رياض سعد
الحياة ـ في جوهرها الغامض ـ لا تُلقي بالاً لخرائط الأخلاق التي نرسمها نحن البشر على جدران وعينا… ؛ لا تكافئ الطيّبين لطيبتهم، ولا تُنزل العقاب على الأشرار لشرورهم، كما لو أنّ الكون قد أعفى نفسه من مهمة الفصل بين الفضيلة والرذيلة… ؛ فالعالم ليس محكمة، بل معمل كوني هائل تُجرى فيه التجارب وفق قوانين صارمة لا تحابي أحداً، أشبه بالمعادلات الرياضية التي لا تُخطئ ولا تتأثر بالعاطفة أو الرغبات أو النوايا الطيّبة.
إنّ الوجود، بهذا المعنى، آلة عظيمة تدور وفق منظومة من الأسباب والمسبّبات، ومن يتقن قراءة هذه المنظومة يمسك بطرف الخيط الذي يقوده إلى المعنى والنجاح، أما من يجهلها فيظلّ يدور في فلك العشوائية، كمَن يسبح عكس تيار جارف لا يرحم… ؛ وقد ورد في الأثر الإسلامي ما يضيء هذه الحقيقة: “أبى الله إلا أن تسير الأمور بأسبابها”؛ فالمعلول لا يوجد بلا علّة، والحصاد لا يأتي بلا زرع، والنتائج لا تُقطف دون مقدمات.
الحياة لا تعبأ بالأمنيات التي تُعلّق على مشجب السماء، ولا بالاعتقادات التي لم تُختبر بميزان الفعل، ولا بالأحلام التي تظلّ حبيسة العقول… ؛ فهي تتجاوب فقط مع من يفهم قوانينها ويجاري نبضها. من عرف قوانين الكون كان كمن يعثر على الإيقاع السري الذي يجعل خطواته متناغمة مع حركة الوجود اللامتناهية، فيمضي بثبات نحو أهدافه… ؛ أمّا من تجاهل هذه القوانين أو ظنّ أنه استثناءٌ معفىً منها، فسرعان ما يكتشف أنه يسبح في نهر لا يعترف بالنيات، بل يعترف بالقوة والاتجاه والوعي.
هكذا يتبدّى الكون: حيادٌ مطلق يربّي البشر على مسؤولية وعيهم لا على نزعة الاتكال، وعلى صرامة الفعل لا على رخاوة التمنّي. ومن أراد العبور الآمن في هذا المسرح السريالي الهائل، فعليه أن يصغي إلى موسيقى القوانين الخفيّة، وأن يفهم أن النجاح ليس هدية، بل حصيلة اتساقٍ بين الإنسان وقوانين الوجود التي لا تعرف المجاملة ولا تجامل أحداً.
إنّ هذا الموضوع يختلف اختلافًا جوهريًا عن مسألة تأثير النيّات الداخلية والطاقة الإنسانية في مجريات الحياة، كما يبتعد تمامًا عن الحديث في شأن الأعمال والسلوكيّات وما يترتّب عليها من نتائج… ؛ فلكلّ جريمةٍ عقاب، ولكلّ عملٍ ثمرة، ولكلّ سلوكٍ تداعيات، ولكلّ فعلٍ ردّة فعل. هذه سنن كونيّة ثابتة لا تتخلّف.
صحيح أنّ الكون لا يحاسب الأشرار مباشرةً في هذه الحياة، كما أنّه لا يكافئ الأخيار على نحوٍ ظاهرٍ دائم، غير أنّ للشرّ تبعاتٍ لا محالة، وللخير آثارًا تمتدّ في النفس وفي الواقع. فلا تخلط بين الأمرين، ولا تظنّ أنّ غياب العقاب الفوري يعني انعدام العاقبة، ولا أنّ تأخّر الجزاء يعني عدم وجوده… ؛ فتأمّل الصورة كاملة، وتدبّر هذه السنن مليًّا؛ فالفهم العميق لها يضيء طريقك ويمنحك بصيرة أوفى بما يجري حولك.