اسم الكاتب : د. علي مولود فاضل
تألمت وأنا أضع هذا العنوان لافتتة لمكتوبي، وشعرت أنَّ غصة تجثو على فؤادي وأنا أمرج في هذا الواقع المؤسف الذي بدأ يخيم على حال التعليم في العراق ويهدده بمستقبل بائس.
السبب، والمسبب، والضحية، والحاضنة، جميعها شراكات اصطفت ضد التعليم، الذي يعد الركيزة الأساس في لبنة المجتمعات كافة، فمن السبب؟ المعلم أم الطلبة؟ ومن الضحية الجيل أم المستقبل؟ ومن الحاضنة الدولة وحكومتها أم القطاع الخاص؟ هذه الشائكة يبدو من العسير تفكيكها بنص مكتوب على صحيفة ربّما لا يقرؤها المعنيون بالأمر، والسبب يعود الى مقاطعتهم القراءة وعدم الرغبة في نهل المحتويات المتعددة , ولا شك في أنَّ لهو مواقع التواصل الاجتماعي عندهم أفضل من القراءة وفق وجهة نظر الكثير منهم ، في هكذا حالات يصبح القادرون على التعبير أمام مسؤولية كبيرة في رصد الظواهر والكتابة عنها؛ عسى أن تجد كلماتهم وقعاً واثراً بمن يقرأ ولو بنسبة ضئيلة.
وبالعودة إلى الانحدار، وبقساوة نرجع السبب إلى المعلم بمختلف مستوياته، سواء أكان في المرحلة الابتدائية أو الثانوية أو الجامعية، أو حتى العليا؛ لأن التعليم الناجح ينتج طلبة ناجحين، والمعلم المخلص هو من يعلم طلبته بكل ما يملك من معارف ومعلومات رصينة، وهذا المعلم ينبغي أن تكون لديه طريقة وأسلوب يحشو بها أذهان الطلبة بما يتضمنه المنهج الدراسي، ويسعى جاهدا إلى توصيل المعلومة إلى تلامذته دون كلل أو ملل أو ضجر، إذ غالباً ما يكون الطلبة صفائح بيضاء يمكن ملأها بالمعرفة التي يمتلكها المعلم.
لكن المشكل الأكبر إذا كان المعلم خالي الوفاض، فارغا من المخزون الثقافي الخاص والعام، فكيف سيقدم للطلبة تعليما جيدا؟، هنا لا بد من تذكير القارئ بمن مرّ عليه من أساتذة بمختلف مراحله الدراسية، وكان بينهم أيقونات يتذكرها الآن وهو يقرأ، وقد تركوا بصمات فعلية في ذاكرته وشخصيته وفهمه لا يمكن للسنين محيها، وفي المقابل كان هناك معلمين -أو حملة شهادات تعليمية- هشيين، سطحيين، لم يقدموا شيئا سوى الدرجة التي دائما يكونوا كرماء بها، وبعضهم مراوغون في اعطائها؛ تعويضا عمّا بداخلهم من فراغات ناقصة لا يمكنهم ملؤها؛ لذلك ارجع السبب إلى المعلم في الحالات كافة.
في الجانب الآخر أحيل الانحدار إلى الطلبة، وإلى التلاميذ الذين لا يحبون التعلم، ولا يطمحون إلى الغوص في المعرفة والامتلاء بمشاربها المتعددة، ولا يرغبون في التميز والجد والمثابرة، وجل همهم الحصول على الشهادة والدرجة في الإختبار، هؤلاء هم مشاريع أساتيذ غير صالحين في المستقبل القريب أو البعيد، إنَّما علل ستهدم ما تبقى من معالم علمية لا تساعد حتى المتعكزين أنَّ ينهضوا بالمجتمع وبنيانه. الطلبة أيضاً مذنبون، وإنَّهم استسهلوا الحصول على المعرفة، وأخذتهم المسوفات الرقمية إلى استنزاف وقتي وضياع زمني لا يشعرون كيف يأتي النهار أو يذهب، وهم في تيه يسرقون. قد أبدوا متناقضا لدى بعضهم، لكن للحديث بقية.
وعند الحديث عن الإدارة، أو الإدارات بمختلف مستوياتها من الحلقة الأصغر ولغاية الدولة، فإنَّ تشخيص الخلل بحاجة لأعداد كاملة من الصحف كي يغطى، لكن بحساب بسيط كما يقال في العامية، فإنَّ الإدارة مقصرة أولا في المتابعة، وعدم الاهتمام بمستوى المعلم والمكان الذي يأوي الطلبة، ولا نستطيع رفع سقف الطموح إلى المستلزمات؛ لأنَّ هذا الأمر نشفت الألسن في حديثها عنه، لكن المتابعة في جوهرها تنتج رقابة على المعلم والمتعلم والإدارة وجميع أركان الدولة. ثانياً التطوير، الذي يقتضي رفع القدرة والكفاءة على نحو فعال، وليس كتبا إدارية، أو ضرورة بيروقراطية، أو صورة تلتقط، أو غاية مالية، وإنَّما يمثل التطوير دعامة أساسية في ترصين العملية التعليمية. ثالثاً العقوبات، التي تعد الضد من التشكرات، والعملية التعليمية حبلى بالتشكرات والعرفانات، وشحيحة في العقوبات، لماذا؟ لأنَّ الخواطر وجبرها أهم من الخطأ وتصحيح المسار -وفقا للرؤية الجمعية- وأنَّ يرتفع منصب ومرتب المعلم وشأنه، أو الطالب وفرصته أولى من معاقبته، وهذا ما جعل فرصة الثواب والعقاب تموت، بالأضافة إلى ذلك فإنَّ الدولة أهملت دور وزارة التخطيط وجعلتها تشكيلا فائضا لا يقدم ولا يخدم ولا يخطط المدخلات والمخرجات.
ونحن أمام انحدار تعليمي خطراً، وخطراً جداً على المستقبل والاجيال، ونحن مقبلون على تجهيل معرفي كارثي، سيجعل الضياع والشتات والوفيات سمة ملموسة لدى الجميع، وهذا ما يحتاج إلى وقفة جادة، سواء من المعلمين الذين اخاطب ضمائرهم أولاً، وسمعتهم ثانياً، واهز نظرتهم إلى أطفالهم ثالثاً. واخاطب في الضفة الأخرى الطلبة بكل فئاتهم واحثهم أنَّ يطلبوا العلم بجد ومثابرة وبحث وتقصي واستشراب. وأخيراً ادوِيّ بأسماع الحكومة أنّ تلتفت إلى التعليم وترصن بنيانه وتراجع مدخلاته ومخرجاته والمتصديين لمقاعده والعاملين في بوتقته؛ لأنَّ الواقع ينذر بكارثة قريبة، والأمر لكم.