اسم الكاتب : ثامر عباس
ليس هناك أمة من أمم المعمورة مثل أمة العرب يمكن للأزمات أن تطلق عنان مخزونها العاطفي وتفجر كوامن مكبوتها النفسي ، مع الحد الأدنى من الاحتكام إلى فضائل العقل وشمائل المنطق عند مواجهة تلك الأزمات ، والركون إلى الواقع عند البحث عن حلول ومعالجات . ولعل هذا الأمر متأت من تراكم الصدمات وتعاظم الخيبات وتفاقم الخسارات ، التي تسببت بها جملة من العوامل الداخلية والخارجية ، بات الغالبية العظمى من الناس على اطلاع واف وكاف حيال الأطراف المساهمة بها والتداعيات الناجمة عنها .
والمفارقة أنه بقدر ما تتعامل أمم العالم الأخرى مع الأزمات على كونها باعث للتفكير العقلاني ومنشط للإرادة المستقلة ، بحيث كلما كان وقع الأزمة أكبر ووطأتها أشدّ ، كلما استدعت سيكولوجيتها استنفار قدرات العقل وطاقات الإرادة . بقدر ما تتعاطى معها امة العرب بمثابة طعنات مؤلمة وجروح غائرة تستلزم الصراخ والنواح من جهة ، وتستوجب الإدانة والتنديد ومن ثم الخلود الى الانزواء بانتظار التعافي واستئناف الأفعال العبثية وكأن شيئا”لم يكن ! من جهة أخرى . وهو الأمر الذي شجع الخصوم وأغرى الأعداء بمختلف مشاربهم السياسية وتعدد مستوياتهم الحضارية ، على افتعال كل ما من شأنه توريط العرب واستدراجهم للدخول بدوامة الأزمات الداخلية والانخراط بأتون الصراعات الخارجية ، بحيث لن تفتأ هذه الأمة الجاهلة أن تتخطى أزمة معينة حتى تجد نفسها تصارع أزمات أخرى أكثر تعقيدا”واشد استعصاء على الحل ، وهكذا دواليك ! .
والغريب في الأمر ان شخصية الإنسان العربي – حاكما”ومحكوما”- مصممة وفقا”لنقيضين متقابلين ؛ الأول وهو ما يمكن تسميته ب (التذاكي) و(التعالم) في الأوقات التي يشعر خلالها بوهم امتلاك القوة وحيازة التمكن ، وأما الثاني فيمكن تسميته ب (التشكي) و(التباكي) وهو ما يمكن رصده وملاحظته عند الشعور بهزيمة الذات وخذلان الآخر . أي بمعنى أنه في الحالة الأولى يبدو كثير الإعجاب بنفسه وشديد الاعتداد بشخصيته ، رغم حقيقة كونه يدرك انه مسلوب الإرادة ومعطوب الوعي ومعطل التفكير . أما في الحالة الثانية فانه يفرط في إظهار علائم الانكسار النفسي والخصاء الإرادي ، حتى ولو تضمنت كينونته شيء من عناصر التحدي والمقاومة .
والطامة الكبرى ، انه بدلا”من أن تكون الأزمات التي غالبا”ما تعصف بمنطقة الشرق الأوسط عامة والمنطقة العربية خاصة ، حافزا”ماديا”ودافعا”معنويا”للزعامات العربية المسؤولة عن كل ما من شأنه تخفيف – ولا نقول جفيف – سيول المعاناة عن شعوبها ودرء المخاطر عن أوطانها ، عبر التمسك بالمواقف الإرادية الصلبة ، والرهان على السبل العقلانية ، فضلا”عن الاستعانة بالاستقصاءات الواقعية ، للوقوف على البواعث والدوافع الكفيلة باجتناب التورط في اختلاق الأزمات الإقليمية والانخراط في الأحلاف والتكتلات الدولية ، بحيث تتمكن من الإفلات من الوقوع في مصيدة تلك الأزمات وتتمكن من تخطي عواقبها بأقل التضحيات المعنوية وأدنى الخسائر المادية ! .
وعلى هذا المنوال ، فقد عرّت الأحداث الدامية في مدينة (غزة) الفلسطينية خلال الأيام الماضية ، خصائص الشخصية العربية من حيث هشاشتها في المواقف الحاسمة وانهزاميتها في اللحظات المصيرية ، فضلا”عن تعرية نمط سيكولوجيتها المهزوزة والمرتبكة إزاء المخاطر والتحديات المصيرية ، التي أضحت بمثابة داء عضال لا شفاء له ولا خلاص منه . فعلى كثرة انعقاد المؤتمرات الباذخة ، وإجراء الندوات الصاخبة ، وتكثيف اللقاءات المكوكية بين قادة هذه الأمة المشلولة والمغلوبة ، حيث الخطابات الرنانة والتحذيرات النارية الطافحة بالعبارات المتفذلة التي عادة ما تحتوي متونها على الكثير من (الخطوط الحمر) القومية والإسلامية على نحو حماسي مضحك ، تارة لاستعراض (قوتهم) الدونكيشوتية ، وتارة أخرى لاستنهاض (رعيتهم) المخصية .
وهكذا لم يتمكن سراة القوم – بعد أن أظهر الغرب الاستعماري مخالبه وكشر الغرب عن أنيابه – من تبني أية استراتيجيات فعالة واتخاذ أية قرارات حازمة لتفادي شراسة العدوان الغربي وهمجيته ، سوى الركون الى لغة (التشكي) و(التباكي) الدبلوماسية بغية استدرار عطف المؤسسات والمنظمات الدولية ، لإنصافها في محنتها المزمنة وحمايتها من مصيرها المحتوم ! . وإذا ما حدث ونجحت هذه الأخيرة في انتزاع حق من حقوقهم المهضومة من براثن ضواري الغرب ، فلك أن تتخيل كيف سينبري قادة الأمة (المجيدة) في التبجح عن (قدراتهم) السياسية العظيمة ، والتباهي في (انتصاراتهم) الدبلوماسية المدوية ! .