رياض سعد
*مقاربة: وحدة النسق الإنساني وتحوّلات الهوية العراقية
من المسلَّم به في حقل العلوم الطبيعية أنّ القوانين الكونية تسري وفق قواعدها الثابتة دون استثناء، وأنّ الظواهر تُقاس وتُختبر وفق منهجية صارمة تتيح إعادة إنتاج نتائجها في كل زمان ومكان… ؛ وعلى المنوال ذاته، وإن بدرجة أكثر تعقيداً، تُقدّم العلوم الإنسانية—كعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس—نظريات استطاعت أن تثبت نجاعتها من خلال قدرتها على تفسير السلوك الإنساني في مجتمعات مختلفة، استناداً إلى مبدأ راسخ مفاده أنّ الإنسان هو الإنسان، مهما تنوّعت أزياؤه الثقافية أو تبدّلت جغرافياته أو تعاقبت أزمنته… الخ .
إنّ الاعتراف بالأنماط المشتركة في الطبيعة البشرية لا يعني أبداً تجاهل خصوصيات الجماعات وسمات الشعوب التاريخية والوراثية والثقافية ، فمن الطبيعي أن تتشكّل السمات الجمعية نتيجة التفاعل بين الموروث البيولوجي والبيئة الاجتماعية والتجارب التاريخية والخبرات الثقافية… ؛ غير أنّ هذا التنوّع لا يلغي القاعدة الكبرى: وجود مشتركات إنسانية أساسية تحكم السلوك البشري… ؛ فكما يتمدّد الحديد بالحرارة في كل التجارب دون تمايز، كذلك تتحرّك الدوافع الإنسانية الكبرى—ومنها الغريزة الجنسية، وحاجتا الجوع والعطش، والدافع إلى البقاء—عبر كل المجتمعات البشرية دون استثناء… ؛ وهذا التماثل في البنى النفسية والوظائف العضوية لا يناقض حقيقة تنوّع الأساليب التي تعتمدها الثقافات المختلفة في ضبط تلك الدوافع أو تفسيرها أو تنظيمها داخل أنساق القيم.
وعليه، يصبح من غير الدقيق الادعاء بأنّ نظرية علمية معينة تنطبق على مجتمع دون آخر، أو أنّ غريزة محددة تظهر في جماعة بشرية وتختفي لدى أخرى… ؛ فالنظريات السوسيولوجية والنفسية الحديثة أخذت بالحسبان الفروق الثقافية والاختلافات البنيوية بين المجتمعات، لكنها ظلّت في إطارها العام قادرة على تفسير الظاهرة الإنسانية المشتركة، بوصفها ظاهرة تتجاوز حدود العرق والدين واللغة والجغرافيا .
نعم ، لا يصح الادعاء بأن نظريةً علميةً ما تُطبَّق في مجتمعٍ وتتعذر في آخر، أو أن غريزة الجنس حكرٌ على شعبٍ دون سواه من الشعوب… ؛ فثمة فرقٌ بين حتمية القوانين العلمية العامة، وبين مراعاة الفروق والخصوصيات بين المجتمعات… ؛ والنظريات العلمية في علم النفس والاجتماع قد أخذت في اعتبارها – أصلاً – هذه الاختلافات والسمات المميزة للشخصيات والجماعات.
وبناءً على ذلك، فإنّ كل ما يصحّ تطبيقه من قواعد علمية على المجتمعات الإيرانية أو التركية أو السعودية أو المصرية يصحّ بالضرورة على المجتمع العراقي، لأنّ القاعدة الأنثروبولوجية تؤكد وحدة الطبيعة البشرية وتنوّع تمظهراتها فحسب … ؛ ومن هنا، فإنّ إقدام الإيرانيين على وصف أنفسهم بـ الأمّة الإيرانية، أو الأتراك بـ الأمّة التركية, أو الأمريكيين بـ الأمّة الأميركية, على الرغم من تعدّد مكوناتهم الإثنية واللغوية والدينية، يُعدّ أمراً طبيعياً ومفهوماً ومتسقاً مع علم الاجتماع السياسي الحديث.
وتأتي هذه المقدمة التمهيدية لتسلط الضوء على مفارقةٍ غريبة: ففي الوقت الذي نرى فيه الإيرانيين يطلقون على أنفسهم “الأمة الإيرانية”، والأتراك “الأمة التركية”، والأمريكيين “الأمة الأمريكية” – رغم التعددية العرقية والدينية والثقافية الواضحة في تلك الدول – نجد أن الأمر يختلف كلياً عندما يتعلق بالعراق … !
فما أن يطرح مصطلح “الأمة العراقية” حتى يثور جدلٌ غير مبرر، ويُرفض تحت حجج الاختلاف في العقيدة أو اللغة أو العرق، وكأن هذه الاختلافات غير موجودة في الأمم الأخرى!
نعم , أن المفارقة تظهر حين نصل إلى العراق؛ إذ تبدو الساحة الفكرية العراقية—ولأسباب تاريخية وسياسية وثقافية معقدة—أكثر حساسية تجاه مفهوم الأمّة العراقية… ؛ فبعضهم يرفض إطلاق هذا الوصف بحجة اختلاف العقائد، أو تعدد اللغات واللهجات، أو تفاوت الأصول القومية… ؛ والغريب في الأمر أنّ هذه الاعتراضات لا تُوجَّه إلى الأمم الأخرى التي تفوق العراق أحياناً في مستوى التعددية والتباين الثقافي، مما يشير إلى وجود خلل عميق في تمثّل الهوية الوطنية العراقية وفي كيفية قراءة الذات الجمعية.
إنّ هذا الانعدام في الاتساق لا يمكن فصله عن الإرث السياسي والثقافي الذي عاشه العراق على مدى قرن كامل، وهو إرث خلخل البنية الذهنية للمجتمع وأنتج خطاً ثقافياً “منكوساً”—إن صح التعبير—جعله أحياناً ينظر إلى نفسه نظرة مشوشة أو ناقصة، في حين يتغاضى عن الظواهر نفسها حين تتجلى لدى الشعوب الأخرى… ؛ وبذلك تتحول الإشكالية من مجرد جدل لغوي حول مصطلح “الأمّة العراقية” إلى سؤال أعمق يتعلّق بمدى قدرة العراقيين على استعادة ثقتهم بذاتهم الجمعية، وإعادة صياغة وعيهم الوطني على أسس علمية ونفسية واجتماعية راسخة.
وهذا – حقاً – أمرٌ يدعو إلى التأمل والتحليل… ؛ إذ كيف نقبل بتعددية الأمم والشعوب وهي تتنوع في مكوناتها ولغاتها ولهجاتها ودياناتها وطوائفها ومذاهبها واعراقها واقوامها ، ونرفضها عندما يتعلق الأمر بالعراق؟!
يبدو أن هذه الظاهرة تنبع من “خطاب منكوس” ترسخ في جزءٍ من الثقافة العراقية، يتبنى إستراتيجية الاستثناء السلبي، ويُعمي النظرة عن حقيقة أن العراق ليس أكثرَ تعدداً من جيرانه، ولا أقلَّ قدرةً على صياغة هويةٍ جامعة… ؛ إنها ازدواجية المعايير التي تجعل من العراق ساحةً لتفعيل إشكالاتٍ نُظِّمت لها حساباتٌ أخرى، بينما تُحلُّ نفس الإشكالات في سياقاتٍ مشابهةٍ بسلاسةٍ تامة… ؛ فلا الجينات العراقية مختلفة، ولا قوانين الاجتماع البشري معطلة، ولكن الإرادة السياسية والوعي الجمعي هما اللذان يحتاجان إلى تصحيحٍ يبدأ بالاعتراف بأن العراق أمةٌ قائمةٌ بذاتها، قبل أن تكون انتماءاتٍ فرعيةً متناثرة.
إنّ إعادة الاعتبار لمفهوم الأمّة العراقية لا تحتاج إلى اختراع فلسفة جديدة أو تسطير نظريات مبتدعة، بقدر ما تتطلب قراءة واقعية للسنن الإنسانية المشتركة، وفهماً ناضجاً لإمكانات التعددية داخل إطار الوحدة، وإدراكاً بأنّ هوية الشعوب تُبنى حين تعي نفسها لا حين تعيد إنتاج عقدها التاريخية… ؛ وبذلك يصبح مفهوم الأمّة العراقية نتاجاً طبيعياً لتاريخ طويل، لا استثناءً ولا شذوذاً عن القاعدة الإنسانية العامة.
وكذلك يمكن فهم مفهوم الأمة العراقية من خلال المقاربات النظرية التي ترى الأمة كمجتمع اتحدت مصائره وجمعته إلى حد كبير، وصاغته الأحداث التاريخية والعوامل الطبيعية … ؛ فالأمة بهذا المعنى لا تصنعها الإرادة وحدها، بل هي نتاج تراكم تاريخي وثقافي مشترك.
ويمكن أيضاً النظر إلى الأمة العراقية من منظور إرنست رينان الذي يرى أن الأمة تقوم على “ماض مجيد ورجال عظماء ومجد حقيقي… ؛ والتجارب المشتركة تؤدي إلى تكوين الإرادة المشتركة” … ؛ فالتجارب المشتركة للعراقيين عبر التاريخ، بما فيها المعاناة تحت نير الاحتلالات والغزوات الخارجية , واستمرارية ثوراتهم وانتفاضاتهم ضد القوى الغاشمة والسلطات ، يمكن أن تشكل أساساً لإرادة سياسية مشتركة.
بل يجب أن تستوعب هذا التنوع في إطار هوية وطنية جامعة تحترم الخصوصيات ولا تجعلها نقيضة للانتماء الوطني.
نعم , يعرّف إرنست رينان الأمة بأنها “روح ومبدأ روحي” قائم على “إرادة حرة ومشيئة مشتركة” للعيش معًا في الحاضر، بالإضافة إلى الماضي المشترك والتاريخ والذكريات الجماعية التي تربط أبناء الأمة. ويرى رينان أن الأمة تتكون من الإرادة الحرة وتُعبّر عن تضامن واسع النطاق، وذلك على عكس العرق الذي يقلل من أهميته كعامل أساسي في تكوين الأمة.
*عناصر مفهوم الأمة عند رينان:
الإرادة والمشيئة: يرى رينان أن إرادة الشعب المشتركة في العيش معًا هي أساس الأمة، وأنها ليست شيئًا حتميًا مرتبطًا بالعرق، بل نتيجة لمشيئة الأفراد.
الماضي المشترك: يعتمد تكوين الأمة على وجود “تراث غني من الذكريات المشتركة” والتاريخ المشترك، مما يربط الأفراد ببعضهم البعض.
الحاضر المشترك: وجود الأمة أشبه بـ”استفتاء يومي” في الإرادة المشتركة والعيش معًا.
المستقبل المشترك: ترتبط الأمة بالحاضر والمستقبل، وتسعى الأجيال إلى الحفاظ على هذا التراث المشترك وتنميته.
*مفهوم جديد: يرى رينان أن مفهوم الأمة هو مفهوم جديد نسبيًا، ظهر في الزمن الحديث ولا يعرفه الزمن القديم.
ولكنه يؤكد على النسيان كعامل أساسي : اذ أشار رينان إلى أن النسيان، أو الخطأ التاريخي، عامل أساسي في خلق الأمة… ؛ وتعتمد الأمة على نسيان بعض الأخطاء التاريخية (مثل المجازر) لكي يبقى ترابطها قويًا.