اسم الكاتب : حامد عبد الصمد
هل سألت نفسك ذات مرة وأنت تخوض جدلا ساخنا حول قضية ما، لماذا تنتفض عروقك وترتفع نبرة صوتك وأنت تحاول إثبات وجهة نظرك، مع أن هذه القضية لا تعنيك بشكل شخصي ولا تستحق منك كل هذا التعصب؟ هل سألت نفسك لماذا يصيبك الغضب الشديد من شريكك في الحوار لمجرد أن رأيه مختلف عن رأيك؟ أنت تحاول أن تسحق حجته وأن تخرس صوته، لأن صوته يراود شكًا بداخلك أنك ربما تكون على خطأ. أنت حينها تحاول أن تخنق هذا الشك بكل الطرق، لأنك لو سمحت لنفسك بالاعتراف أنك مخطئ في هذه القضية، فستفتح على نفسك هويس من الأسئلة الأخرى الأكثر أهمية ووجودية بالنسبة لك مثل: هل كنت مخطئا في آراء وقرارات مصيرية أخرى؟ هل اخترت العمل الخطأ والمكان الخطأ للعيش، هل اخترت شريك الحياة الخطأ؟ هل ديني هو الدين الخطأ؟ باختصار: هل حياتي كلها مبنية على سلسلة من الأخطاء؟ ماذا لو كانت الإجابة على هذه الأسئلة هي: نعم؟ هل يستطيع الإنسان تحمل هذه الإجابة؟ هل سيسمح لمسبحة اليقين أن تنفرط من بين يديه حبة تلو الأخرى؟ وكيف له أن يسترد عمره الذي فقده وهو يدافع عن قراراته الخاطئة؟ الأسهل إذًا هو أن يسترد هذا الشخص يقينه عن طريق التمسك برأيه مهما كان هشا. الحل هو أن يحول رأيه إلى هوية كما حول معتقده من قبل إلى درع واقي لهذه الهوية. وحين يلعب الإنسان مع نفسه هذه اللعبة يمكنك أن تنتظر منه كل قبح وشراسة.
غياب اليقين هو الحالة الطبيعية للإنسان، لأن الحياة متقلبة ولا يمكن التنبؤ بها، ولأن العصر الذي نعيش فيه يمتاز بالسرعة والتغير، ولأننا ضعفاء ومترددون ومسكونون بقلق وخوف أقدم منا بكثير، ولأن الموت يتربص بنا عند كل منحدر وخلف كل باب، ولأن إنسان الكهف المتوجس لا يزال يعيش داخلنا ويذكرنا بكل المخاطر المحدقة بنا. ولكننا نظن أن الاعتراف بالضعف والخوف والشك هزيمة، ودائما ما نبحث عن حصاة تسند خابيتنا حتى لا تسقط وينفضح ضعفنا أمام العالم وأمام أنفسنا. نحن في الحقيقة نحتاج إلى حصاتين لنسند الخابية: نحتاج قضية نؤمن بها دون أن نسمح للمياه الجوفية للشك أن تتسرب إليها، ونحتاج إلى عدو حقيقي أو وهمي نلتهي به عن أنفسنا ونوجه إليه اللوم والغضب ونخلق سيناريوهات وهمية للمواجهة معه وسحقه. هكذا تكون معركتنا خارجية ومسلية، فلا نضطر أن نواجه أكوام القاذورات التي كنسناها تحت سجادة اليقين بداخلنا.
لهذا السبب ظلت الأديان صامدة كل هذه القرون في مواجهة المنطق والعلم، لأنها تتسلح باليقين وتعلم كيف تهش ذباب الشك عن رؤوس المؤمنين بها عن طريق الخوف والشعور بالذنب. وحتى في المجتمعات التي لم يعد الدين يلعب دورا رئيسيا فيها اخترع الناس ديانات بديلة في شكل أيديولوجيات سياسية كبرى أو قضايا مصيرية أو حتى أندية لكرة القدم تعيد للإنسان ذكريات حياة الكهوف والقبائل البدائية.
العالم كله مهووس بفكرة الخلاص والأمان: خلاص الذات وخلاص الوطن وخلاص العقيدة وخلاص البيئة وخلاص الدايت وخلاص الجيم وخلاص الفن. شركات التأمين تعيش من قلق الإنسان وخوفه من التغيير فتبيع له تأمين صحي، تأمين معاشات، تأمين بطالة، تأمين إصابة عمل، تأمين تقاعد، تأمين سيارة، تأمين أثاث المنزل، بل إن هناك بوليصة تأمين اسمها “تأمين حياة”. ولعلها ستكون فكرة بيزنس رائعة لو عرضت شركات التأمين بوليصة “تأمين رأي” حتى يظل الإنسان على يقين أن رأيه دائما على صواب، ولو حدث وأخطأ تعوضه شركة التأمين عن ذلك.
العالم كله يظن أن اليقين هو السبيل الوحيد للأمان والخلاص. ولكن اليقين كان ولا يزال وسيبقى مصنع القلق والصراعات الأول. لأن يقينك سيف يستفز سيف الآخر. اليقين فعل من أفعال العنف. لا سبيل إلا أن نعترف بمحدوديتنا كبشر وأن نسامح أنفسنا على كل ما فينا من جهل وخوف وشك وهشاشة وخبث. لا سبيل إلا أن نسد الباب في وجه من يقولون لنا إن الحقيقة مسطورة في هذا الكتاب أو في ذاك الدين أو عند هذا الفيلسوف، لأن اليقين قاتل متسلسل، وكل جريمة قتل كانت بالأساس فكرة استعصت على الشك.
السلام لا يعني غياب الصراعات، ولكن تقنين الصراعات بحيث تحدث بشكل حضاري دون سحق الآخر. والتوافق لا يعني توحيد الآراء، ولكن السماح للآراء والأفكار أن تتطور عن طريق التنافس وحرية الكلمة، فيكون البقاء للفكرة الأفضل. والأمان لا يعني غياب الخوف، بل السماح لهذا الخوف بأن يأخذ حيزا من تفكيرنا ومشاعرنا دون أن يحتل رؤوسنا ووجداننا إلى الأبد. الحاجة هي أم الاختراعات، والخوف والقلق والشك يمكنهم أن يكونوا محفزات للتغيير والابداع لو تعاملنا معهم بوعي ومرونة، ولكن يمكنهم أيضا أن يصيبونا بالشلل والبلادة حين نبيعهم بيقين سريع ورخيص. اليقين يعني الثبات، والحياة تعني الحركة والتدفق والتغيير المستمر.. الحياة تعني أن نتعامل مع كل يوم وكل موقف ورأي جديد بجدية كما نتعامل مع كل وجبة طعام بجدية. أنت لست رأيك ولا عقيدتك ولا أفكارك، ولا حتى الخبرات التي عشتها في حياتك. أنت الشاهد على كل ذلك. أنت الدروس التي تعلمتها من كل ذلك. أنت من بقيت بعد ذهاب كل ذلك. أنت البحر كله ولست مجرد موجة من موجاته. أنت الحقل كله، تموت كل يوم فيك سنابل قمح وتحيا أخرى، فلماذا تُحكم قبضتك على حبة واحدة وتسميها هويتك؟