نوفمبر 22, 2024
1684944405

اسم الكاتب : ثامر عباس

غالبا”ما ينظر الى الخطاب الإعلامي الرسمي على أنه وسيلة من وسائل الدعاية السياسية والتضليل الإيديولوجي ، لا لشيء إلاّ لكونه ممهور بطابع الدولة المسيطرة ومنظور إليه كأداة فاعلة من أدوات سلطتها الناعمة في مجالات الضبط الاجتماعي والتوجيه الثقافي . ولهذا قلما عوّل الجمهور المتلقي على ما يطرحه هذا الخطاب من معلومات وما يقوم به من تحليلات ، خصوصا”حين يكون هذا الخطاب صادر عن مؤسسات سلطة ساهمت سياساتها التعسفية وإجراءاتها القمعية في نسف جسور الثقة بينها وبين من تقع مسؤولية حمايتهم ضمن واجباتها الوطنية والأخلاقية .

ولكن ، وبرغم شيوع هذا الانطباع بين الناس ، فان وظيفة الخطاب الإعلامي – لم تكن ولن تكون – مقصورة على تبرير الممارسات وترويج الإجراءات التي تتبناها سلطة الجماعة الحاكمة دائما”وأبدا”، وإنما هناك نوع من الخطابات ساهمت – وستساهم – في نشر الثقافة الإنسانية وتعميم الوعي العقلاني ، عبر قيامها بوظيفة (النقد) المعرفي والسوسيولوجي للانحرافات التي تتورط فيها الحكومات ، واضطلاعها بدور (التنوير) للذهنيات التي أدمنت التخبط في التهويمات والتشبيحات . ولعل الكثير من التجارب والممارسات التي شهدنا معطياتها وعشنا تجاربها ، سواء على صعيد بلدان العالم الغربي الذي قطع شوطا”بعيدا”في هذا المضمار ، أو على مستوى بلدان نظيره العالم الشرقي التي لا يزال بندولها السياسي يتذبذب ما بين دكتاتوريات متشددة مدججة بالعنف وبين ديمقراطيات شكلية مبتلاة بالفوضى ، ما يؤكد هذا النموذج أو يدعم هذا المثال من التعاطي الايجابي والبناء .

ولعل من أبرز خصائص (النقد) الهادف في الخطاب الإعلامي ، هي تسمية الأشياء السلبية بأسمائها الصريحة دون لف أو دوران ، وتشخيص العلل والأعطال الاجتماعية بجرأة دون القفز فوقها أو التعتيم عليها . بحيث يستهدف الظاهرة موضوعة النقد بصورة (علنية) وبطريقة (مباشرة) دون رتوش أو تزويق ، متخليا”بذلك عن أساليب (المداورة) و(المراوغة) التي من شانها جعل عملية النقد ذاتها بمثابة ستار يخفي القباحات ويحمي التجاوزات ، بدلا”من أن يسوق النظر الفاحص والفكر المدقق إليها ، ويسلط الأضواء الكاشفة والفاضحة عليها كما ينبغي للنقد أن يكون ، ويشير من ثمة الى سبل الإصلاح الواقعي والمعالجة الملموسة التي تسهم في تقويم الاعوجاجات وتصحيح المسارات .

ومن هذا المنطلق ، ليس من مصلحة الخطاب الإعلامي الجاد في وظيفته والحريص على رسالته ، أن يتردد باللجوء الى اللغة التي تحتوي في أروماتها العبارات الصريحة حتى وان كانت قاسية والكلمات المباشرة حتى وان كانت حادة ، سواء أكان أثناء وصف الحالة الشاذة أو الظاهرة المدانة ، أو خلال نقد هذه وتعرية تلك بما يتناسب وخطورة عواقبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على المجتمع . ذلك لأن استخدام هذه الطريقة في المواجهة لا يحقق فقط معدلات عالية في (التوعية) و(التثقيف) لجمهور العامة المخدر في وعيه فحسب ، بل وكذلك يبصّر صاحب القرار المعني بمدى عمق الأزمات وجسامة خطورتها على الدولة والمجتمع ، هذا بالإضافة الى إرشاده الى ماهية الإجراءات الواجب اتخاذها لوضع الحلول واقتراح المعالجات .

وعلى هذا الأساس ، فان إيعاز المسؤولين عن وظيفة الخطاب الإعلامي ، سواء داخل مؤسسات المجتمع السياسي أو داخل منظمات المجتمع المدني ، حيال (تلطيف) عبارات (النقد) المعرفي و(اختزال) جمل (التحليل) السوسيولوجي ، بقصد حمل الرعية المضللة بالأكاذيب على تكوين الانطباع بأن الأمور تجري على خير ما يرام وأن ليس هناك ما يقلق ، سوف لن يفضي الى حل المشاكل الاجتماعية المتوطنة وإزالة الصعوبات الاقتصادية المزمنة ، بقدر ما يفاقم الأولى ويراكم الثانية على المديين المتوسط والبعيد ، بحيث لن يمر وقت طويل حتى تشرع الأوضاع السياسية والأمنية – المحتقنة أصلا”- بالتأزم والتفجر ، ولكن هذه المرة بأشد ما يكون عليه العنف من قسوة والتطرف من ضراوة ! . ناهيك عن ان انتهاج مثل هذه الممارسة (الانتقائية) في اختيار لهجة الخطاب والسعي للحد من طابعه النقدي ، سوف يحرم الجمهور المحاط بكل ما يجعله مدجن الوعي ومخصي الإرادة من فرصة التغلب على أميته الثقافية المزمنة ، والتمكن من تحقيق تراكم معرفي هو بأمس الحاجة إليه يتيح له التعاطي مع المستجدات بمرونة عقلية وإدراك صائب .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *