نوفمبر 21, 2024

يبدأ الوعيُ بالانتشار حين تكون هناك ثقافةٌ مجتمعيةٌ قابلةٌ للتطوّر، مثلما تبدأ الثقافةُ بالانتشار حين يكون هناك وعي بأهمية الحراك الثقافي.

ولذا فإن الأمم الحيّة هي التي تنتج الثقافةَ بوعي متحرّكٍ متقدّمٍ مستندٍ إلى ثقافةٍ مجتمعيةٍ قادرة على ولوج الحراك بأهميةِ ما يحتاجه المجتمع. ولأن الوعيَ ليس كونه كلمة “تعبّر عن حالة عقلية يكون فيها العقل بحالة إدراك وعلى تواصل مباشر مع محيطه الخارجي عن طريق منافذ الوعي التي تتمثل عادة بحواس الإنسان الخمس” بل إن الوعي هو الشعور بأهمية أن تكون الثقافة منطلقاً لبناء الإنسان من خلال تماسك العقل في نقطة العاطفة، لأن الكثير من الحراك الذي تحاول الشعوب بناء أسسه ينطلقُ من أساسٍ عاطفيٍّ وبالتالي لا تترتّب عليه أيّ منظومةٍ قابلةٍ للثبات أولاً ومن ثم التطّور، لأن العاطفة سرعان ما تتبخّر حدودها وتتجمّد هواجسها وتضمحلّ قدرتها وتتلاشى نتائجها الآنية وتطفح إلى السطح المعاكس لها أثناء ظهورها، فيحدث الشقاقُ والانشقاقُ والاختلافُ والخلافُ وربما تتحوّل عناصر المجتمع إلى لحظةِ عداءٍ لتعود كرة الكراهيةِ من جديد ومن ثم بدْء دوران البحث عن وعيٍ من أجل حراكٍ ثقافيٍ جديد.

ومن هنا فإن الوعيَ يعني العقل الذي يمكن له إدراك ما يحيطهُ من مستخلصاته ومن نتائجِ الحراك ومن ديمومة الحياةِ ومن أهمية المواصلة ومن ماهية الاستقرار ومن صناعة الجمال.

وبالمحصلةِ كما يقول المختصون يكون الوعي ما يكون لدى الإنسان من أفكارٍ ووجهاتِ نظرٍ ومفاهيمَ عن الحياة والطبيعةٍ من حوله. ولهذا فان السؤال الذي يبرز هو ما هي حدود العقل الذي يستمرئ الآن في عالمنا وخاصة العالمين العربي والإسلامي. وما هي حدود الممكنات العقلية التي تمنح الحكمة قدرة على إزاحة ما هو غير الحكمة التي قد ترتبط بالتهور وفرض القوة والهيمنة وأبشعها القتل الذي هيمن على خاصية العقل الذي لا يبحث عن تأويلٍ للممكن، بل الاحتكام للمطلق الميتافيزيقي الغيبي الذي تكوّمت قصديّته وتأويلاته في عقولٍ محدّدةٍ انتهجت إمكانية إزاحة الفعل الثقافي الواعي المناقش إلى منطقة التوافق والانصياع والتنفيذ ومن ثم ابتكار سياسة الترهيب والترعيب إن صحّ الوصف والتي تأخذ من مقولة إن لم تكن معي لا تستحق الحياة كونك تؤثّر بفعلك الثقافي على ما نريد تحقيقه من الأفكار المرتبطة بالميتافيزيقا والخارقة وغير القادرة على مناقشتها من قبل المريدين الذين انساقوا لغياب التأثير الثقافي الواعي واندحار الوعي الثقافي من خارطة عقولهم، وبالتالي أصبحوا أدوات لتطبيق مبدأ الإزاحة حتى لو كان بالقتل.

لذا فإن محاربة الثقافة تعني محاربة وقود الوعي. فلا وعي بلا ثقافةٍ ولا ثقافةَ بلا حريّةٍ ومجتمعٍ قادرٍ على إنتاج الحراك الثقافي.

بمعنى أن هناك مقدماتٍ كثيرةٍ لكي يكون الفعلُ الثقافي فعلاً مغيّرٍاً لجمودِ العقل والوعي. وكذلك هو فعلٌ منتجٍ لتحريك المجتمع نحو ماهيةِ الوعي المنطلق من أساس تحرير العقل من هيمنة الآخر العاطفي.

ولأن الثقافة “تعني صقل النفس والمنطق والفطانة” وهي لا تعد مجموعة من الأفكار فحسب، ولكنها نظرية في السلوك مما يساعد على رسم طريق الحياة إجمالا. وهو ما نعنيه أن الثقافةَ لا تعني إنتاجا أدبياً فحسب بل هي نتاج تجاربٍ عميقةٍ في الوعي. لذا فإن محنة الثقافة هي غياب الوعي ومحنة الوعي هي غيابُ الثقافة عن منهجية المجتمع الذي ينطلق أساساً من جماعات تقود الوعي بعقلية التقدّم لا بعقليةِ استغلال العقلِ وإخماد جذوته بعاطفةٍ لن تبقي حقلاً أخضرَ، لأن كلّ الأشياء تتحوّل بعد وقتٍ إلى بيدر وقودٍ لصراعاتٍ تُميت معها الحراك الثقافي الذي يتراجع أمام قوّة القبضة. ولنا في المجتمعات التي يحكمها الطغاة تطبيقا لمحاربة الثقافة وقتل الوعي أو على الأقل يبقى خامداً كلّما خمدت الثقافةُ , وتكون الثقافةُ تعيش في سباتٍ كلّما هوى الوعي إلى وديانٍ سحيقةٍ مظلمة. وعلينا أن نجعل العقلَ واعياً وأن نجعلَ الثقافةَ سلاحَ الوعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *