نوفمبر 21, 2024
2443

اسم الكاتب : لقمان عبد الرحيم الفيلي

تمثل ألمانيا مثالا ساطعاً للازدهار الاقتصادي والاستقرار في أوروبا، باقتصادها القوي الذي يتميز بالإبداع التكنولوجي، وقطاع التصنيع النشيط، والقوى العاملة الماهرة، والذي أكسبها باستمرار موقعاً بين الاقتصادات الرائدة في العالم. وبالنسبة للعراق، هناك دروسٌ قيّمة يمكن استخلاصها من نجاح التجربة الألمانيَّة، خصوصاً وهي تمرُّ بمرحلة إعادة بناء وتحديث اقتصادها. في هذه المقالة، نبين العناصر الأساسيَّة للنموذج الاقتصادي الألماني وما يمكن للعراقيين الاستفادة منه لتحسين آفاقهم الاقتصاديَّة.

السياق التاريخي:
كان النموذج الاقتصادي الألماني، حجر الزاوية في النجاح الاقتصادي للبلاد بعد الحرب، ويمزجُ هذا النموذج، والذي يشار إليه غالباً باسم «اقتصاد السوق الاجتماعي»، بين الرأسماليَّة التي يحركها السوق وشبكة أو منظومة أمان اجتماعي فعالة، مع التركيز على الكفاءة الاقتصاديَّة والعدالة الاجتماعيَّة، وكان هذا النهج الاقتصادي الجديد يهدفُ لإيجاد توازنٍ دقيقٍ بين رأسماليَّة السوق الحرة والتدخل الحكومي، وكان يسعى إلى تسخير كفاءة قوى السوق مع ضمان تقاسم الثروة والرخاء على نطاقٍ واسع.
شهدت ألمانيا منذ الحرب العالميَّة الثانية تحولاً اقتصادياً ملحوظاً، إذ تطورت من دولة مزقتها الحربُ لتصبح واحدة من الاقتصادات الرائدة في العالم.
ولكي نفهم المشهد الاقتصادي بطريقة موضوعيَّة نحتاج أنْ ننظرَ إلى تاريخ ألمانيا الحديث، من خلال المرور السريع على العديد من الأحداث والتطورات الرئيسة التي لعبت دوراً محورياً في تشكيل المسار الاقتصادي لألمانيا بما في ذلك:
* تشكيل جمهوريَّة ألمانيا الاتحاديَّة (1949).
* خطة مارشال (1948 – 1952).
* إصلاح العملة (1948).
* المعجزة الاقتصاديَّة (الخمسينيات والستينات).
* التكامل الأوروبي (1957) .
* سقوط جدار برلين وإعادة توحيد ألمانيا (1989 – 1990).
* اعتماد اليورو (1999).
* برامج سوق العمل ونظام الرعاية الاجتماعيَّة.
* الإصلاحات (2003).
* الأزمة الماليَّة العالميَّة (2008).
* سياسات البيئة والمرحلة الانتقاليَّة.
* الابتكار التكنولوجي والصناعة (مع التأكيد على الأتمتة والرقمنة والتصنيع الذكي).
* تداعيات جائحة (كوفيد – 19) (2020 – 2021).
لقد شكلت الأحداث المذكورة والتطورات الرئيسة رحلة ألمانيا الاقتصاديَّة المتميزة منذ الحرب العالميَّة الثانية وحتى يومنا هذا، ومن إعادة البناء والنمو السريع إلى إعادة توحيد الألمانيتين والإبداع المستمر، فإنَّ التزام ألمانيا بالاستقرار الاقتصادي والازدهار جعلَ منها قوة اقتصاديَّة
عالميَّة.
لا يزال اقتصاد السوق الاجتماعي في ألمانيا أنموذجاً للنجاح الاقتصادي الذي يوازنُ بين النمو الذي يحركه السوق والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة، وأسهم تركيزهم على جودة التصنيع، والقوى العاملة الماهرة، والتعاون في مجال العمل، وشبكات الأمان الاجتماعي، في تعزيز مكانتهم كقوة اقتصاديَّة عالميَّة، ويعدُّ النموذج الاقتصادي الألماني بمثابة شهادة دائمة على إمكانيَّة مزج الكفاءة الاقتصاديَّة مع العدالة الاجتماعيَّة، ويقدمُ دروساً لدول التي تسعى إلى الرخاء الاقتصادي المستدام ومنها العراق.
من هنا يمكننا أنْ نرى أنَّ النموذج الاقتصادي الألماني هو نموذجٌ خاصٌّ وفريدٌ يجمعُ بين عناصر الرأسماليَّة والديمقراطيَّة الاجتماعيَّة، وهو يسعى إلى تسخير كفاءة قوى السوق وريادة الأعمال مع ضمان تقاسم فوائد النمو الاقتصادي على نطاقٍ واسع، فضلاً عن وجود شبكة أمان اجتماعي قويَّة لحماية المواطنين. وكثيراً ما يُستشهد بهذا النهج المُتفرد بوصفه أحد أسباب النجاح الاقتصادي الذي حققته ألمانيا وقدرتها على تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، وهو لا يتماشى بدقة مع الفئات الأيديولوجيَّة التقليديَّة للرأسماليَّة أو الاشتراكيَّة، ولكنه يمثل بدلاً من ذلك نهجاً عملياً وفعالاً للإدارة الاقتصاديَّة.

ركائز النجاح الاقتصادي الألماني
يتسمُ الاقتصاد الألماني بخصائص تشكلُ العناصر الرئيسة للقوة التي أكسبت جمهوريَّة ألمانيا الاتحاديَّة الصدارة والقيادة:
1 – الاقتصاد الموجه للتصدير:
يعتمد الاقتصاد الألماني على الصادرات، وإنَّ سعي الدولة الدؤوب لتحقيق الجودة والدقة في التصنيع جعل من عبارة “صنع في ألمانيا” مرادفاً للموثوقيَّة.
2 – الابتكار والبحث والتطوير:(R&D)
يتجلى التزام ألمانيا بالابتكار في استثماراتها الكبيرة في البحث والتطوير، وتعملُ شبكتها من الجامعات والمؤسسات البحثيَّة على تعزيز التقدم التكنولوجي وتطوير المنتجات الجديدة.
3 – التدريب المهني والقوى العاملة الماهرة: يجمع نظام التعليم المزدوج في ألمانيا بين التدريس في الفصول الدراسيَّة والتدريب العملي، الامر الذي يخلقُ ويضمنُ وجودَ قوة عاملة ماهرة وقابلة للتكيف.
4 – الاستثمار في البِنْية التحتيَّة: تتمتع ألمانيا ببِنْية تحتيَّة جيدة الصيانة والإدامة، بما في ذلك وسائل النقل العام الفعالة والطرق السريعة الحديثة.

مكامن القوة والتحديات:
إنَّ موقع ألمانيا الجيوسياسي وسياساتها الاقتصاديَّة متشابكان بشكلٍ وثيقٍ، حيث تنبع العديد من نقاط القوة من المزايا الجيوسياسيَّة التي تتمتع بها، وفي مقدمتها:
* الموقع الاستراتيجي في أوروبا.
* انسيابيَّة الوصول إلى الأسواق الكبيرة وجودة الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة.
* الاستقرار السياسي.
* القوى العاملة الماهرة.
* الاقتصاد الموجه للتصدير.
* التقدم التكنولوجي.
* قيادة تحول الطاقة.
* القطاع المالي الرصين.
* القدرة على مواجهة الصدمات الاقتصاديَّة.
* التأثير الدولي.
* العلاقات التجاريَّة الثنائيَّة.
* علاقات وطيدة متعددة الأطراف.
وبالرغم من أنَّ النظام الاقتصادي الألماني حققَ نجاحاً ملحوظاً، فإنَّه لا يخلو من التحديات ونقاط الضعف، إذ تشمل بعض الأخطاء أو التلكؤات الإستراتيجيَّة الرئيسة في النظام الاقتصادي الألماني:
* الاختلالات الاقتصاديَّة داخل الاتحاد الأوروبي.
* عدم المساواة في الدخل.
* التحديات الديموغرافيَّة والمخاوف البيئيَّة.
* الاعتماد على الصادرات.
* تحديات الرقمنة.
* التفاوتات في سوق العمل.
* تعقيدات البيروقراطيَّة واللوائح التنظيميَّة.
ومن المهم الإشارة إلى أنَّ نقاط الضعف والتحديات هذه تخضع لنقاشات داخليَّة مستمرة وقد تختلف أهميتها وفقاً لوجهة نظر أصحاب المصلحة، ولقد أظهر النظام الاقتصادي الألماني مرونة في مواجهة تحديات عدة، مثل الاعتماد على روسيا في مصادر أمن الطاقة، أو الصين في بيع سياراتها للصين، ولكنَّ معالجة هذه التحديات ستكون ضروريَّة لاستمرار نجاحه واستدامته في مشهدٍ عالمي سريع
التغير.

دروسٌ للتنمية الاقتصاديَّة للعراق:
ولننظر الآن إلى الدروس التي يمكنُ أنْ تنفعَ العراقَ من هذا النموذج الألماني:
1 – التنويع:
يعتمد الاقتصاد العراقي تقليدياً بشكلٍ كبيرٍ على صادرات النفط، بينما يؤكد النموذج الاقتصادي الذي تتبناه ألمانيا على أهميَّة التنويع، وهنا يحتاجُ العراق للشعور بالعجلة في استكشاف الصناعات غير النفطيَّة مثل الزراعة والتصنيع والتكنولوجيا والسياحة بشكلٍ عامٍ والسياحة الدينيَّة بالأخص لخلق اقتصادٍ أكثر مرونة.
2 – الاستثمار في التعليم:
إنَّ وجود نظامٍ تعليميٍ قويٍ أمرٌ أساسٌ للتنمية الاقتصاديَّة، ويمكن للعراقيين أنْ يستلهموا من تركيز ألمانيا على التعليم، في المجالين الأكاديمي والمهني، وإنَّ القوى العاملة الماهرة هي أصلاً لا تقدر بثمن في أي اقتصاد، ويمكن للعراق أنْ يستفيدَ من تطوير برامج التدريب المهني لمعالجة البطالة بين الشباب وتزويد القوى العاملة بالمهارات المطلوبة.
3 – دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة:
يستطيع العراق تعزيز ثقافة ريادة الأعمال من خلال توفير الدعم والموارد للشركات الصغيرة والمتوسطة، وتوفير القروض الميسرة، إذ إنَّ تشجيع نمو الشركات الصغيرة يمكن أنْ يؤدي إلى خلق فرص العمل والاستقرار الاقتصادي، ويمكن أنْ يقدروا قيمة هذه الشركات الصغيرة والمتوسطة في تعزيز ريادة الأعمال، وخلق فرص العمل، والتنوع الاقتصادي.
4 – الابتكار والبحث:
إنَّ إعطاء الأولويَّة للبحث والابتكار يمكن أنْ يدفع النمو الاقتصادي، وينبغي للعراق أنْ يستثمرَ في البحث والتطوير، وأنْ يعززَ التعاون بين الجامعات والصناعات، وأنْ يحفزَ الابتكارَ بين القوى العاملة فيه، وتشجيع الابتكار والاستثمار في التعليم والبحث لدفع النمو الاقتصادي.
5 – ترويج الصادرات:
يستطيع العراق استكشاف الفرص المتاحة لترويج سلعه وخدماته على المستوى الدولي، وإيجاد سلعٍ جديدة هويتها عراقيَّة بحتة، ومن خلال تحديد المزايا التنافسيَّة والاستثمار في الجودة، يمكن للمنتجات العراقيَّة أنْ تجدَ مكاناً لها في الأسواق العالميَّة، كما يمكن للعراقيين أنْ يتعلموا أهميَّة إنتاج سلعٍ عالية الجودة مطلوبة عالمياً، وإنَّ تطوير الصناعات الموجهة نحو التصدير يعزز الاقتصاد العراقي بشكلٍ كبير.
6 – الاستقرار السياسي والاقتصادي:
كان للاستقرار السياسي والبيئة الملائمة للأعمال التجاريَّة في ألمانيا دورٌ فعالٌ في نجاحها الاقتصادي، وعلى العراق العمل على خلق مناخٍ سياسيٍ مستقرٍ وإطارٍ تنظيميٍ لجذب المستثمرين، وهناك انسجامٌ ورغبة كبيرة من كلا الجانبين في تعزيز العلاقات الاقتصاديَّة الثنائيَّة، بيد أنَّ هناك بعض المعوقات التي تكبحُ جماحَ تلك الرغبة ومنها ضرورة توحيد المرجعيات العراقيَّة في العلاقة مع الدول المهمة مثل ألمانيا وفكُّ التداخل في ما بينهما، والذي يتسبب خلق ثغرات في التنسيق، لا سيما أنَّ كلا البلدين يتمتعان ببيروقراطيَّة عالية.

خاتمة:
تحتوي الثقافة الألمانيَّة على العديد من الأمثال والأقوال التي يمكن أنْ تقدمَ رؤى وحكمة تتعلق بالأمور الاقتصاديَّة والتمويل الشخصي والعمل الجاد. في ما يلي بعض الأمثال ذات الصلة:
* «المال يحكم العالم».
* «ادخر في أوقات الوفرة، وستحصل عليه في أوقات الحاجة».
* «من لا يعمل لا يأكل».
* وأخيراً «من العمل كغسالة أطباق إلى مليونير»، تعكس هذه العبارة فكرة أنَّ العمل الجاد والتصميم يمكن أنْ يؤديا إلى نجاحٍ اقتصادي كبيرٍ وحركةٍ
تصاعديَّة.
ومن المهم أنْ نلاحظ أنَّ السياسات الاقتصاديَّة الألمانيَّة تطورت استجابة للظروف المحليَّة والعالميَّة المتغيرة.
وقد سعت البلاد في كثيرٍ من الأحيان لتحقيق التوازن بين المبادئ الموجهة نحو السوق وأهداف الرعاية الاجتماعيَّة، الأمر الذي أسهم في سمعتها كقوة اقتصاديَّة تتمتع بشبكة أمانٍ اجتماعي قويَّة.
ولقد أسهمَ تأثير المدارس والمذاهب الاقتصاديَّة المختلفة في تشكيل النموذج الاقتصادي الفريد لألمانيا، والذي يجمعُ بين عناصر الاقتصاد الليبراليَّة والرأسماليَّة والرعاية الاجتماعيَّة.
إنَّ النجاح الاقتصادي الذي حققته ألمانيا هو نتيجة لمزيجٍ متناغمٍ من العوامل، بما في ذلك اقتصادها القائم على التصدير، والالتزام الذي لا يتزعزعُ بالتصنيع عالي الجودة، والبراعة الإبداعيَّة، والقوى العاملة المدربة تدريباً جيداً والقابلة للتكيف، ولم تحافظ هذه العناصر على قوتها الاقتصاديَّة فحسب، بل جعلت ألمانيا أيضاً أنموذجاً للدول الأخرى التي تسعى لتحقيق تفوقٍ اقتصادي مماثل.
يقدم النموذج الاقتصادي الألماني ثروة من الدروس المفيدة للعراق في سعيه إلى تطوير وتنويع اقتصاده. ومن خلال إعطاء الأولويَّة للتعليم والابتكار والتدريب المهني وخلق رأس مالٍ بشري متقدمٍ وتطوير البِنْية التحتيَّة، يستطيع العراق أنْ يمهدَ الطريق للنمو الاقتصادي المستدام والازدهار. إنَّ تبني المبادئ التي عززت نجاح ألمانيا يمكن أنْ يساعدَ العراق على بناء اقتصادٍ قويٍ ومرنٍ للمستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *