بقلم الأستاذ حسين شكران الأكوش العقيلي _ كاتب ومؤلف
في كل صباح، يخرج الطالب من بيته وهو يحمل حقيبته الممزقة وأحلامه الصغيرة، متوجهاً إلى مدرسةٍ لم تعد تشبه المدرسة إلا بالاسم. جدران متصدعة، نوافذ مكسورة، مقاعد خشبية متآكلة، ومرافق صحية غائبة أو مهملة، كلها مشاهد يومية تُشكّل صورة قاتمة عن واقع التعليم في بلادنا. إن الطالب الذي يفترض أن يجد في المدرسة بيئةً آمنةً للتعلم والنمو، يجد نفسه محاصراً بأزماتٍ متراكمة، تبدأ من انعدام الخدمات الأساسية ولا تنتهي عند ضعف المناهج وغياب الرؤية الإصلاحية.
الأزمة هنا ليست مجرد خلل إداري أو نقص في التمويل، بل هي انعكاس لغياب التخطيط الاستراتيجي الذي يضع الطالب في قلب العملية التعليمية. فحين تتحول المدرسة إلى بناية متهالكة، فإن الرسالة التربوية تفقد معناها، ويصبح التعليم مجرد حضور شكلي لا يثمر معرفة ولا يبني شخصية. الطالب الذي يجلس في صفٍ مكتظ، بلا تهوية ولا كهرباء ولا ماء صالح للشرب، كيف له أن يركز على دروسه أو أن يبدع في تفكيره؟ إن البيئة المدرسية ليست مجرد إطار خارجي، بل هي جزء جوهري من العملية التعليمية، وأي خلل فيها ينعكس مباشرة على مستوى التحصيل العلمي وعلى نفسية الطالب.
لقد أصبح التعليم في كثير من المناطق أقرب إلى معركة يومية يخوضها الطالب والمعلم معاً ضد الإهمال والحرمان.
والمعلم الذي يقف أمام الطلبة وهو يفتقر إلى الوسائل التعليمية الحديثة، يجد نفسه عاجزاً عن إيصال المعرفة بالصورة المطلوبة، في حين يواجه الطالب شعوراً بالخذلان، إذ يرى أن المدرسة التي يفترض أن تكون بوابة المستقبل، تحولت إلى عبءٍ نفسي ومكاني. هذه المفارقة بين الحلم والواقع تُنتج جيلاً مرتبكاً، يفتقد الثقة بالمؤسسة التعليمية، ويشعر أن مستقبله يتسرب من بين يديه.
إن خراب البنى المدرسية لا يعني فقط انهيار الجدران أو غياب الخدمات، بل يعني انهيار الثقة بين الطالب والدولة، بين المواطن ومؤسساته. التعليم هو العمود الفقري لأي مجتمع يسعى للنهوض، وحين يُترك الطالب في مواجهة بيئة تعليمية متهالكة، فإننا نزرع بذور الإحباط ونحصد ثمار التراجع. لا يمكن أن نتحدث عن إصلاح اجتماعي أو نهضة اقتصادية في ظل تعليمٍ يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة.
إن الطالب اليوم يعيش أزمة مركبة: أزمة تعليمية تتعلق بالمناهج والوسائل، وأزمة خدمية تتعلق بالبنى التحتية، وأزمة قيمية تتعلق بفقدان الثقة بالمؤسسة. هذه الأزمات مجتمعة تجعل من المدرسة مكاناً طارداً لا جاذباً، وتحوّل التعليم من فرصة إلى معاناة. وإذا استمر هذا الواقع، فإننا سنواجه جيلاً يفتقد إلى أدوات التفكير النقدي والإبداعي، ويجد نفسه محاصراً في دائرة الفقر المعرفي والحرمان الاجتماعي.
إن معالجة هذه الأزمة تتطلب إرادة سياسية حقيقية، ورؤية إصلاحية شاملة، تبدأ من إعادة بناء المدارس وتأهيلها، ولا تنتهي عند تطوير المناهج وتدريب الكوادر. الطالب ليس رقماً في سجل إداري، بل هو مشروع حياة، وكل إهمال في حقه هو إهمال في حق المجتمع بأسره. إن الاستثمار في التعليم هو الاستثمار الأجدى، لأنه يضمن بناء إنسان قادر على مواجهة تحديات العصر، ويعيد الثقة بين المواطن ومؤسساته.
وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً أمام الجميع: هل سنترك الطالب يضيع بين أزمة التعليم وخراب البنى المدرسية، أم سنعيد للمدرسة روحها لتكون بيتاً للعلم والأمل؟ إن الإجابة على هذا السؤال ليست مجرد خيار، بل هي مسؤولية وطنية وأخلاقية، لأن مستقبل الأمة يبدأ من مقعدٍ دراسي، ومن طالبٍ يحلم أن يكون له مكان في عالمٍ يتغير بسرعة.