اسم الكاتب : لمياء الناجي
حاتم إدار اللامعنى وحنينه إلى نوتيلا، صاحب القُصة المضفورة وقرده، الفن التطبيلي السداسي.. نفذ رصيدي.. أنتِ لستِ مثلهم.. كانت البداية عند هذا السؤال: لماذا كلّ تلك البشاعة المفاجئة في ما يُدَّعى كونه “فناً” مغربياً؟ هل يؤمن من يقف وراءه من منتجين ومن يقدمه من مؤدين بمعنىً ما لهذا “الفن”؟
ثم.. انهالت الأسئلة تلو الأخرى.. هل يعكس هذا الفنّ حقيقة المجتمع أم أنه هو ذاته سعي لصناعة مجتمع معين؟ أين هوية المجتمع المغربي من هذا العبث؟ هل هذا استهداف لتلك الهوية؟ كيف ولماذا يتحول المغرب تدريجيا وبسرعة هائلة إلى النموذج المصري بتفاصيله؟ ما هي خصوصيات هذا النموذج وكيف تمّ صنعه ولماذا؟ وماذا عن الحرب.. ماذا عن ذكرى العراق.. ماذا عن النموذج التركي.. ما علاقة العولمة كمشروع والمغالطة الكامنة في تسميته “ظاهرة”.. ما علاقة الإعلام كوسيلة.. ووجوهه كفاعلين.. والانظمة الحاكمة كمحرك.. والقوى العظمى كمستفيد؟
لعلّ هناك إجابة مشتركة لكل هذه الأسئلة.. إنّها عملية سطوٍ على هويتي وهويتك.
فلنبدأ بالخلاصة..
لديك هوية، إذن أنت موجود.. وقوي.. وكلما كان لهويتك مجال تأثير أكبر كلما كنتَ أقوى. حين تنجح منظومة قيمية معينة في الانتشار، فإن صاحبها سيصير الأقوى، سيصير المسيطر والسائد.. وسيقبض على وسائل البقاء ما استطاع الإبقاء على هويته سائدة. ولأن الإنسان في تأمله للتاريخ يهدف إلى “الكشف عن الثابت من خلال المتغير العابر” كما يفيد العروي في كتابه “ثقافتنا في ضوء التاريخ”، فإنه من خلال دراسته لأحداث التاريخ العابرة يستخلص عمليا السنن والقواعد التي تنقله خطوات إلى الأمام بأسرع وقت وأقل تكلفة وأقوى فاعلية، وذلك باستخدام أقوى الوسائل التي أثبت التاريخ نجاعتها..
إنّ الدارس للتاريخ الإنساني، سيستخلص في تأملّه لتاريخ الأنظمة والامبراطوريات، أن تلك التي سادت وبقيت زمنا طويلا ليست فقط تلك التي توفرت على القوة العسكرية، بل تلك التي كان لها هوية. حتى الجيش الذي يحارب انتماءً لهوية يؤمن بها، أقوى بمراحل كبيرة من الجيش الذي يعدمها. وعليه، فإنّ أهم ما تعلمه الإنسان من عصور الاستعمار العسكري، هو أنّ هناك استعمارا أقوى بأضعاف مضاعفة، وأوسع تأثيراً وأضمن للبقاء وربما أقل تكلفة. هو الاستعمار الثقافي.. هكذا، فإن الأنظمة التي لديها أهداف توسعية، تركز اليوم بشكل أول على بناء الهوية لدى مواطنيها أولا، ثم تسعى إلى إخراج تلك الهوية من حدود أرضها إلى مساحات أشسع. لأن من ينجح أكثر في تسويق هويته سيكون الأقوى.
أما الاستعمار العسكري.. فكم يكلف يا ترى القوى المستعمرة؟ أليس مجال تأثيره محدودا بالأراضي التي ينجح المستعمر في السيطرة عليها؟ أليست الاستفادة منه محدودة أيضاً باستغلال الخيرات الطبيعية للأرض المستعمرة للاستهلاك أو جني الثروة؟ لقد اكتشف الإنسان مع الوقت أنّ الأولى به ليس جني الثروة، بل البحث عن وسائل السيادة وبالتالي الثروة الدائمة. لذلك.. فإن الاستعمار العسكري أثبت محدوديته ولم يكن ناجعا بعد هذا الاكتشاف، فانتهى عهده. الاستعمار الثقافي أنجع لأنك حين تسود ثقافيا، تسيطر على كلّ شيء.
لماذا الهوية قوة؟ وما هي الهوية القوية؟ وما هي وسائل بناء الهوية وبالتالي سبل توسيع مجالها؟ وكيف يمكن أن تسود هوية على حساب هوية أخرى؟ كلها أسئلة تطرح نفسها تلقائيا في حديثنا عن الهوية كقوة. إن الإجابة عن سؤال ماهية الهوية والتفصيل والتشعب فيه سيفضي بنا إلى صفحات وصفحات.. لذلك أجيب فقط عن سؤال “لماذا الهوية قوة؟” باختصار شديد (قاصر بالضرورة) بما يتقاطع مع موضوعنا. أن تملك هوية، يعني أنك امتلكت فكراً.. لغة.. ثقافة.. حضارة.. أنك كائن منتج. أنت حين تنتج فكراً، فإنك ستكسب سلطة.. تتمثل في تأثيرك على كلّ من يتبنى فكرك. ومن خلال هذه السلطة يمكنك فعلُ الكثير.. إنّ ما يبدأ بفكرة يمكنه أن يتحول إلى امبراطورية قائمة فوق أرض مترامية الأطراف على سطح الكوكب.
حين يتم إنتاج فكرٍ معين، ثمّ يتبنى عدد من الأفراد قيماً مستخلصة من هذا الفكر، يتحول هذا إلى منظومة قيمية وهوية قائمة بذاتها في تفاصيل حياة هؤلاء الأفراد، تترجم إلى خيارات واقعية تتمثل في نمط ينظمهم، يتضمن نظاما سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً.. ينظمهم داخلياً ثمّ يحدد علاقتهم بمن هو خارج هذه المجموعة.. إلخ.
هكذا.. فإن امتلاكك لهوية، يعني أنك موجود.. وكونك موجوداً يعني أنّ لديك فرصة في أن تسود إن أنت رغبت بذلك. قديماً.. حين كان الإنسان محدوداً بمحدودية قدرته إلاّ على بلوغ ما يمكن أن يصل إليه بجسمه المادي.. كان يكتفي بأن يقام النظام التي يتبناه فوق بقعة من الأرض، يعيش فوقها مجموعة نظمت نفسها بعقد بُني على فكرٍ معين وتُرجم إلى خيارات تنظيمية لهذه المجموعة سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا.. وظلّ يتوسع كلّما استطاعت هذه الهوية أن تسود وتضم عدداً أكبر من الأفراد في البقاع المجاورة فيضمون أرضهم إلى هذه البقعة..
ثمّ انتقل بعد ذلك إلى عصر الاستعمار بالقوة بعد أن صنع الأسلحة.. فصار يتوسع على حساب من هو أضعف ويستولي على أرضه.. ثمّ صار اليوم، بعد أن أتاحت له وسائل التواصل الغير محدودة بالمكان بعد الثورة التكنولوجية، يسود فكريا. فصار يقيم إمبراطورتيه في مجال غير محدود من الأرض، بعد أن صار التوسع الجغرافي متجاوزاً، وبعد أن اكتشف أنّ الاستعمار الفكري هو أنجع وسيلة للتوسع اللامحدود. فصار يستهدف الوعي الإنساني، ويقدم له هوية عالمية تتماشى مع مصالحه.
هكذا، فإن الهوية هي القوة وهي المناعة في نفس الوقت. فأنت إن امتلكت هوية منيعة ومستقلة، كانت لك مناعة ضد ما ينافيها من قيم تقدم لك. وفي نفس الوقت.. فإنك إن استطعت إقناع الآخرين أو بالأحرى نجحت في تمرير قيمك، تكون قد صنعت وعيهم على نحوٍ يتلاءم ومصالحك. هكذا.. فمن يستطيع صناعة وعي أكبر عدد من الناس، يستهلكون ويتبنون المنظومة القيمية التي يقدمها لهم وتتماشى مع هدفيه في أن يسود ويبقى.
هنا.. يأتي السؤال الثاني.. في وجود هويات كثيرة.. من يسود؟
إنّ طبيعة الكوكب الذي نعيش فيه، تنتج تنوعا ثقافيا هائلاً في المجتمعات الإنسانية التي تعيش فوقه. ذلك أنّ التنوع الجغرافي ينتج تلقائياً تنوعاً ثقافيا، لأن الأرض تصنع أولى معالم الهوية الثقافية من خلال تحديدها لأنماط عيش الإنسان فوقها. هكذا كانت طبيعة الأمور قبل أن يفضي التطور البشري إلى مرحلة يرتبط فيها أقصى شمال الأرض بأقصى جنوبها، في “ظاهرة” تسمى العولمة. هذه الظاهرة التي سميت في مغالطة مقصودة كذلك.. فهي ليست ظاهرة بل بالأحرى مشروع.. شوهت طبيعة الكوكب التي هي التنوع والاختلاف، حيث تسعى بشكل حثيث إلى إلغاء هذا الأخير خدمة لمصالح القوى العظمى. العولمة هي أهم مكاسب تلك القوى في هذا العصر، فهي تعني توحيد العالم ثقافيا وقيميا، لأجل هدفٍ وحيد هو أن تصير هذه القوى العظمى أعظم، وهو ما يتيحه بشكل مباشر سيطرة المنظومات القيمية لهذه القوى. حيث تزرع الهوية والوعي الذي يناسب توجهاتها للقاء والتوسع.
لكن وجود هويات قوية كثيرة، يعني وجود أنظمة أولا لها مناعة، ثمّ كونها أنظمة منافسة. هكذا، فوجودُ المنافسة يعني أن توزيع القوة والثروة سيخضع لموازين القوى. ولأن الهوية هي القوة التي تنبني عليها كلّ قوة كما أسلفت، فإن من يمتلك الوسائل لنشر قيمه، سيكون الأقوى، وبالتالي الأقدر على تحديد شكل التوزيع للسلطة والثروة بما يمنحه الحصة الأهم. كما أن وجود التنافس، يدع الاحتمالات مفتوحة في أن تنقلب موازين القوى في أيّ لحظة.. فإن قدرة البشر على الخلق مبهرة، لذلك فثبات الحال من المحال، لأن كلّ لحظة تحمل إنتاجات جديدة تضيف قوة جديدة لمن كان السباق إليها.
هكذا، ولأجل حصد أكبر المكاسب الممكنة، كان حتمياً أن يصير رهان القوى القائمة التي سبقت إلى امتلاك الوسائل، هو تقليل عدد المتنافسين، أولاً عن طريق إزاحة ما يمكن إزاحته وثانياً من خلال وأد كلّ محاولات البناء الجديدة. ثمّ بعد هذا، تواجه القوى القائمة بعضها دون أن تصطدم مباشرة، عن طريق محاولة كلّ منها أن تسود أكثر وتضاعف انتشارها وقوتها. ولا يخفى عن أحد أن البحث العلمي هو أقوى وسيلة بين يدي هذه القوى.