولئك الذين قدموا لنا وعود “الإعمار والتنمية” يقدمون لنا اليوم، وبكل وقاحة، “أعمالهم” على أرض الواقع: جثثًا تحت الأنقاض، وجسورًا من الورق، وكذبة انتخابية كبرى اسمها “ائتلاف الإعمار والتنمية”.
إنها ليست مصادفة أن تنهار الجسور مع اقتراب موعد الاستحقاقات الانتخابية. إنها استراتيجية! فحينما يلهث “السوداني” وحركته السياسية وراء صورة مزيفة للإنجاز، يصبح المواطن مجرد رقم في استبيان، والجسر مجرد صورة على بوستر دعاية، والحياة البشرية مجرد تكلفة عابرة يمكن تحمّلها في سبيل “قص الشريط” في الوقت المحدد.
إن دماء الأبرياء التي سالت تحت أنقاض جسر العطيشي في كربلاء هي نفسها الحبر الذي يُطبع به منشورات “ائتلاف الإعمار والتنمية”. إنها صفحة سوداء في مسيرة حكومة تتصارع فيها الأجندات الانتخابية على أشلاء المواطنين. إنهم لا يبنون، بل ينهبون المليارات ثم يرمون للشعب بعظام مشاريع مهترئة، كي يقولوا للناخب: “انظروا.. نحن نعمر!”
لكن الحقيقة المرة التي في وجه كل عراقي هي: أن هذا “الإعمار” هو أقصر طريق إلى المقبرة. وأن هذا “الائتلاف” لم يأتِ بالتنمية، بل جاء بالدمار والموت. لقد حوّلوا وزارة الإعمار إلى ماكينة للفساد، وشعارهم الانتخابي إلى نعي يومي يعلن عن انهيار جديد، وجريمة جديدة، وفضيحة جديدة.
فهل هناك من لاذعة أكثر من أن يُقتل مواطن لأن رئيس وزرائه كان في عجلة من أمره ليطبع صورته على منشور انتخابي؟ هذه ليست إساءة إدارة، بل هي جريمة سياسية بمواد كاملة، والضحايا هم من دفعوا ثمن تذاكر الدخول إلى كرنفال الانتخابات الزائف.
لم تكن الكتل الخرسانية المتناثرة على ضفاف نهر العطيشي في كربلاء مجرد حطام جسر انهار. كانت تلك الكتل شواهد قبر على دفن الكفاءة، والنزاهة، والإخلاص للوطن. كانت النتيجة الحتمية لفساد استشرى حتى أصبح نظامًا، ولعبة سياسية قذرة تُدفع فاتورتها أرواح العراقيين الأبرياء.
ما حدث ليس “حادثًا إنشائيًا عابرًا” كما يحلو للمسؤولين الفاسدين تسميته. إنه جريمة قتل جماعي مخططة وممولة من أموال الشعب، وتنفذ ببرودة دم تحت شعارات ديمقراطية مزيفة تخفي تحتها وحشًا طفيليًا يلتهم مقدرات البلاد.
للفضيحة وجهان، وكأنما قُدِّر للعراق أن يكون مختبرًا للتناقض الأكثر إيلامًا في التاريخ الحديث.
الوجه الأول: جسر التحدي في زمن الحصار(1)
في أعقاب حرب خليجية مدمرة وحصار جائر كاد أن يسحق عظام الأمة، وقف العراقيون وحدهم بشعار يزلزل الضمير: “يعمر الأخيار ما دمره الأشرار”. لم يكن شعارًا للاستهلاك الإعلامي، بل كان عهدًا والتزامًا تحول إلى حقيقة ملموسة.
ها هو جسر الطابقين في الجادرية شاهد خالد على تلك الحقبة. صممته ونفذته أيادي عراقية خالصة، بعقول محلية لم تستعن بشركات أجنبية تستنزف المليارات. لم تكن هناك “مشاريع ميغا” ولا ميزانيات خيالية، بل كان هناك إرادة وتحدٍ. في ظل ظروف لا إنسانية، تم إنجاز هذا المعمار الهندسي الفريد في 15 شهرًا فقط. جسرٌ أصبح أيقونة للعراق القوي، المتحدي، الذي لا ينكسر. لقد بنى صدام حسين وأنصاره آنذاك جسورًا من الإرادة والصمود، تربط بين ضفتي الوطن وتحمله فوق أمواج التدمير والحقد.
الوجه الثاني: جسور الوهم في زمن “الديمقراطية” والفساد
بعد عام 2003، دخلنا “عهدًا جديدًا” مزعومًا. عهد المليارات المنهوبة، وعهد المحاصصة الطائفية، وعهد “الديمقراطية” التي تمنح المقاول الفاسد صكوك الغفران طالما ينتمي للكتلة “الصحيحة”.
اليوم، لا تُبنى الجسور، بل تُنفَّذ “مشاريع”. والفارق الجوهري أن الهدف من “المشروع” ليس الربط الجغرافي أو خدمة المواطن، وإنما هو عملية سطو منظم على المال العام. تُمنح العطاءات لشركات وهمية أو لمقربين من الموالين، بشهادات مهندسين مزورة، وتصاميم هشة، ومواد رخيصة يتقايض بها المقاول الفاسد مع الموظف الحكومي الفاسد على حساب متانة البناء وحياة الناس.
النتيجة؟ كوارث متتالية لا تفسير لها سوى منطق الفساد: جسر الحسينية الذي يربط كربلاء ببغداد ينهار قبل اكتماله، وجسور ومزارات تنهار بسبب “الرطوبة” وكأنها بُنيت من الورق المقوى! ثم تأتي فاجعة مجسر العطيشي لتكمل المشهد الكارثي.
التحميل هنا ليس تخمينًا، بل هو استنتاج حتمي لمن لديه ذرة إدراك:
- الشركات المنفذة غير المؤهلة: التي فازت بالمناقصات ليس بالكفاءة، بل بالوساطة والانتماء الطائفي والحزني.
- دوائر الإشراف الضعيفة: التي إما أنها شريك في الجريمة بالصمت، أو أنها عاجزة بسبب تعيين مسؤولين فاسدين أو غير أكفاء فيها.
- رأس الهرم السياسي: رئيس الحكومة ووزراؤه هم من يتحملون العبء الأكبر. لا نستبعد أن تكون هناك ضغوط سياسية مبطنة لإكمال المشاريع و”قص الشرائط” قبل الانتخابات، بغض النظر عن الجودة، لتلميع صورة وهمية لإنجازات لم تتحقق. إنها لعبة انتخابية دنيئة، والرهان فيها هو حياة المواطنين.
الفرق بين الجسرين هو الفرق بين منهجيتين في الحكم: منهجية كانت تريد بناء الوطن وتتحدى العالم بكل إمكاناتها المحدودة، ومنهجية طفيلية قائمة على نهب الوطن وتدمير مؤسساته وقتل أبنائه، ثم إلقاء الخطب الرنانة عن “الديمقراطية” و”الحرية”.
إذا كانت جريمة انهيار جسر العطيشي في كربلاء قد أثارت الغضب والألم، فإن الكوارث “الكوميدية” التي تلتْها حولت غضب الشعب إلى سخرية مريرة، وكشفت أن الوباء لم يعد يقتصر على الانهيار، بل طال كل شيء حتى صار المنظر العام للعراق مادةً للتندر والسخرية.
ها هو مجسر “شلال الزعفرانية” يقدم نفسه كأحدث معلم سياحي (مجاني!) في بغداد. فبدلاً من أن يربط الجسر بين الضفتين، قرر أن يربط العراقيين بذكريات أفلام الكارتون من خلال تحوله إلى “نافورة مائية” تسخر من كل من مر من مسؤولي هذه الحكومة. إنها ليست ظاهرة طبيعية، بل هي تسونامي من الفساد يخرج من كل فجوة في الجسر ليعبر عن حجم العبثية التي وصلت إليها مؤسسات الدولة.
ولم يكن جسر الناصرية بأقل حظاً من “شلال الزعفرانية”، فقد حظي بـ “ترميم كارتوني” بتكلفة خيالية بلغت 7 مليارات دينار واستغرقت 7 أشهر، ليكتشف المواطنون أن هذه المليارات قد ذهبت لطبقة من الدهان تغطي تحتها العفن والفساد، في صورة مثالية تعكس فلسفة هذا النظام: معالجة الظاهر وإهمال الجوهر، تماماً كما يفعلون مع كل ملفات البلاد.
أما الحلقة الأكثر تراجيكوميدية في هذه المسرحية، فهي قصة جسر الطوبجي الذي لم يتحمل حتى انتظار الافتتاح الرسمي ليهوي على نفسه! لقد انهار جزئياً كاعتراف صريح من موادّه غير المطابقة للمواصفات بأن هذا البناء لم يُخلق ليبقى، بل خُلق ليكون فخاً مالياً ينهب خلاله المقاولون والموظفون المليارات، ثم يقدمون للمواطن جسراً لا يصلح حتى أن يكون ديكوراً.
هذه النماذج ليست أخطاءً إنشائية، بل هي جرائم مالية وسياسية منظمة تُرتكب في وضح النهار. إنها إعلانٌ صريح عن موت الضمير، وانتصار ثقافة “المناقصة” و”العمولة” على حساب الكفاءة والأمان والحياة نفسها.
لقد نجح “ائتلاف الإعمار والتنمية” في تحويل العراق إلى سيرك كبير، تديره مجموعة من البلهاء واللصوص، وعروضه اليومية هي: جسر ينهار، وآخر يتحول إلى شلال، وثالث يدهن بالمساحيق… بينما الجمهور منشغل بالنزيف أو بالضحك كي لا يبكي.
لقد انتقلنا من زمن كان البناء فيه عنوانًا للتحدي والإرادة، إلى زمن صار الانهيار فيه عنوانًا للفساد والعبثية. جسور صدام ما زالت تقف شامخة تتحدى الزمن، وجسور “الديمقراطية” تنهار قبل أن تجف الخرسانة، وتسحق تحتها أحلام وأرواح من كانوا يأملون بـ”عراق جديد”.
ولغاية هذه الساعة وحسب متابعتي عن كثب لهذه الحادثة لا يوجد إعلان واضح أو رسمي حكومي باسم الشركة المحددة التي نفذت مشروع الجسر العلوي (مجسر العطيشي) في محافظة كربلاء.وهذه الظاهرة في حد ذاتها موضحة جدًا للمشكلة. بعد وقوع حادث كارثي في مشروع عام كبير يؤدي إلى إصابات بشرية، لا يتم الإفصاح عن معلومات المقاول على الفور وبشفافية في التصريحات الرسمية، مما يعكس عادةً وجود نقص خطير في المساءلة و عدم كفاية الشفافية في عملية منح المشروع وتنفيذه والإشراف عليه.
عدم شفافية المعلومات: في العراق، خاصة بعد عام 2019، عادة ما تدار مشاريع البنية التحتية العامة الكبيرة (خاصة الجسور والطرق) من قبل لجنة إعمار العراق أو لجان الاستثمار المحلية ذات الصلة. غالبًا ما يتم منح المشاريع لشركات “محلية” أو “حليفة” ذات صلة بالكتل السياسية الرئيسية أو الفصائل، ونادرًا ما يتم الإفصاح عن تفاصيل العقد ومعلومات المقاول بشكل كامل للجمهور.- نمط التنفيذ المحتمل: قد يكون هناك تعدد في طبقات المقاولين من الباطن لمثل هذه المشاريع. بعد فوز شركة ما “بالمقاولة العامة” المؤهلة، قد تقوم بتفويض العمل إلى عدة شركات أصغر حجمًا، وغير متخصصة، وحتى تفتقر إلى المؤهلات. عند حدوث مشكلة، تصبح سلسلة المسؤولية غامضة ويصبح تتبعها صعبًا.
- نمط رد الفعل الرسمي: بعد الحادث، يكون رد الفعل الرسمي الأولي تشكيل “لجنة تحقيق”، والوعد بمحاسبة المسؤولين، واعتقال بعض مدراء المواقع أو المهندسين من المستوى المتوسط أو المنخفض. ومع ذلك، نادرًا ما يتم الإفصاح عن تقرير التحقيق النهائي بالكامل، ونادرًا ما تتم محاسبة الشخصيات السياسية رفيعة المستوى أو المستفيدين الحقيقيين . في مثل هذه الأجواء، يتم إخفاء اسم الشركة عمدًا أو غير عمدي.
العار ليس في سقوط الجسور، بل في سقوط الضمير وانهيار النظام القائم على المحاصصة والفساد. والكارثة أن هذه الجسور المنهارة ليست سوى انعكاس لمجتمع ينهار ببطء تحت وطأة فساد لا يرحم.فإلى متى تبقى أرواح العراقيين ومشاعرهم هي الوقود الذي تُشغل به آلة الفساد والدعاية الانتخابية الكاذبة؟
(1)لمزيد من التوثيق والمتابعة راجع مقالنا الوثائقي والمعنون :”من تراث شهداء طائر العنقاء العراقي … حقائق عن التحدي لبناء وإنجاز جسر ذو الطابقين!” 16 حزيران 2016 وعلى الرابط التالي : https://kitabat.com/%d9%85%d9%86-%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%ab-%d8%b4%d9%87%d8%af%d8%a7%d8%a1-%d8%b7%d8%a7%d8%a6%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d9%82%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%82%d9%8a-%d8%ad%d9%82/