اسم الكاتب : علي عبد داود الزكي
يرى د. علي عبد داود الزكي أن أزمة الأمة العراقية وفقدان الهوية الوطنية للإنسان العراقي تكاد تكون سمة من اهم سمات التناقض بين جهات العراق الأربع.
تكاد الأمة العراقية أن تكون كلمة هزيلة لا تقوى على الصمود أمام اوثان فكر الاغتراب بظل خيمة الجهل والتجهيل لعقود طويلة بعد تأسيس دولة العراق في عصره الحديث منذ عشرينات القرن الماضي. ان القومية ومفهوم الأمة اخذ بعدا اخر بعد الثورة الصناعية في أوربا حيث تحرر الإنسان الأوربي من دكتاتورية التسلط الديني ومن تسلط أمراء المقاطعات الزراعية في اوربا وبهذا ولد مفهوم جديد هو مفهوم الامة وظهر مفهوم المواطن بمعنى جديد وأساس جديد للدولة الحديثة وظهر هناك توحد وانسجام بين الحاكم والمحكوم وبذلك نشأت أوربا الجديدة التي غزت العالم بحضارتها وثقافتها. لم يكن هناك معنى حقيقي للأمة قبل الثورة الصناعية في اوربا ولم يكن هناك معنى لمفهوم الاحتلال. وإنما كانت هناك مفاهيم أخرى هي الاستيلاء والفتوح. اما مفهوم الامة فلم يكن لها معنى كما هو متعارف عليه اليوم. اما السلطة والحكم فهما للقوي فمن يمتلك القوة وعسكره يمتلكون عصبية توحد وقادر على فتح البلدان فان اي بلد يفتحه سيكون شعب ذلك البلد هم جزء من شعب الفاتح وامته وسيكون ابناء ذلك البلد تابعين لهذه القوة وبمرور الايام تنصهر المكونات الدولة الجديدة في تكوين امة وغالبا ما تتاثر لغة الفاتح بلغة البلدان المفتوحة او تتاثر باللهجات المحلية للاقاليم المفتوحة وغالبا ما تتغير لغة البلدان المفتوحة بسبب تاثرها الشديد بلغة الفاتح لغة طبقة السلطة الجديدة وهذا يمهد لتكوين لغة جديدة هجينة تصبح مع الايام لغة الامة الجديدة. وخير مثال على ذلك هي تركيا الحالية التي نشأت اساسا من استيلاء السلاجقة على بلاد الروم وخلال عدة قرون تحولت لغة الاناضول الى لغة تركمانية وانصهار المكونات العرقية المختلفة في الدولة الجديدة في تكوين القومية التركية.
المقاومة مفهوم حديث ما زال ملتبسا لم نر ولم نسمع بوجود مقاومة لاي محتل في العصور ما قبل الثورة الصناعية في أوربا إلا بحدود ضيقة تكاد تكون محصورة في المعتقد الديني وقدسياته ، او قد تنشا وتظهر قوى عشائرية او عصابات او حركات تنمو قوتها العسكرية وتتدرج بطموحها لكي تصل الى السلطة او تحقيق مكاسب أفضل للعيش وتعمل كمعارضة وليس مقاومة وغالبا ما تظهر مثل هذه القوى بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها البلدان او قد يكون سبب نشوء هذه العصابات والقوى الطامحة للسلطة ناجم عن حصول ضعف ووهن في السلطة الحاكمة. لذا هنا نؤكد بان مفهوم الأمة كما متعارف عليه حاليا يعتبر مفهوم حديثا وليس قديم او انه اخذ بعدا جديد لم يكن سائدا سابقا. ان مفهوم الامة في بداية نشاته في أوربا رافقه مفاهيم أخرى عن الوطنية والقومية وتفسيرات ورؤى فلسفية كثيرة وكانت هناك تناقضات كبيرة في هذه المفاهيم في بلدان أوربا المختلفة. هذه التناقضات في مفاهيم الامة والقومية والوطنية في أوربا ادت الى صراعات عالمية كبيرة خلال القرنين الماضيين.
لكن هذا بدوره أسس إلى تكوين دول بمفهوم حديث ونشوء عصبية وطنية لأبناء هذه الدول وانغلقت هذه الدول على ما في داخلها لتكوين تماسك وطني يمهد لنشوء حضارة فيها وثبتت واستقرت اللغة في هذه البلدان وتوقف التفاعل والتطور اللغوي من جراء ذلك وهذا ما حصل في اغلب بلدان العالم المعاصر. ففي فرنسا مثلا يوجد 6 أعراق مختلفة لكنهم اليوم مندمجون في مفهوم القومية او الوطنية الفرنسية فلا يوجد معنى لقومية أخرى في فرنسا ، وعلى العكس من ذلك فان بلدان الشرق الأوسط أصبح كل عرق من مكوناتها يبحث عن كيان مستقل عن باقي مكونات بلده مما سبب صراعات وتشرذمات وتطرف وعنصرية ساعدت على بقاء الشرق الأوسط لعبة تحرك بسهوله وتدفع الى المشاكل والحروب والأزمات والصراعات الدموية وأصبحت مكونات هذه البلدان الشرق متوسطية لا تشعر بتكامل وجودها في هوية وطنية موحدة. لذا نرى الصراع العربي الكردي والفارسي العربي والتركي الكردي وغيرها من الصراعات الأخرى. إضافة إلى الصراعات الطائفية التي لها جذور تاريخية دموية قديمة وحديثة.
الطائفية نتاج الصراع على السلطة
ان أهم أسباب بروز الطائفية وظهورها وتعاظم دورها في الشرق الأوسط هو الصراع للسيطرة على الشرق الأوسط بين العشائر التركمانية التي سيطرة على الشرق الأوسط لعدة قرون وهي الدولة السلجوقية وبقاياها في إيران وتركيا. أن العشائر التركمانية منها من حكم الأناضول والبعض الآخر منهم (الصفوين والقاجارين) حكموا إيران وأذربيجان ونشا صراع سلطوي بينهما مما جعل الدولة العثمانية تطلق على الدولة الصفوية اسم الفرس العجم محاولة في جعلهم عدو غريب ويجب مواجهته. أن هذا سبب حصول تنافر شديد بين الصفويين والعثمانيين وما تبع ذلك من صراعات دموية على السلطة وكان غالبا ما يذهب ضحايا ذلك الناس الأبرياء من كلا الطائفتين في بلدان المنطقة وخصوصا العراق. وللأسف ورثت بلدان الشرق الأوسط بعد انهيار الدولة العثمانية هذه التركة العصبية من المشاكل الطائفية. بعد خسارة الدولة العثمانية العرب العالمية الأولى ظهر المتلونين من إتباعها في العراق والذين لم يحاربوا المحتل الانكليزي وإنما تعاونوا معه في الخفاء ليكونوا حلفاء له ولكي يحصلوا على مكاسب ما بعد انهيار الدولة العثمانية. ورفعوا شعار القومية العربية المفهوم المستورد الغريب الذي جاء بقيم ومفاهيم عنصرية تحاول ان تضع للعراق ثقافة جديدة وعصبية انتماء جديدة لم تكن موجودة قبل وصول المحتل الا بشكل ضيق جدا بسبب التاثر الضعيف بالثقافة الاوربية.
ان الكثير من الذين وصلوا الى السلطة في عراق الملكية كانوا من اصول تركية او جورجية. لكنهم بعد استلامهم السلطة ادعوا العروبة وكانوا من منظري الفكر القومي العربي، والغريب ان منظري الفكر القومي هؤلاء لم يستندوا الى اي من الامثلة والكتب والمؤلفات والحكم والأشعار العربية القديمة ولم يستعينوا حتى بالأمثلة القرآنية في طروحاتهم القومية وانما استوردوا الأفكار والرؤى الاوربية التي نشات في مجتمعات اوربا والتي تختلف عن مجتمعاتنا اختلافات جذرية ، وذلك ناجم عن جهل هؤلاء المتلونين بالثقافات المحلية للبلدان الشرق متوسطية وتاريخ تطورها. ان الفكر القومي في اوربا كان منقذا وموحدا للأوربيين بينما في الشرق الاوسط كان الفكر القومي المستورد سببا في التغرب والفرقة والعنصرية والدموية. كما ان غالبية من التزم بهذا المفهوم المستورد كان يبحث عن سلطة ولا يبحث عن وطن. لم تكن الافكار القومية في بلدان الشرق متوسطية مستوحاة من فكر مجتمعاتها ومفكريها حيث اهملت الافكار الوطنية الاصيلة واستبدلت بقوالب التغرب الاوربية المستوردة التي صنعت أصنام دكتاتورية دموية دمرت الشرق الأوسط لما يقرب قرنا من الزمان.
الشرق الأوسط الجديد
أمريكا اليوم تعمل على تشكيل شرق متوسط جديد من حيث الثقافة وقدسية التماسك الوطني ظهرت بوادر ذلك بشكل غامض في أول الأمر عندما تم إسقاط طاغية العراق وما تبع ذلك من مسلسل ما يسمى بالربيع العربي حيث ان أمريكا مهدت لذلك بمكر شديد خلال عقدا من الزمن باحتلالها العراق وتشكيل مجاميع اجرامية مسلحة عملت وستعمل على توهين الأنظمة الديمقراطية الناشئة الجديدة في بلدان الشرق الأوسط وبذلك سوف تنشا ديمقراطيات معوقة وهشة لا تقوى على مواجهة المشاكل الداخلية الا باسترضاء امريكا، ومن يخرج على إرادة امريكا من القادة الجدد فانه سيتعرض للاجتثاث والتصفية على ايدي الإرهاب تحت خيمة الفوضى الخلاقة (الفوضى المسيطر عليها امريكيا). ستفرض أمريكا ما تريد بالاستعانة بالفكر المعوق وتدعمه ليشوه الفكر المحلي ويستبدله بعولمة تدفع بالأجيال الجديدة الى تغربات كبيرة. فكيف نقلل الاذى ونقلل من تاثير ما لا يمكن منعه! هذا ما يجب ان نتنبه له ويجب العمل بحكمة وذكاء وتنبيه المفكرين والتربويين لوضع مناهج تربوية سليمة تعالج المشاكل المحلية برؤية واقعية لتجنب الصراعات التشرذمية وتقرب فيما بين شعوب الشرق متوسطية من اجل مستقبل أفضل….
قلنا رأيا تحليليا قد يكون اجتهادا خاطئا ننتظر أن تُثمر آراءكم وتعليقاتكم في توضيح الصورة بشكل أفضل.