اسم الكاتب : بوني دوتشيرتي
قبل 20 عاما، في 12 مايو/أيار 2003، عبرتُ جسرا شيدته قوات البحرية الأمريكية إلى جنوب بغداد، وعالمٍ لم يكن يعرفه معظم الناس إلا من خلال شاشات التلفزيون. كانت العاصمة قد سقطت قبل نحو شهر في أيدي القوات الأمريكية، وكنت في فريق من ثلاثة أفراد أرسلته “هيومن رايتس ووتش” لتوثيق الخسائر المدنية جراء القتال.
طوال الأيام التي تلت ذلك، رأيت آثار القتال وتغيير النظام على الطرقات. دبابات مهجورة وسط أشجار النخيل والمنازل. مبان حكومية تحولت إلى أنقاض، مذكِّرة بعملية “الصدمة والرعب” التي شنها التحالف بقيادة الولايات المتحدة. كانت التماثيل والجداريات وغيرها من صور صدام حسين في كل مكان، لكنها كانت قد تعرضت للتشويه منذ سقوطه.
مع أننا لم نتوقع بشكل كامل حجم وطبيعة العنف الذي كان سيُلحق الخراب بالعراق في السنوات التالية، كان من الواضح حينها أن الحرب لم تكن قد وضعت أوزارها بعد. من موقعنا المطلّ فوق سطح “فندق الحمراء”، الذي كان قاعدة للصحفيين وعمال الإغاثة، كنا ما نزال نسمع الطلقات النارية ونرى وميضها في الأفق.
أجرينا تحقيقنا في بغداد والمدن الكبرى الواقعة إلى جنوبها، ومنها الحلة، والنجف، والناصرية، والبصرة، وكربلاء. من خلال المقابلات وتحليل الأدلة المادية، وثّقنا وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين بسبب استخدام التحالف للذخائر العنقودية والضربات الجوية الأمريكية الفاشلة على القادة العراقيين. كما سجلنا انتهاكات عراقية للقانون الإنساني الدولي، مثل استخدام الدروع البشرية وسوء استخدام شارتَي “الصليب الأحمر” و”الهلال الأحمر”. في ديسمبر/كانون الأول 2003، نشرنا استنتاجاتنا في تقرير رئيسي لـ هيومن رايتس ووتش بعنوان “خارج الهدف: سير الحرب والخسائر المدنية في العراق”.
أثناء مهمتنا لتقصي الحقائق، شهدتُ لحظة مهمة في التاريخ بينما كنت أفكر في مشروعنا في سياق أكبر يتعلق بأساليب الإبلاغ عن الأزمات الإنسانية والنزاعات.
أتذكر زيارة المعالم الشهيرة التي كانت رمزية في ذلك الوقت: المسجد قرب “فندق فلسطين” الذي كان خلفية للعديد من تقارير المراسلين؛ والقصر الذي تعلوه رؤوس منحوتة ضخمة لصدام حسين في هيئة الملك البابلي نبوخذ نصر، والذي أصبح مقرا لـ “مكتب إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية” التابع للتحالف؛ ومدينة بابل القديمة التي كان مشاة البحرية الأمريكية يتجولون فيها.
كما أتذكر لقاءات مع عراقيين عكسَت وجهات نظرهم المتنوعة مدى تعقيد النزاع. في فندقنا في إحدى الأمسيات، تفحص مترجمنا ببطء مجموعة البطاقات التي نشرها الجيش الأمريكي للقادة العراقيين المطلوبين في شكل لعبة ورق، وأخبرني عن اختفاء شقيقه ومحاولة عائلته العثور عليه دون جدوى. في مقبرة جماعية، تشبثت أمّ تنتحب بجثمان شخص يستحيل التعرف على هويته، مقتنعة بأنه ابنها لأنها وجدت ماركة السجائر التي يحبها في جيبه.
أمام مسجد الإمام علي في النجف، أخذنا فكرة عما يشعر به العراقيون تجاه الأمريكيين. شتم شبان فريقنا ونعتونا بالكفار، بينما شكرَنا رجل وامرأة مسنّان على قدومنا، وقدمت إليّ فتاة صغيرة قطعة من الفاكهة.
رغم أن مثل هذه الذكريات يقتصر على العراق في العام 2003، فإن بحثنا الميداني جسّد مبادئ أكبر يجب أخذها بعين الاعتبار عند التحقيق في العواقب الإنسانية للحروب.
أولا، يمكن للتوثيق أن يحدث فارقا. في العام 2002، كنت في فريق هيومن رايتس ووتش الذي أبلغ عن الخسائر المدنية التي تسببت فيها الحملة الجوية الأمريكية في أفغانستان من أكتوبر/تشرين الأول 2001 إلى مارس/آذار 2002. وجدنا أن استخدام “القوات الجوية الأمريكية” للذخائر العنقودية في المدن والقرى أو بالقرب منها قتل أو جرح أكثر من 100 مدني. في العراق، بحسب نتائج بحثنا، تعلمت القوات الجوية الأمريكية من أخطائها السابقة. فقد استخدمت ذخائر عنقودية أقل بكثير في المناطق المأهولة بالسكان أو بالقرب منها واعتمدت على نماذج أكثر دقة.
على النقيض من ذلك، كانت القوات البرية الأمريكية والبريطانية تفتقر إلى الخبرة في استخدام الذخائر العنقودية واستخدمتها على نطاق واسع في المدن الرئيسية في العراق، ما تسبب في سقوط مئات الضحايا المدنيين. ومع ذلك، الضغط الذي مارسته منظمات مثل هيومن رايتس ووتش، ونتائج المراجعات العسكرية الأمريكية اللاحقة، والوصمة التي خلقتها “اتفاقية الذخائر العنقودية” لعام 2008 (مع أن الولايات المتحدة لم تنضم إلى الاتفاقية) أدت إلى تغيير في الممارسات. على الرغم من استمرار النزاع لسنوات بعد سقوط بغداد في أبريل/نيسان 2003، لم تعد الولايات المتحدة إلى استخدام الذخائر العنقودية مرة أخرى هناك أو في أي مكان آخر، باستثناء غارة منفردة في اليمن عام 2009.
ثانيا، يتطلب تقصي الحقائق بحثا دقيقا لا أحكاما سريعة. على سبيل المثال، تساءلنا عن النمط المتكرر من الضربات الجوية الأمريكية الفاشلة على القادة العراقيين. كانت القنابل المستخدمة ذخائر دقيقة التوجيه، لكنها لم تصب أيا من الأهداف المقصودة وتسببت بدل ذلك في سقوط عشرات المدنيين. اكتشف زميلي أنه على الرغم من دقة القنابل، حددت الولايات المتحدة مواقع الأهداف بناء على مكالمات هاتفية اعترضتها عبر الأقمار الصناعية، ولم تتعدّ دقة تلك التقنية نطاق 100 متر.
خلص تقريرنا إلى أن المصادر الاستخبارية المؤِيدة الموثوقة كانت “صعبة، بل ربما مستحيلة المنال”، ما دفع الولايات المتحدة إلى “الاعتماد على ما بحوزتها، أي إحداثيات غير دقيقة مستقاة من هواتف ساتلية، دون ضمان تأكيد هوية المستخدم”.
ثالثا، سيلاحظ الباحثون الميدانيون العديد من أوجه التشابه بين النزاعات المسلحة. فالناس، مثلا، يتوقون إلى سماع آخر الأخبار. في أفغانستان، رأيت مدنيّين يضغطون علب الصودا وغيرها من الخردة المعدنية على شكل صحون لالتقاط القنوات الفضائية. في العراق، كانوا يشترون تلك الصحون بمالهم. كما يتضح من هاتين الحالتين، من يعيش في خضم النزاع يبذل قصارى جهده للوصول إلى الخبر. بينما يكافح السكان المحليون لمعرفة ما يدور حولهم، تتدفق وسائل الإعلام الدولية إلى مكان الحادث لبث رواياتها إلى بقية العالم. يقابل الصحفيون باحثي حقوق الإنسان الذين يوثقون انتهاكات القانون الدولي ويمدّونهم بالمعلومات لتعزيز المساءلة وحماية المدنيين.
جزء كبير من المعاناة التي تسببها الحرب للمدنيين هي نفسها أيضا. فعند استخدام الأسلحة المتفجرة – القنابل التي تُلقى من الجو، والصواريخ، وقذائف المدفعية وغيرها – في مناطق مأهولة بالسكان، تصيب المدنيين، وتحول المنازل إلى أنقاض، وتلحق الضرر بالبنية التحتية، ما يعيق الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية والتعليم. قد تنفجر الذخائر العنقودية عند الارتطام أو بعده، وقد تترك المدنيين بأطراف مبتورة وسبل عيش مقطوعة. يحزن الآباء والأمهات لفقدان أولادهم ويَتَيَتَّم الأطفال.
رابعا، وظيفتنا كباحثين وكتّاب لا تنحصر في تحليل الأحداث، بل تتعداه إلى إضفاء الطابع الفردي على تجارب الناس. إضفاء وجه إنساني على النزاع المسلح يسهّل الاعتراف بمعاناة الضحايا ويساعد على إحداث التغيير نيابة عنهم.
كان تقريرنا عن العراق أكثر من مجرد أرقام: قتلت الذخائر العنقودية 19 مدنيا وأصابت 515 في الحِلة بين 23 مارس/آذار و11 أبريل/نيسان. استهدفت القوات الجوية الأمريكية 50 من القادة العراقيين لكنها قتلت صفرا. سعيتُ إلى نقل الحقائق التي ترويها تلك الأرقام، وما زلت أتذكرها.
على سبيل المثال، فقد فلاح حسن (13 عاما) يده اليمنى وسبابته اليسرى وأنسجة رخوة في طرفيه السفليَّيْن عندما انفجرت ذخيرة صغيرة لم تكن قد انفجرت عند الارتطام في هجوم بالذخيرة العنقودية في الحلة في 26 مارس/آذار. وأصيبت والدته التي كانت ترقد في سرير مجاور عندما زرناه في المستشفى في منتصف مايو أيار بجروح في بطنها، ورحمها، ومصرانَيْها الغليظ والدقيق في الانفجار نفسه.
أودت غارة جوية في 8 أبريل/نيسان بحياة ستة من أفراد عائلة جابر في بغداد عندما أصابت منزلهم قنبلة كانت تستهدف وطبان، الأخ غير الشقيق لصدام حسين. عرّفنا سعدون حسن صالح على الناجية الوحيدة، دينا جابر، ابنة أخته البالغة من العمر أربعة أشهر. قذفها الانفجار بأعجوبة خارج المنزل وعُثر عليها صباح اليوم التالي في حديقة أحد الجيران بعظام مكسورة، لكنها كانت على قيد الحياة.
في 30 مايو/أيار، وهو آخر يوم لنا في العراق، أطلَعَنا سكان البصرة على ذخائر متفجرة حية صغيرة بجوار مدرسة ومنزل قبل أن نعبر الحدود إلى الكويت. أظهرت هذه الذخائر غير المنفجرة، وإطلاق النار الذي سمعناه أثناء توضيب حقائبنا في الليلة السابقة، النزاع المسلح، مع ما يحمله من آثار على المدنيين، كان متجها إلى الاستمرار. عدنا من العراق لإعداد تقريرنا، وبقي من قابلناهم وسط مخلفات الحرب القاتلة واحتمال استئناف القتال.
عندما أعدت قراءة مذكراتي بعد عقدين من الزمن، كان هناك الكثير من التفاصيل التي نسيتها، لكن استنتاجاتي لم تتغير. كانت هذه آخر كلمات دوّنتها، ويبدو أنها قد تحققت: “شعرت بأنني قريبة جدا من التاريخ وآمل أن يحدث تقريرنا بعض التغيير الإيجابي”. على مدار الشهرين الماضيين، نظر الصحفيون وغيرهم إلى غزو التحالف بقيادة الولايات المتحدة للعراق عام 2003 باعتباره لحظة تاريخية، وساهم تقريرنا “خارج الهدف” في مفاوضات اتفاقية الذخائر العنقودية والتغييرات في السياسة الأمريكية.
في يومنا هذا، ما تزال هناك حاجة للبحث الميداني في الخسائر المدنية في الحرب في أوكرانيا وغيرها من النزاعات المسلحة حول العالم. مع أن التكنولوجيا تغيرت والمنهجية تطورت على مدى العقدين الماضيين، إلا أن الغرض الإنساني ومبادئ توثيق النزاع ما تزال هي نفسها. عندما أنظر إلى الأحداث الماضية، أدرك أن رحلة تقصي الحقائق التي خضناها في العراق قدمت درسا في التاريخ ودليلا يُتّبع لتعزيز حماية المدنيين في المستقبل.