الذل… سجن بلا جدران

رياض الفرطوسي

ليست كل الجراح تُرى على الجسد، فبعضها يرسخ عميقاً في الروح حتى يصير طبعاً لا يغادر صاحبه. الذلّ واحد من هذه الجراح، حين يُغرس في النفس منذ الصغر، يتحول إلى قدرٍ يلون نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى الآخرين.

عجيب أمر الذليل: ترى كرمه في غير موضعه، يوزعه على من يزدريه ويطعن كرامته، بينما يبخل بالعطف على من يحبونه ويصونون مقامه. إنه قلب منكوس، يخلط بين من يستحق ومن لا يستحق. وربما كان ذلك ما قصده الشعراء حين قالوا إن بعض الناس يلينون مع عدوهم ويقسُون مع أحبتهم، لأن في داخلهم فراغاً لم يعرف طعم العزة قط.

خطورة الذل أنه لا يُعلَّم ولا يُهذَّب. الجاهل يمكن أن تنير له الطريق، والمتجبر يمكن أن تهذبه التجارب، أما من تشرب الهوان حتى صار جزءاً من دمه، فإصلاحه عسير. ذلك أن الذل ليس سلوكاً عابراً، بل هو شبكة معقدة من النظرات الدونية والشكوك الخانقة، تحبس المرء داخل قفص لا يرى أبوابه.

ولذلك كان الحكماء يحذرون من مؤانسة الذليل. فالمهانة حين تتجذر في الروح تجعل صاحبها يتوجس من الكرامة إذا مُنحت له، يراها طارئة عليه، هدية أكبر من مقاسه، فيرتبك ويفقد توازنه. وربما ينقلب على من رفعه، كما ينقلب الجائع على من أطعمَه أكثر مما يحتمل.

الذل إذن لعنةٌ على صاحبه قبل أن يكون وصمةً في عيون الآخرين. هو سقوط الروح، وغياب القدرة على أن يرى الإنسان نفسه أهلًا للحرية والعزة. وما لم يولد في داخله توق حقيقي إلى الكرامة، سيبقى أسيراً لهذا السجن الخفي، سجن بلا جدران لكن أبوابه مغلقة من الداخل.