
اسم الكاتب : ثامر عباس
لعله من المتعذر إدراك طبيعة الماضي كمعطى زمني بعيدا”عن تخوم الأسطورة أو مفصولا”عنها ، طالما كان يوحي – شأنه شأن هذه الأخيرة – بتشكيل الأصول وتكوين البدايات وشروع الانبثاقات الأولى ، فهو – وفقا”لذلك – يقع على مقربة منها ومحاثيا”لها إن لم يكن متماهيا”معها في غالب الأحيان ، حتى انه يصار في بعض الحالات أن يحيل الأول إلى الثانية وبالعكس في إطار الإشارة إلى المضامين والإيحاءات . ولهذا نجد إن مؤرخ الأديان المعروف (مرسيا الياد) يشدد على إن (( الماضي الذي يرفع عنه الحجاب على هذا النحو هو أكثر من زمن سبق الحاضر ، انه الينبوع الذي صدر عنه الحاضر . وعندما يرحل المرء إلى ذلك الماضي السحيق ، فان عملية استرجاع الذكريات لا تقصد إلى تحديد الأحداث في إطار زمني ، وإنما تستهدف بلوغ أساس الوجود ، واكتشاف الأصلي ، والواقع الأولي الذي انبثق من الكون ، والذي يتيح فهم الصيرورة في مجملها ))(1) . وتماشيا”مع وجهة النظر هذه ، فان ملاحظة العالم الانثروبولوجي البريطاني (برنسلاو مالينوفسكي) تأتي لتؤكدها وتضفي عليها المعقولية ، من خلال الإشارة إلى إن (( الأساطير هي قصص عن الماضي تصلح لأن تكون امتيازا”خاصا” يؤدي وظيفة تبرير بعض المؤسسات في الحاضر والحفاظ على وجودها ))(2) .
ولعل من الأمور التي ساهمت وساعدت على اقتراب – بلّه – تداخل الإيحاءات والتمثلات ما بين (الماضي) و(الأسطورة) ، هي استمرار تمسك المجتمعات القديمة بأنماط بائدة من البنى الاجتماعية والأنساق الثقافية والسياقات الحضارية ذات الطابع التقليدي والمتكلس ، ناهيك عن بقائها محافظة على أصولها الانثروبولوجية (عادات وتقاليد وأعراف وطقوس) في إدارة شؤونها الداخلية وتنظيم علاقاتها الخارجية ، الأمر الذي غالبا”ما يستدعي لجوئها إلى مخزون ماضيها لتحيين قيمه المعظمة ، والسعي لاستلهام رموزه المتسامية ، والاحتماء بحصانة زمنيته المطلقة . ومثلما أوضح مؤرخ الأديان (مرسيا الياد) في أحد أعماله فإن (( الإنسان التقليدي لا يقيم وزنا”للتقدم أو التطور الخطي للتاريخ وأحداثه ووقائعه : وحده الزمن الأسطوري له قيمة ووزن . وبغية إمداد حياته بقيمة ومعنى يمارس الإنسان التقليدي شتى أنواع الأساطير والرتب والطقوس ))(3) . وبما أن للأساطير حضورها الدائم في تاريخ الذهنيات الجماعية ، فقد لبث الماضي يشاطرها في قيمتها الاعتبارية ويقاسمها في حضوتها الرمزية ، للحدّ الذي استحال معه إلى ما يشبه الإيقونة الدينية التي تستوجب التبجيل والتقديس . وهنا يعطينا الباحث المغاربي (ميرال الطحاوي) نموذجا”واقعيا”لمثل هذه الحالة / الوضعية الإشكالية ، مستمد من تجارب الإنسان العربي المقهور مع واقعه المأزوم قائلا”(( إن حاجة الإنسان العربي للقدسي والماضي حاجة مزدوجة ، حاجة الإنسان إلى كسر اغترابه عن الكون – كما يرى الياد – وحاجة لتأصيل هويته التي ضاعت ، كما يتبناها القوميين العرب ))(4) .
ومن جملة العوامل المهمة الأخرى التي تقف خلف اقتران الماضي بالأسطورة ، هي كونهما ينزعان إلى الإفلات من قبضة التاريخ والنأي عن كل ما يتضمنه من تفاعلات وسيرورات وتبدلات ، بحيث يبقى كل منهما محافظا” على زخم حضوره في الوعي وفاعلية سردياته في الذاكرة . وعلى ذلك نجد إن صلات التقارب والتجاذب بينهما تبلغ ذروتها في الفترات التي تشهد تغيرات ثقافية جذرية وانعطافات تاريخية حاسمة ، التي تضع كل ما له علاقة بالأسس الاجتماعية الراسخة ، والثوابت الثقافية القارة ، والمرجعيات الرمزية المتوارثة على المحك . وهو الأمر الذي تجسّده لنا حالات تفاقم الأزمات الاجتماعية والاضطرابات السياسية والاحتقانات النفسية ، مع كل مسعى يستهدف إدخال الإصلاحات في البنى والتحسينات في الأنماط والتعديلات في الأنساق ، واعتبار ذلك من ثم بمثابة إعلان حرب بين القديم والجديد ، بين الماضي والحاضر ، بين الأصالة والمعاصرة . صفوة القول – كم يشير مؤرخ الأديان (مرسيا الياد) – (( إن الصفة التاريخية التي تغنى بها الشعر الملحمي ليست موضع بحث ونقاش . أما درجة تاريخيتها فلا تصمد طويلا”أمام عملية الحتّ والتآكل التي تعرضت لها بسبب دخولها عالم الأسطورة . المعلوم إن الحدث التاريخي بحد ذاته ، مهما بلغت أهميته ومهما علا شأنه ، لا يعلق في الذاكرة الشعبية ولا تلهب ذكراه مخيلة الجماهير إلاّ بمقدار ما يكون أكثر قربا”من طراز أسطوري ))(5) .
الهوامش
1. مرسيا الياد ؛ ملامح من الأسطورة ، ترجمة حسيب كاسوحة ، دراسات اجتماعية (20) ، ( دمشق ، منشورات وزارة الثقافة السورية ، 1995 ) ، ص148 . ويضيف مؤكدا”هذه الحالة قائلا”(( إن الأساطير لتؤكد للمرء أن كل ما يأتي من أفعال ، أو كل ما هو بصدد فعله ، قد جرى فعله عند البدء ، في ذلك الزمان القديم )) ، ص154 .
2. بيتر بيرك ؛ علم الاجتماع والتاريخ ، ترجمة داوود صالح رحمة ، ( دمشق ، منشورات علاء الدين ، 2007 ) ، ص50 .
3. مرسيا الياد ؛ البحث عن التاريخ والمعنى في الدين ، ترجمة الدكتور سعد المولى ، ( بيروت ، المنظمة العربية للترجمة ، 2007 ) ، ص31 .
4. ميريال الطحاوي ؛ محرمات قبلية : المقدس وتخيلاته في المجتمع الرعوي روائيا” ، ( بيروت ، المركز الثقافي العربي ، 2008 ) ، ص60 .
5. مرسيا الياد ؛ أسطورة العودة الأبدية ، ترجمة حسيب كاسوحة ، دراسات فكرية (6) ، ( دمشق ، منشورات وزارة الثقافة السورية ، 1990 ) ، ص75