اسم الكاتب : بقلم نبراس الكاظمي
لا يزال الكثير من الغموض يكتنف أحداث الفرهود. حتى مصطلح “الفرهود” بقي هو أيضا محل التأويل والتفسير المتناقض، إذ يبدو أنه مصطلح محلي قديم كان يشير في وقت ما إلى فيضان نهر دجلة المفاجئ والجارف أثناء مراحل اكتنازه بمياه الأمطار، ومن ثم بات يستخدم لوصف حالة الشغب التي كان يضطلع بها الجُند في بغداد عندما تتأخر عليهم الرواتب فيخرجون من ثكناتهم في سبيل نهب وسلب العوام.
ولكن ما نستطيع أن نُجزم به أن لا شخصا مثل عزرا حداد الذي أتينا على ذكره في المقال السابق، ولا غيره كان يتوقع أبدا أن الأمر سيستفحل إلى هذه الدرجة من الانهيار في السلم المجتمعي. فلم يشهد اليهود “فرهودا” كهذا استهدفهم دون غيرهم منذ أحداث سني 1291 و1333 و1334 في بغداد، وكان حالهم طيلة الفترات السابقة تتماوج ما بين أطوار مختلفة من التمييز والغبن، ولكن لم يحتسبوها “اضطهادا” بالمعنى الذي قاساه يهود أوروبا أو في القسطنطينية البيزنطية أو بلدان المشرق تحت حكم الصليبيين، أما ما شهدوه من مآس أخرى نالت منهم على أرض الرافدين فكانت تلك مشتركة مع باقي الأقوام والديانات فيه.
لعل عزرا حداد وغيره عزوا مسببات الفرهود إلى الدعايات الفاشية الممنهجة ضد اليهود، والتي سعت السفارة الألمانية إلى تمويلها في العراق منذ منتصف الثلاثينات. ولكن لو رجع حداد بذاكرته إلى منتصف العشرينيات لوجد تلك البذرة الأولى لمفاهيم معاداة السامية الحديثة والتي تم استقدامها مباشرة من روسيا، منبعها آنذاك وغرسها بالأرض الرافدينية بصورة متزامنة مع غرسها في باقي أرجاء المعمورة. وهنا أتكلم عن سجالات متبادلة اشترك فيها حداد في سنة 1924 مع كاتب عراقي كان قد نشر مذكراته للتو حول ما شهده من أحداث كانت قد سبقت ولحقت الثورة البلشفية في روسيا. فقد تزامن نشر كتاب “مذكرات صديق باشا القادري” (مطبعة الفلاح ببغداد) مع صدور جريدتين في العام نفسه، إحداهما “المصباح” الصادرة بالعربية وكانت تعبر عن تطلعات مثقفي يهود العراق تعد الأولى من نوعها، والأخرى أصدرها صحافي مسيحي وهو سليم حسون بعنوان “العالم العربي” والتي كانت تنتهج خطا يمينيا، إلى درجة أنها في وقت لاحق أتى تمويلها بصورة مباشرة من قبل السفير الألماني ببغداد وقدمت كتاب أدولف هتلر “كفاحي” مترجما للعربية بصورة متسلسة لقرائها في الثلاثينيات.
مرت أطوار عديدة في تبلور مفاهيم معاداة السامية في أوروبا ليس بوسعنا التبحر فيها هنا. ولكن المرحلة الأهم والأكثر نضوجا من ناحية حبكة الخطاب وآفاق الانتشار، كان التصور بأن هنالك مؤامرة يهودية مخفية تدير سدة الأحداث العالمية تجسدت في نشر مقررات هذه المؤامرة المزعومة أو ما سمي بـ “بروتوكالات حكماء صهيون”. وقد قام المؤرخون بتتبع مراحل تلفيق هذا المنشور منذ بداياته في نهاية القرن التاسع عشر بباريس إلى حين إصداره كملحق لكتاب روسي بقلم مؤلف مغمور سنة 1905. وكانت الغاية حينها هو الربط ما بين انتشار وانتفاض الحركات اليسارية في أوروبا وروسيا وإحالة نجاحها إلى تلك المؤامرة اليهودية. ولكن الانطلاقة الكبرى لهذه المفاهيم الجديدة أتت بعد اندلاع الثورة البلشفية وقيام من تصدى لها من بقايا النظام القيصري الذين عرفوا لاحقا باسم “الروس البيض” تيمنا بلون رايتهم في المعارك، بنشر هذه البروتوكلات في شتى أرجاء العالم، حيث انتهى بهم الحال لاجئين بعد انكسار ثورتهم المضادة. ولسوء الحظ، انتشرت هذه المفاهيم باللغة العربية أيضا بصورة مبكرة عندما قام القادري بنشر مذكراته.
شاءت الأقدار أن تأخذ القادري (1894-1970) من وادي بازيان بالقرب من مدينة السليمانية، حيث تمركز أجداده من قبيلة الهماوند الكردية المشاكسة ذات العدد القليل والضرر الكبير على المصالح التجارية لدى الدولتين العثمانية والقاجارية، إلى بغداد وثم إلى اسطنبول حيث انخرط في الكلية العسكرية هناك. وشاءت الأقدار كذلك أن يتم أسر القادري في إحدى أولى مهامه العسكرية ضد القوات الروسية على جبهات القوقاز. ومضت سنوات الحرب وهو في مدينة تفليس بجورجيا، ومن ثم شهد المراحل الأولى من الثورة البلشفية في مدينتي موسكو وسان بطرسبرغ ومن بعدها تلقفته الرياح وأصبح من المستشارين العسكريين لدى مسلمي التتار، وبعدها انخرط كقائد للمجاميع الإسلامية ضمن طاقم الضباط المؤتمرين بالجنرال سمانوف (قائد “جيش سيبريا الروسي المستقل”) المتمركز في نواحي منشوريا في الشرق الأدنى من آسيا، والمنادي بقمع البلشفيك وعودة الحكم القيصري.
وبالطبع، فإن مذكراته عما رآه والمغامرات التي اضطلع بها، وما أضاف إليها من تفاصيل مثيرة حول الراهب راسبوتين، وتقلبات فرقة الجيك الصقلبية المستقلة، وبشاعة إعدام العائلة المالكة القيصرية، ومشاهداته في اليابان وكوريا وغيرها، كل هذه أوهجت اهتمام الشارع البغدادي التواق إلى معرفة كل تفصيل في تلك الأحداث المهولة، والتي كادت أن تصل إلى مشارف مدينهم مع تقدم الجيش الروسي جنوبا إبان الحرب العالمية الأولى وبات يخوض المعارك حول مدينة خانقين عند أعالي نهر ديالى المنسدل باتجاه عاصمة العراق الحديث. ولكن ما نقله القادري إليهم تحديدا هو خطاب الروس البيض حول تلك الأحداث الذين كانوا يرون الثورة البلشفية امتدادا للخطط المنصوص عليها في البروتوكولات الصهيونية المفبركة.
فيقول القادري “لا يمكن أن تقاس هذه الثورة المدهشة بإحدى الثورات التي حدثت في العالم حتى يومنا هذا بل إن هذه تفوق كل ما تقدمها بمراحل…” ويشرح لنا غايته وهي “أتيت برسالتي هذه الموجزة باحثاً فيها عن الحقائق الجوهرية في هذه الثورة لأطلع العالم – وعلى الأخص أبناء جلدتي العراقيين – على خلاصة ما حدث في بلاد روسية من التطور العجيب…لاني كنت عضواً عاملا في كافة أدوار هذه الثورة.”
ويضيف القادري “إن الثورة الروسية كانت (الظفر الثالث) للجمعية الفوضوية (نهليست) وكان ظفرها الأول في سنة 1815 في ثورة فرنسا الكبرى وظفرها الثاني كان في سنة 1908 في الانقلاب العثماني، وأما ظفرها الثالث وهو أدهشها، فقد جنت ثماره في روسيا سنة 1917 وليست جمعيات (صهيون وفاروماسيون وآنار شيست) (بولشفيك) إلا أسماء مختلفة للجمعية المار ذكرها يبتدعونها في أماكن مختلفة، مع أن الهدف والغاية لكل هذه الفرق هي واحدة لا تتغير ولا تتبدل بتغيير الاسم أو تبدله، والمؤسس لهذه الفرق الفتاكة هم اليهود أو أموال اليهود، فتراهم في كل أمة يتظاهرون بالصدق والإخلاص ويسعون تحت ستار الوطنية لنيل غايتهم المنشودة”.
ويعلل القادري ما فعله اليهود بقوله “أأما غايتهم في هذه الأعمال فهي أن يحصل يهود العالم على حقوقهم القومية والدينية والوطنية والتوسل إلى نيل ذلك بكل الوسائل الممكنة، بلا قيد أو شرط وأما خطتهم في هذا المشروع فهي إشغال أفكار العالم بغايات مموهة مرنة، ظاهرها حسن وباطنها وهم وضلال، وبهذه الصورة يتمكنون من إحداث ثورات واضطرابات وفائدتهم من الثورات والاضطرابات اتخاذها ذريعة لابتزاز ثروة الناس بأي صورة كانت…”
وعند نقله لخطاب الروس البيض فإنه يعكس شيئا من المغالطات السائدة لديهم، فمثلا، كان الدارج بينهم أن رئيس الحكومة الثورية ألكساندر كرنسكي والذي ساهم بخلع الحكم القيصري وحكم روسيا لبضعة أشهر قبيل الثورة البلشفية، كان هو أيضا من أصل يهودي، ولكن هذا الأمر غير صحيح بتا، إذ لا يوجد نسب يهودي له، ولكن ما هو معروف عنه أنه كان مناصرا لحقوق اليهود لفترات طويلة من خلال سيرته كمحامٍ قبيل هذه الأحداث. وفي أحيان أخرى ينقل القادري ما تيسر لديه من معلومات مجتزئة وإشاعات بصورة درامية مثل مقتل زوجة الأدميرال كولشك (زعيم الجيش الأبيض في وقتها)، إلى جانب زوجها عند إعدامه من قبل الجيش الأحمر في مدينة أركوتسك، ولكن في الحقيقة ما حدث هو أن المرأة المشار إليها والتي كانت حاضرة عند إعدامه هي عشيقته، وبقيت على قيد الحياة لحين وفاتها في موسكو سنة 1975.
كما كان دارجا لدى الروس البيض بأن فلاديمير لينين لم يكن إلا قائدا صوريا للثورة وللحكومة التي لحقتها، في حين القوة الحقيقة كانت في يد اليهود، إذ يدعي القادري بأن 486 من أصل 503 من المناصب الحساسة باتت في يد اليهود تحت الحكم البلشفي، وإن كان قسم من “هؤلاء اليهود كانوا قد اندمجوا في الجنسية الروسية وقبلوا الدين المسيحي منذ مدة وغيروا أسماءهم الأصلية” حسب تقديره. وينقل القادري الرواية القائلة إن لينين كرر عبارة وهو يحتضر على فراش الموت مفادها ” آه! ماذا فعلت؟ دهورت الشعب الروسي إلى المهالك ليسعد اليهود” إذ يجعل لينين “الروسي”، وحاله من حال الأمة الروسية المسكينة التي استغفلها اليهود، ضحية للمكائد التي وضعها أصلا “المتآمرون الصهاينة”. ولكن فاته، كما فات الروس البيض، معلومة مثيرة يبدو أنهم كانوا يجهلوها آنذاك عن لينين، وهي أن جد جده من ناحية الأم كان قد وُلد يهوديا، ولو تسنى لديهم معرفة هذا الأمر الذي بقي خفيا لعقود من الزمن في الفترة السوفيتية، لتنفسوا الصعداء في الترويج له ولجعلوا لينين “رأس الأفعى” اليهودية بحسب سرديتهم.
يبدو بأن القادري، كما يطلعنا بنفسه (وكما هو موضح في أحد مواضع الكتاب من الإشارة إلى “المترجم”) كان قد ألف هذه المذكرات باللغة التركية (العصمانلية) قبيل ترجمتها إلى العربية. وهنا يبرز لدينا تساؤل مثير، لأن القادري في مواضع أخرى من الكتاب يؤكد بأنه كان على تواصل دائم مع القنصليات البريطانية، وهو كثير الإطراء للجيش البريطاني في سرديته. فهل كانت هذه المذكرات أصلا تقارير كان قد كتبها القادري بطلب من الإنكليز عن حال الثورة في روسيا وبالتحديد حول مسلمي روسيا الذين كان على اتصال معهم، حيث أن إنكلترا كانت مهتمة جدا بتطلعات مسلمي أواسط آسيا والقوقاز وما يعنيه الأمر بالنسبة لمصالحها في الهند وإيران؟ ولعل القادري كان يريد اقناعهم بمعاودة توفير الدعم لمسلمي روسيا، إذ يقول في نهاية كتابه بأنه لا يزال “منتظرا بكل جوارحي لأي نداء يدعو إلى حمل السلاح ضد البلشفة في روسيا، ومستعداً أتم الاستعداد للرجوع إلى قيادة جنودي البواسل!” ومن جانب آخر، هل سعت الجهة التي موّلت عملية ترجمة هذه المذكرات ونشرها إلى إنتاج مصل عقائدي ضد الشيوعية ليحول من دون تمددها إلى العراق وذلك من خلال توطيد الخطاب الجاعل من الشيوعية وجها من أوجه المؤامرة اليهودية العالمية؟
تبقى هذه التساؤلات معلقة لأن التاريخ والتدوين لم يسعفنا في الإجابة عليها. ولكن ما وصلنا هو أن المثقفين اليهود العراقيين مثل عزرا حداد انبروا إلى الرد على القادري على صفحات جريدتهم المصباح، واتهموه بالترويج للفتن الطائفية ضدهم، ما أدى إلى قيام القادري بنشر تنبيه في الطبعات الثانية واللاحقة من كتابه يقول فيه إنه يقصد يهود روسيا تحديدا، و”لا أقصد البتة اليهود المسالمين المشهورين بالحلم وسلامة القلب كاليهود الساكنين في الشورجة وسوق حنون والبصرة والعمارة والموصل والشام وفي محلة بلاط بالأستانة، فإن هؤلاء مشغولون بكدهم وكسبهم” ولكن المهاترات استمرت ما بين الطرفين من على صفحات جريدتي المصباح والعالم العربي إلى حين قيام القادري بالتهديد بأنه سيكشف “أسرار التواطؤ بين اليهود القاطنين في العراق وفلسطين مع بولشفيك الروس اليهود، والمناورات البلشفية في فلسطين وفروعها الخفية في بغداد، وسيفضح مساعيهم وجهودهم الواسعة النطاق لنشر الفوضى والصهيونية ودعاياتهم المضرة بين ظهرانّي هذه الأقوام الآمنة المطمئنة”.
ولعل هذا كان سيكون مضمون كتابه الآتي “الانقلاب العالمي” كما يعد القادري بذلك قراءه، ومن عناوين فصوله “كل يهودي صهيوني والعكس بالعكس”، وأيضاً “أول مؤتمر صهيوني ومقرراته والمناشير الـ24 المقدسة أو البرتوكولات الصهيونية”.
يُذكر بأن القادري أصدر كتابه الثاني في سنة 1957، أي بعد حوالي 33 عاما من صدور كتابه هذا، بعنوان “الخطر الأحمر” (مطبعة الأمة ببغداد) ولكن لم يتسن لنا إيجاده.