اسم الكاتب : ثامر عباس
لا يظنن كل من كتب مقالة في جريدة ، أو شارك في حوار متلفز ، أو حظي بعضوية حزب سياسي ، أو تمتع بحضوة تنظيم ديني ، أو تقلد منصب حكومي رفيع ، أو حاز على شهادة جامعية ، انه بات محسوبا”على رهط المثقفين وانه أضحى بذلك ينتمي لعالمهم الاعتباري الخاص . ذلك لأن المعايير والشروط المؤسسة التي يتحدد بموجبها استحقاق الفوز بهذا اللقب قد لا تنطبق على كل أو بعض ممن أتينا على إيراد ذكرهم ، من منطلق إن الثقافة هي بالأساس جديلة أو سبيكة من المكابدات الوطنية والأخلاقية والمعرفية والحضارية والإنسانية ، التي من دون حيازتها جميعا”لا يحق لأحد ادعاء تمثيلها والزعم بحمل رسالتها والتنطع للتحدث باسمها . ولعل هذا الأمر يفسّر لنا ليس فقط قلة / شحة وجود مثقفين حقيقيين يحتلون الواجهات الأمامية للساحة الثقافية العراقية ويشيعون خطاباتهم العقلانية في رحابها فحسب ، وإنما يعكس تراجع مؤشرات حضورهم السياسي وتدني مستويات تأثيرهم الاجتماعي كذلك .
وبضوء ذلك قد يتساءل البعض ؛ إذا كانت تلك المعايير والشروط هي ما يميّز المثقف عن سائر أقرانه من أعضاء المجتمع (الفاعلين الاجتماعيين) ، فلماذا إذن يعاني – وهو المتسلح بكل تلك العدة النوعية – غياب الدور وتعطل الوظيفة وانعدام التأثير ، في الوقت الذي ينخرط وينشط أشباه المثقفين ومدعي الثقافة على أكثر من صعيد وفي أكثر من جبهة ؟! . في الواقع لو تمعنا جيدا”في هذا الأمر لأدركنا إن هذه الحالة / الوضعية لا يمكن أن تكون إلاّ على هذا النحو الشائه والمنحرف ، طالما إن المجتمع الذي ينتمون اليه ويحملون وشم هويته يعاني لوثة الاستقطاب الأصولي بين جماعاته والاحتراب السياسي بين مكوناته على أسس من الانتماءات التحتية والولاءات الفرعية ، لاسيما وان الخاصية الجوهرية لخطاب المثقف هي ما يجعله عابر لتلك الانتماءات ومتخطي لتلك الولاءات .
وعلى هذا الأساس يبدو إن خطاب المثقف العراقي الحقيقي عالق بين شقي رحى ؛ (مؤسسات) قائمة على مظاهر الفساد والفوضى حيث النهب والسلب والتخريب من جهة ، و(جماعات) لا تزال ممهور بدمغة القبيلة والطائفة والعرق والمنطقة . الأمر الذي يحول دون أن يكون له صدى في أروقة (دولة) فقدت شرعيتها الوطنية وتخلت عن سلطتها السيادية من جانب ، وكيان مجتمع أضاع وحدة مشتركاته الوطنية والتاريخية والانسانية من جانب ثان . وهنا يبدو خطاب المثقف وكأنه يغرد خارج اسراب الحشود ويعوم ضد التيارات السائدة ! ، للحدّ الذي يجعل دوره الاجتماعي نافلا”ووظيفته التنويرية بلا معنى .
وإذا كان الحال – كما يبدو – سيبقى على ما هو عليه على المدى المنظور في الأقل ؛ فهل يبقى هناك أمل بالخروج من هذا الخانق التاريخي المعقد ، والخلاص من هذا المأزق الحضاري المستعصي ، خصوصا”وأن كل المعطيات والمؤشرات توحي بان لا جديد يلوح في أفق الثقافة العراقية ، التي لا تفتأ مظاهر الجهل والعدمية تكبل عناصرها الحية وتعطل قدراتها الفاعلة ؟ . ففي كل الأحوال ، ليس هناك من خيار آخر أمام الفاعل الثقافي (المثقف) الحقيقي يمكنه التعويل عليه ، سوى الرهان على مكتسبات الحفر العميق في طمى الوعي الراكدة للجماعات المستقطبة ، والتنقيب بين أخاديد الذاكرة المجيشة للمكونات المتعصبة . حيث يستطيع الكشف عن خرافات أصولها المختلقة ، وإماطة اللثام عن أساطير تاريخها الملفقة ، على أمل حمل الكيانات والمكونات والجماعات المتكارهة والمتصارعة ، لاعادة النظر في أساطير تاريخها وخرافات سردياتها التي كانت – وستكون السبب وراء كل مآسي هذا البلد المستباح ومعاناة أفراده وجماعاته المكبلين باصفاد العبودية السياسية والأمية الثقافية والايديولوجية الدينية .