نوفمبر 22, 2024

من أشكال التشوه الذي تعاني منه الثقافة السياسية الشعبية في العراق، هو اعتبار السعي الى مواقع السلطة مثلبة وإن الساعي هو من يريد الاستحواذ وجني المكاسب الشخصية والعائلية أو حتى الحزبية. بالتأكيد هو دليل على تشوّه في الوعي أفرزته عوامل عدة، منها سمعة العمل الحزبي منذ عام 1968، والذي لم يقدم سوى صورة حزب يستحوذ على السلطة ويجبر الناس على الانتماء، وجعل ذلك مقياساً للوطنية وعكسه عمالة وارتباطاً بالأجنبي يستتبع ملاحقة وقتلاً، أو على الاقل تهميشاً وإقصاءً وحرمانا من أبسط الحقوق. بعد ٢٠٠٣ لم يرَ الناس تجربة أفضل، فالحزب أصبح أحزاباً متعددة والتفرّد بالحكم بات محاصصة بين الأحزاب وكلٌّ يعدُّ حصته في الحكم حصّةً من مغنم يتفرد بما لديه من وزارة أو مؤسسة، يملؤها بأنصاره، ويجير مواردها له. هكذا بات الهدف هو الوصول الى المواقع )المربحة( والاحتفاظ بها، وباتت العلاقة بين الأطراف تقوم على المناكفة والإعاقة والازاحة.

غاب هدف الإنجاز وبناء الدولة، وإن حضر عند البعض فان معاول الهدم أو الإعاقة كفيلة بإحباط أي مسعى في هذا السبيل.

هكذا بات الناس أكثر إحباطاً من الأداء الحزبي، وشاعت مقولة إن حكم الأحزاب هو سبب الأزمة، وبات السعي الى السلطة، في ذهن العامّة هدفاً غير شريف، فكان الوعي المشوّه الذي ينطوي على تناقض في السلوك يزيد من عمق المشكلة.

يتجلى التناقض في أشكال عدة، فأغلب الذين يتذمرون من الأحزاب وأدائها، يدعمون حزباً أو جماعة سياسية سبقت وقدمت أداءً سيئاً. أغلب هؤلاء يريدون الديمقراطية لكنهم يرفضون وجود أحزاب، وهذا ما يتناقض مع مبادئ النظام الديمقراطي، الذي يقوم على وجود الأحزاب. يعيبون على الأحزاب السعي الى السلطة، بينما العمل السياسي الحقيقي يقوم على سعي الحزب الى السلطة من أجل تنفيذ برامجه التي تعالج شؤون البلاد.

مشكلة الوعي المشوّه هي أنّ الناس لم يروا النموذج الإيجابي الذي يجعلهم يثقون بالحزب بما يحمله من برنامج وما يقدمه من إنجاز للبلاد والشعب من خلال سلطة هي وسيلة وليست هدفاً.

الكل يتحدث عن ضرورة التغيير، ونحن على أعتاب عهد سياسي جديد، ومن يريد التغيير بالفعل، عليه أن يقدم نموذجا مختلفاً يقوم على هدفية الإنجاز من خلال السلطة، بدلا من هدفية السلطة وسلوكية الاستحواذ والاقصاء.

لم يعد الوضع يتحمل المزيد مما كان حتى الآن.

ما يعانيه العراق يعود في جانبه الأكبر الى غياب الوعي أو ضعفه. فبالوعي تنمو المجتمعات، وبغيابه، تتراجع وتتدهور أوضاعها.

بوجود الوعي المشوّه، ينتخب الناس اللصوص والجهلة، ليبدؤوا بعدها العويل والصراخ والشكوى منهم.

بالوعي الهابط، يتخذ الناس زعماء لهم من اللصوص وسراق المال العام ويدافعون عنهم حدّ الاستماتة.

بغياب الوعي يعارض الجمهور خطوة أو سياسة بنّاءة، ويؤيّد أخرى هدّامة لمجرد أن فيها مصلحة ذاتية لشخص أو جماعة.

وإذ إن الوعي هو مدى إدراك الإنسان للأشياء التي تحيط به والعلم بها، لذلك فإن تزويده بالمعلومات الخاطئة يؤدي الى خلق وعي مغلوط ينتهي الى نتائج مدمّرة للمجتمع أحياناً.

من يقوم بتشويه الوعي هم من يمدّون المتلقين بالمعلومات الخاطئة، وهذا ما يمكن أن يقوم به أكثر من طرف: السياسي ورجل الدين والاعلام، والدافع المشترك هو السيطرة على سلوك الناس وتصرفاتهم بما يخدم مصلحة هذا أو ذاك، من دون تفكير بتأثيره السلبي في الجميع وعلى المدى الطويل، ومن دون إدراك أن مجتمعاً بلا وعي يشكل بيئة خصبة لكل أشكال الفساد والتخلف والإرهاب والارتزاق.

هكذا فان الطريق الأقصر الى تدمير أي مجتمع هو تدمير وعيه، فيقوم هو بتدمير ذاته تلقائياً.

لا يمكن القاء اللوم على صاحب سياسة أو مشروع سياسي أو اقتصادي يستدعي ضرب الوعي المجتمعي لتنفيذه، ما دام أفراد المجتمع مستعدين لتأجير عقولهم للآخرين، ليفكروا بدلاً منهم، ويعبثوا بسلوكهم وحياتهم كيف يشاؤون.

أساس تراجع الوعي عندنا يعود الى النظام التعليمي ومناهجه التي تعتمد التلقين وليس التفكير، والى نظامنا الاسري الذي يقتل شخصية الطفل ويجعله متلقّياً لا متفاعلاً، والى بعض رجال الدين الذين يرون في بقاء الوعي منخفضا وسيلة للسيطرة على السلوك، والى بعض سياسيينا الذين يتعمدون نشر المعلومات المضلّله الفاقدة للأرقام والبراهين، والى الكثير من اعلامنا الذي يعمد الى الاثارة والتهريج بعيداً عن المسؤولية الاجتماعية للإعلام، فضلا عن الاعلام المسيّس منه.

لا ننسى أيضا، الفاعل الأكبر في عملية التضليل، أي العامل الخارجي الذي يريد أرضية من الجهل والتخلف تسهّل عملية تنفيذ برامجه.

خلاصة الامر: عانينا كثيراً من الويلات بسبب تراجع الوعي، وتخاصمنا وتحاربنا ودمّرنا أنفسنا، بسبب غياب الوعي، فهل ننتبه ونحفظ ما تبقى منّا ولنا؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *