اسم الكاتب : قاسم موسى الفرطوسي
في بداية الاربعينيات ظهرفي الاهوار وفي قرية (الصحين) العائمة تحديدا وفي مضيف الشيخ فالح المجيد رجل اسمه (معيجل) واولاده الثلاثة صالح وذاري وسموم والاول (قهوجي في المضيف) ولتصرفاته الغريبة اطلق عليه (معيجل لمسودن) اي المجنون …حتى اصبح خطرا على نفوس اطفال الهور فالطفل عندما لا يرفض النوم ليلا لسبب ما تهدده امه به وتنادي عليه (نام اجاك معيجل) فيرتجف خوفا وينام بالرغم من اوجاعه …ولكني لا انسى الحادث الذي وقع لي معه عندما كنت طفلا (عام 1948) حيث اصطحبني والدي معه الى مضيف الشيخ فالح واذا انا وجها لوجه مع (معيجل) في باب المضيف..فصرخت ولذت بعباءة والدي وكان صراخي يزداد كلما اقرب معيجل مني حتى عاد بي والدي الى البيت ..اذا يجب ان نعرف ما هو معيجل؟
معيجل رجل متوسط القامة ..رث الملابس ..يرتدي الدشداشة والسترة واليشماغ بلا عقال ..حافي القدمين..قليل الكلام والاختلاط بالناس..عليه ملامح الكآبة والفقر والتعب.. يجلس دائما في باب المضيف ينتظر اوامر الشيخ الخدمية او تبليغ الفلاحين..اما هوايته ..فهي جمع الاسلحة القديمة والعاطلة النارية منها والحادة فيمتلك انواع البنادق القديمة وبدون اطلاقات مثل (ام شلخ,ام عبية,ام شجخ,طرمة,برنو,باشية,ججك حميدي) (وانواع الجعب) والاحزمة الجلدية(حزام وجتافي) وخالية من الاطلاقات..اما الخناجرفمنها المجراوي والشطراوي والسيوف الحديدية التي يصنعها بيده من بقايا الاواني النحاسية وبادي عليها اثار الصدأ..والدرع والطاس.والقامات والسكاكين والفالات والرماح ولعل منها الرمح الرديني الذي قال فيه (مالك ابن الريب) الشاعر الاموي عندما داهمه الموت في منتصف الطريق حيث قال:
تذكرت من يبكي علي فلم اجد
سوى السيف والرمح الرديني باكيا
والعجيب ان اسلحته هذه لا يستخدمها في المهمات والمحن او اثناء المعارك او الدفاع عن نفسه.وكثير ما كان يتجول في مجاهل الاهوار وكواهينها وبين غابات القصب والبردي وهو يتنقل من هور الى آخر او من قرية الى اخرى متباعدة بمشحوفه القديم (خرابة) وفي مجاهل الاهوار هذه يخرج عليه قطاع الطرق والسلابة ويستولون على اسلحته وهو لا يحرك ساكن ولا يدافع عن نفسه بها..ولكنها تعاد اليه خوفاً من بطش الشيخ فالح لهم اي السلابة وقيل حتى بعض الاطفال او الشباب يجردونه من هذه الاسلحة وهكذا بقي معيجل يتجول في الاهوار ولمدة اكثر من عشرين عاما ومسكنه في قرية (الصحين)..حتى شاع خبره واصبح مضرباً للامثال في جنونه هذا (جنك معيجل) واخذ يتردد اسمه في الدواوين والمضايف في المناطق الجنوبية
وبعد ثورة 14 تموز المجيدة والتي اطاحت بالاقطاع واذنابه هاجر معيجل من الهور وسكن في قرية قريبة من مدينة المجر الكبير وتسمى (قرية بيت حمود) ..فاستقر بها وغير هوايته وباع مشحوفه واشترى بثمنه حصاناً هزيلاً كديشاً بدله..وصنع انواع الاسرجة والاغطية والاحزمة من القماش وشد في عنق حصانه (ادراغ) يرن اثناء السير وقام بتربية قطيع كبير من الكلاب وغرس في نفوسها الود والمحبة والتآخي والويل الويل اذا اعتدى احد كلاب القرية على واحد منهن فتهجم عليه بكاملها وتقطعه اربا اربا وسيطرت كلابه على جميع كلاب القرية واجبنتها ولكنه لا يستطيع اطعامها فينهض قبل طلوع الفجر ويشد على حصانه وهو مدجج بهذه الاسلحة وعند النهوض يرن (الدراغ) وتنهض مجاميع كلابه ويذهب بها الى مزابل المدينة ومن ثم الى مجزرة القصابين (قصاب خانة) فتتغذى على فضلات بقايا الذبائح ولكن كثيراً ما يعترضه القصابون ويستهزئون به بكلمات نابية فأنذرهم عدة مرات للكف والابتعاد عنه ولكن قصاباً الح عليه فطعنه برمح اخرجه من ظهره وجندله على الارض مضرجا بدمائه ومات على الفور فترك حصانه وكلابه سائبة وسلم نفسه الى مركز الشرطة ومن ثم الحكم عليه بالمؤبد في سجن البصرة ثم افرج عنه لتجاوزه السن القانونية في الاصلاح حيث زاد عمره على التسعين سنة ومات في قريته في ضواحي المجر الكبير.
وشخصية معيجل هذه من تراثنا الاهواري الذي نعتزبه حيث وضبه الفنان المرحوم علي الاطرش (كعود) في جميع مسرحياته وبرنامجه السبعيني (على الحصان الطائر) وضرب به مثلا بحكام العرب آن ذاك الذين يمتلكون الاسلحة ولا يستخدمونها ضد الصهاينة لتحرير فلسطين.. وما زال اسم معيجل في ذاكرة اهل الهور والمناطق الشعبية مثل الشعلة ومدينة الصدر في بغداد والحيانية في البصرة اما احفاده فانهم الآن منتشرون في العمارة وبغداد.