3

اسم الكاتب : ثامر عباس

الأصل في هذه الموضوعة السياسية المحورية هي ؛ أن (الدولة) تعتبر المسؤول الأول والمباشر عن استنبات وإنضاج عناصر الوعي الاجتماعي بقضية (المواطنة) قبل أن تتصدى أية مؤسسة أخرى من مؤسسات المجتمع السياسي والمجتمع المدني للقيام بهذه المهمة الحضارية والإنسانية ، من حيث أن هذه المسألة تتعلق بتربية الإنسان وتوعيته على تغليب انتمائه الجمعي وولائه الوطني ورابطه الثقافي ، على انتماءاته التحتية وولاءاته الهامشية وانحداراته الفرعية .

وأما في حال غياب الدولة وتعطل أجهزتها وخراب مؤسساتها وتخليها عن دورها ، فمن الواجب على بقايا (المجتمع المدني) الإسراع في لملمت شعث شتاته ، واستنفار كل ما بحوزته من طاقات بشرية وإمكانيات مادية ومحفزات معنوية للنهوض بهذه المهمة الصعبة والخطيرة . وإلاّ فان كيان المجتمع المعني سيصار الى التصدع القيمي / الأخلاقي ، والتفكك الاجتماعي / الجماعاتي ، والتمزق النفسي / الشعوري ، والتناحر الديني / الطائفي ، كما هو الحال بالنسبة للمجتمع العراق الذي سرعان ما انفرط عقده السوسيولوجي وتبعثر نسيجه الانثروبولوجي أثر أحداث السقوط المشؤومة .

ولعل هناك من يعترض على صيغة عنوان المقال التي يستشف منها ؛ ان شعور (المواطنة) لدى الإنسان العراقي يمر في حالة من (الانكفاء) و(التراجع) ، بعد أن كان يظن انه مغمور بذلك الشعور لحد التخمة على مدى العقود التي أعقبت تأسيس الدولة العراقية عام 1921 م على الأقل ! . والحجة على ذلك ، انه وان كانت مؤسسة الدولة تتأرجح بين طور مركزية خانقة وبين طور انحلال فوضوي ، على خلفية استمرار توتر علاقاتها مع دول جوارها الإقليمي من جهة ومحيطها الدولي من جهة أخرى ، إلاّ أن شعور الفرد العراقي ب (مواطنيته) لم يلبث راسخا”في وعيه وقارا”في سيكولوجيته ، بحيث أن أية أزمة يتعرض لها كيانه الوطني سرعان ما ينتفض ذلك الشعور بالتأجج والعنفوان ! .

والحقيقة التي ينبغي علينا تقبلها – رغم كونها مرة وقاسية – هي ان أن فكرة (المواطنة) وما يترتب عليها من أخلاقيات والتزامات ، تعد الغائب الأكبر ليس فقط في وعي (المواطن) فحسب ، بل وكذلك العنصر الأندر في علاقاته وسلوكياته . فلكي تتمكن مشاعر (المواطنة) من وجدان المواطن وتستقر في باطن وعيه ، لابد لها من تحقيق شرطين أساسيين كنا قد أشرنا إليهما في كتابنا الموسوم (الهوية الملتبسة : الشخصية العراقية وإشكالية الوعي بالذات) ؛ الشرط الأول ويتعلق بضرورة مرور الجماعات المحلية بحالة من (الانصهار الاجتماعي) التي يتمخض عنها ما يعرف ب(الشخصية المعيارية) ، حيث تذوب خلالها وتتلاشى مختلف النعرات الأصولية التي دأبت تلك الجماعات على اتخاذها عنوانا”انثروبولوجيا”لها ، مثل (العشيرة / القبيلة ، أو المذهب / الطائفة ، أو القومية / الاثنية ، أو الجهوية / المناطقية ، أو اللسانية / اللغوية) . أما الشرط الثاني فيتمثل بتخلي تلك الجماعات عن تلك العناوين الانثروبولوجية – طوعا”/ اقتناعا”لا كرها”/ فرضا”- والانخراط في مشروع تحقيق ما يسمى ب (الهوية الوطنية) العابرة للهويات الهامشية والتحتية والفرعية ، والتي يتشكل من روابطها البينية وعلاقاتها المتقابلة نسيج المجتمع الحضاري .

والحال ما أن تصل تلك الجماعات الى هذا المستوى من النضوج الثقافي وتبلغ هذا الطور من الارتقاء الحضاري ، حتى تتمكن من وضع أولى خطواتها على مسار طويل ومتعرج ، ولكنه المسار الصحيح المفضي بها الى ولوج عصر (المواطنة الحضارية) ، حيث لا رجعة الى (الوراء) لما قبل مؤسسات الدولة ، ولا احتمال الانكفاء الى (الخلف) لما قبل كينونة المجتمع ، ذلك المسار الذي طالما حلمت بانتهاجه – دون جدوى – أجيال وأجيال من المكونات العراقية المتعاقبة . ولعل السبب في ذلك يعود الى ما تتمتع به الأعراف والتقاليد والقيم العصبية من قدرات على اختراق البنى التحتية لوعي المكونات السوسيولوجية والكيانات الانثروبولوجية التي يتشكل منها (المجتمع المدني) ، للحد الذي تستحيل معه الى ما يشبه (المعيار السيميائي) الذي يحتكم إليه الناشطون في هذا المجتمع من التعرف الى بعضهم والتواصل مع أقرانهم . ولهذا فقد اعتاد الجميع – مع بعض الاستثناءات – على تقديم أسمائهم مقترنة بألقابهم العشائرية والطائفية والمناطقية ، كما لو أنها (تميمة) سحرية يتبجحون باستعراض حملهم إياها أمام بعضهم البعض ! .

والغريب في هذا الأمر ان اللجوء لمثل هذا الضرب من السلوك البدائي ، لا يقتصر فقط على جمهور (العامة) من الناس ممن يعانون لوثة الجهل الثقافي والتخلف الاجتماعي فحسب ، وإنما راج سوقها وعلا شأنها – وهنا الطامة الكبرى – بين جماعات (الخاصة) ممن يحسبون على نخب المجتمع (المثقفة) كذلك . لا بل ان هؤلاء الأخيرين يكونون أحرص من سواهم على مراعاة التمظهر بتلك العناوين الانثروبولوجية ، حتى ولو كانوا من أصحاب الشهادات المتقدمة والمناصب العليا في الدولة .

أخيرا”لنقلها وبصراحة ؛ ان وعي الإنسان العراقي ربما يحتوي الكثير من الأشياء المتعلقة بمفاهيم الوطن والوطنية التي أكسبتها إياه تجاربه المريرة مع السلطات السياسية المتعاقبة ، التي طالما رسخت لديه الاعتقاد (بشخصنة) المفهوم الأول و(أدلجة) المفهوم الثاني . ولكنه بالتأكيد لم ينعم يوما”بترف الشعور ب (المواطنة) التي لم تفتأ قيمها الحضارية ودلالاتها الإنسانية تتوارى خلف عناوين ؛ انتماءاته القبلية – العشائرية ، والمذهبية – الطائفية ، والاثنية – العنصرية ، والجهوية – المناطقية ، واللسانية – اللغوية . للحد الذي أضحت معه مقولة خالية من أي معنى أو قيمة تتقاذفها الخطابات الأصولية والبرغماتية ، على سبيل المناكفات السياسية والمزايدات الإيديولوجية ليس إلاّ ! .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *