اسم الكاتب : اسماعيل نوري الربيعي
التعليم في العهد العثماني
احتلت المدارس الدينية أهمية ورعاية من بعض الولاة ، فخلال حكم آل الجليلي في الموصل ( 1726-1824) برز الاهتمام ، إلا أن الظاهرة البارزة في الحياة التعليمية في العراق والتي بقيت ملازمة له حتى النصف الأول من القرن العشرين ، هي انتشار الكتاتيب ، والتي تستند إلى تعليم الصغار بعض آيات من سور الكتاب الحكيم ، بطريقة ” التهجأة ” وغالباً ما يعمد الملا إلى استخدام القوة والعقوبات الشديدة مع التلاميذ الصغار ، ولم تكن تلك الطريقة عملية بالمرة ، حتى أن التلاميذ كانوا يحفظون عن ظهر قلب ليس إلا أما القراءة والكتابة فكانت عملية تكاد تكون مستحيلة عليهم لتخلف الطريقة وإبقائها على النهج القديم دون عناية أو تطوير .
بقيت أحوال التعليم تعاني من الركود وضعف المستوى إلا أن قدوم الوالي مدحت باشا حرك الأوضاع من خلال الإجراءات الإصلاحية التي نشط بها في مختلف مرافق الحياة العامة .
وكانت للتعليم وإفتتاح المدارس الحديثة حصة وافية منها إلا أنه من المفيد الإشارة إلى أن العراق قد شهد ظهور المدارس التي تعتمد الأسس الحديثة بالنسبة للأقليات الدينية حيث ظهرت مدرسة الآباء الكرمليين عام 1721 والمدرسة الكلدانية عام 1843 ، ومدارس الاتحاد الإسرائيلي 1865.وأقدم مدحت باشا على افتتاح أربع مدارس : المدرسة الرشدية المدنية ، والمدرسة الرشدية العسكرية ، والمدرسة الإعدادية العسكرية ، ومدرسة الفنون والصنائع ، واعتمدت هذه المدارس التركية لغة رسمية لها ، وقد تلقى طلبة المدرسة الرشدية العسكرية تدريباتهم في مواد متنوعة ، حفلت بالغزارة والجدية ، مثل الجغرافية والتاريخ والحساب والخط واللغات الأجنبية ، وكانت المدرسة الأولى التي تم تأسيسها عام 1869 المدرسة الرشدية العسكرية ، والتي تم فيها استقبال الطلبة الذين أنهوا تعليمهم في الكتاتيب، وكان من الطبيعي أن تحظى تلك المدرسة بإقبال واسع من قبل الطلبة ، لا سيما وأنها تتجه نحو تخريج ضباط عراقيين ، وما يمكن أن يناله المتخرج من مكانة أجتماعية وفرصة وظيفية مميزة تكفل له التدرج والتفوق في مجال ، ينال الاحترام والتقدير من جميع الفئات الاجتماعية ، ونتيجة لنجاح التجربة ، عمد إلى تعميمها في مدن العراق الأخرى حيث شهدت مدينة كركوك إفتتاح مدرسة رشدية عسكرية عام 1870، تم فيها قبول ثمانين طالباً ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل شمل التوسع والاهتمام،بتطوير تلك المدارس ، وإفتتاح مدارس بمستوى أرفع ، حيث تم إفتتاح مكتب إعدادي رشدي عام 1871 ، لإعداد الطلبة المتخرجين منه للدخول في الكلية العسكرية في استنابول وقد بلغ عدد المقبولين في تلك المدرسة خمسة وعشرين طالباً،ولم يقف الأمر عند الاهتمام بإفتتاح المدارس العسكرية بل تم إفتتاح مدرسة رشدية مدنية عام 1870، الغاية منها الحصول على موظفين إداريين ، إلا أن الإقبال على تلك المدرسة لم يكن بمستوى الاتجاه نحو المدارس العسكرية ، حيث اصطدمت بعدة عوائق كان أبرزها ، لغة الدراسة التركية ، وعدم ثقة العراقيين بالجهاز التركي الإداري ، حيث لم يعتقد الجمهور بأن المتخرجين من تلك المدرسة سوف ينالون فرصاً متساوية أو متناسبة في التعيين، حيث تسود المحسوبية والوجاهة على حساب الكفاءة وعلى هذا تعرض التعليم المدني في العراق إلى ضربة في الصميم ، حتى أنه بقي متخلفاً عن مستوى التعليم في الولايات العثمانية الأخرى.
وللحصول على الأيدي الفنية الماهرة والمدربة التي كان يشكو العراق النقص الواضح فيها ، تم إفتتاح مدرسة الصنائع عام 1869 حيث قبل فيها مائة وأربعة وأربعون طالباً ، أغلبهم من الأيتام والفقراء ، مما كان له أبلغ الأثر في إحجام الفئات الاجتماعية الأخرى من إنخراط أبنائهم في تلك المدارس وكانت أبرز أقسام المدرسة هي البرادة والحدادة والخراطة والسباكة والنجارة والخياطة وصناعة الأحذية بالإضافة إلى تعليمهم دروس في التاريخ والرياضيات والرسم الميكانيكي والدين واللغات الأجنبية ، وقد اعتمدت المدرسة في تدريب طلبتها على الحرفيين ذوي الخبرة والمهارة من أبناء البلد ، وعلى الرغم من العناية التي نالها التعليم خلال ولاية مدحت باشا وإفتتاح عدد من المدارس إلا أن التعليم الابتدائي عانى من الإهمال مما كان له صداه العميق لدى الجمهور الذي طالب بضرورة العناية بالتعليم الابتدائي الذي يمثل الأساس الذي ينطلق منه الطالب لتلقي العلوم والمعارف المختلة ، وقد بقي هذا الصنف من التعليم يعاني من الإهمال حتى عام 1889 ، حيث شرعت الحكومة بتأسيس أربع مدارس ابتدائية هي الحميدية ، جديد حسن باشا ، العثمانية ، الكرخ .
الفترة الدستورية
بغداد في العصر العثماني
انطلاقات الوعي الذي ساد بعد بروز الحياة الدستورية وانتشار مفاهيم الإصلاح والتغيير ، برزت المطالبة بضرورة العناية بقطاع التعليم ، لا سيما وان المجتمع بدأ يعي جدوى التعليم وأهمية انخراط أبنائه في المدارس للحصول على مستقبل أفضل ، حتى أن أفتتاح المدارس كانت مناسبة تحظى برعاية واهتمام الوجهاء والولادة، فخلال افتتاح كلية العراق الإسلامية “كلية الأعظمية”في شهر حزيران 1911 ، نظمت حفلة كبيرة وصفتها مجلة لغة العرب :” وكان قد حضر حفلة ترقيتها جمع غفير من أكابر البلدة ورجالها الأماثل من عسكريين وملكيين ومدنيين” .. وعلى الرغم من كل الملاحظات التي يمكن أن تؤشر على نظام التعليم العثماني ، إلا أن كل التطورات التي برزت في العهد الدستوري ، لم تكن لتحيد عن القانون الذي أصدرته الدولة العثمانية ، والذي أطلقت عليه قانون المعارف العام ” معارف عمومية نظامنامة سي ” في 20 أيلول 1869 والاستناد عليه في تنظيم شؤون المعارف في الدولة العثمانية وعلى مختلف المراحل الدراسية ابتدائي ، رشدي ، إعدادي.
ولحرص جمعية الاتحاد والترقي على إقناع الجميع بأن حالة التحديث والتوجه نحو الإصلاح في مختلف القطاعات أشارت في شهر أيلول 1909 إلى أن نصيب التعليم سيحظى برعاية واهتمام كبيرين على اعتبار أنه الركيزة التي يمكن أن يتم من خلالها ، توثيق عرى التعاون والاتحاد مع مختلف الأقوام التي تعيش تحت كنف الدولة العثمانية .
حفزت الأوضاع الجديدة حماس الوجهاء وأصحاب الأموال للتبرع بالمال بغية تأسيس المدارس ، حيث تبرع أهالي الهويدر من قرى بغداد بمبلغ 7715 قرشاً ، لتأسيس مكتب أهالي يساهم في تعليم أبنائهم العلوم والمعارف ، أما الإنجازات الحكومية فقد برزت في حيز العمل حيث أقدم مجلس المعارف في الأستانة على تقديم الأموال لتأسيس المدارس ودور العلم، إذ تم رصد مبلغ 10.600 ليرة لتأسيس دار المعلمين في بغداد والتي أحتفل بوضع حجر الأساس لها في 8 كانون الأول 1911 فيما تم إنفاق 35 ألف قرش على طلبة المكتب الإعدادي الملكي في بغداد .
أن المناخ الدستوري الذي حاول الاتحاديون إشاعته ، جعل من مجلس المبعوثان منبراً للتصريح عن المطالب ، حيث عمد بعض النواب العراقيين إلى المطالبة بوجوب العناية بإفتتاح المدارس والأهتمام بأوضاع الطلبة . فيما دعت الصحف إلى ضرورة الالتفات إلى اللغة العربية وأهمية أن تكون اللغة الرسمية في التدريس ، وعبرت بحنق إلى العقبات التي تضعها بعض العناصر الرجعية ،بإشارتها إلى الإعاقة التي تعرض لها برنامج مدرسة الأعظمية العالية ، وضياع الجهود التي بذلها نعمان أفندي الأعظمي صاحب مجلة (تنوير الأفكار) ، حيث قالت مجلة لغة العرب : ” خفافيش العلم ووطاويطه وأعداء النور والعمران والوطن أخذوا يفتلون في الذورة والغارب”، ولم تقف العقبات التي واجهها التعليم في العهد الدستوري ، على مواقف العناصر المحافظة بل أن السلطة العثمانية ممثلة بالوالي جمال بك حاولت فرض نفسها على سير المعارف ، الذي راح يبذل الجهود الحثيثة نحو إغلاق “مدرسة الحقوق ” ، التي تأسست في بغداد عام 1908إلا أنه عدل عن فكرته تلك ، حين وجد التيار العربي القومي الذي رفض الإلغاء وأصر على استمرار المدرسة .
يقدم ” ناجي شوكت”رئيس وزراء الحكومة العراقية الأسبق وصفاً للأوضاع الدراسية أبان العهد الدستوري مشيراً إلى أن مدة الدراسة الابتدائية كانت ثلاث سنوات ، أما مدة الدراسة في الإعدادي الملكي فهي سبع سنوات ، منها ثلاث سنوات للرشدية وسنتان للإعدادي الأول وسنتان للإعدادي الثاني ، وكيف أن الطلبة قد فهموا معنى “المشروطية” بالتمرد على الأنظمة وعدم الألتزام بها ، حين بادروا إلى تنظيم مظاهرة داخل المدرسة طالبوا فيها بإقصاء المعاون الأول لمدير المدرسة من منصبه ، والواقع ان التعليم كانت له خصوصيته ، الشديدة الاحترام في نفسية المجتمع العراقي ، إذ كان ينظر للطالب باحترام تقدير ، حتى أن الطلبة المسافرين لإنهاء علومهم في الاستانة ، كانوا يودعون بمراسيم احتفالية إذ أشارت جريدة ” صدى بابل ” :”سافر طلبة المكتب الإعدادي العسكري من مدينة دار السلام إلى العاصمة لإنهاء دروسهم ، شيعتهم ثلة من العسكر وجمع غفير من الأهالي إلى ظاهر المدينة تتقدمهم الموسيقى ، وكان للطلاب دور واضح على الصعيد الاجتماعي ، لا سيما في مجال مساعدة العوائل المعوزة والأيتام ، فعلى سبيل المثال قامت مدرسة الإمام الأعظم ومدرسة التربية الإسلامية بعقد اجتماع شعبي من أجل جمع التبرعات المالية لمساعدة الأيتام والأرامل .
اهتبل المنورون العراقيون الفسحة التي منحتها إياهم الفترة الدستورية فعمدوا إلى تأسيس مدارس حديثة ، وضعت في مناهجها التركيز على التراث العربي واستخدام اللغة العربية في التدريس . حيث عمد سليمان فيضي إلى تأسيس مدرسة “تذكار الحرية” في مدينة البصرة في 27 تشرين ثاني 1908، فيما عمدت مجموعة من مثقفي بغداد منهم جعفر أبو التمن ورؤوف القطان ومهدي الخياط وعلي البازركان إلى تأسيس مدرسة الترقي الجعفري في 12 كانون الأول 1908.وقد ركز المشرفون على سير التدريسات فيها على أهمية فتح الآفاق وتوسيع مجالات الإطلاع بالنسبة للناشئة على العلوم الحديثة واللغات الأجنبية ليتسنى لهم الانصهار في بوتقة المتغيرات التي كانت تبرز بقوة.
عدد المعلمين | عدد التلاميذ | العدد | نوع المدرسة |
321 | 7128 | 160 | ابتدائية |
49 | 349 | 4 | ثانوية |
22 | – | 3 | دار المعلمين |
– | – | 1 | مدرسة صناعية |
10 | 244 | 1 | مدرسة عالية كلية الحقوق |
معاهد التعليم الرسمية في العراق أبان العهد العثماني أوائل الحرب العالمية الأولى
التعليم في العهد الملكي
فترةالاحتلال البريطاني
كان البريطانيون يعون جيداً تخلف المعارف وركود فعالياتها إذا ما قيست بأوضاع التعليم في بلاد الشام ، وعليه عملت الإدارة البريطانية على فتح عدد من المدارس في المدن البارزة ، بالإضافة إلى التحسينات الطفيفة التي ظهرت في العناية بالتدريسات ، لا سيما ما نالته مدرسة الحقوق حيث جعلت لغة التدريس الرسمية العربية بدلاً من التركية ، ولمواجهة النقص في عدد المعلمين ، تم استقدام عدد من المعلمين العرب من مصر وبلاد الشام ونتيجة لإرتباك أوضاع التعليم ، فإن الإدارة البريطانية عمدت إلى الاستفادة من نظام التعليم المصري ، ونقله إلى العراق للعمل به ، حيث تعرضت أوضاع التعليم خلال سنوات الحرب العالمية الأولى إلى الإرتباك والتوقف بسبب الأعمال الحربية ، وكان لدخول القوات البريطانية عام 1917 لبغداد الأثر في إعادة انتظام التدريسات وقد شمل هذا الأثر مختلف المدارس مع تحديد الصلاحيات للجهات المسؤولة عن إدارة شؤون تلك المدارس فعلى سبيل المثال تم استئناف الدراسة في كلية الإمام الأعظم وهي كلية دينية في العام 1917 مع ربط شؤونها بدائرة الأوقاف .
وقد واجهت دائرة المعارف معوقات وصعوبات بالغة تمثلت في قلة المعلمين وصعوبة الحصول على الكتب المنهجية التي انقطع طريق وصولها من بيروت بسبب ظروف الحرب ، ليكون الاتجاه نحو مصر للحصول على الكتب ، وتوجهت الإدارة نحو العناية بالأبنية المدرسة ، مع استقبال تبرعات الوجهاء وتشجيعها ، إلا أن هذا النشاط كان محدوداً وضئيلاً حتى أن مناطق عديدة من العراق بقيت من دون مدارس فيما أعلن العديد من السكان عن عدم استعدادهم لدفع الأموال من جيوبهم من أجل بناء المدارس ، وكانت الإدارة البريطانية قد حرصت على تجميل صورتها من خلال التوسع في فتح المدارس ، مع الأخذ بنظر الأعتبار أهمية هذا العمل بالنسبة للمناطق الرئيسية بالإضافة إلى محاولة تجاوز الأخطاء التي وقعوا فيها في الهند التي أهملوا فيها إنشاء المدارس الثانوية ، وكانت المناهج الدراسية التي تم اعتمادها في المدارس الابتدائية قد ركزت على المواضيع ، القراءة ، الكتابة ، الحساب، الجغرافية ، التاريخ،قراءة القرآن وعلوم الدين واللغة الإنكليزية وكان الانطباع السائد بأن التعليم لا يعني سوى القراءة والكتابة وعلى هذا فان اغلب المدارس بقيت تتخبط في الفوضى التي كانت سائدة أبان العهد العثماني ، وعلى الرغم من توجه سلطات الأحتلال لإقرار رؤاها التربوية ، وفرضها على أبناء العراق ، إلا أن عدداً من المنتفعين حاولوا تزييف الأوضاع بدعوى حرص المعارف البريطانية وفضلها في تعليم اللغة العربية وتقديم العون المالي للمدارس ، فيما تابعت الصحافة العراقية أنشطة مديرية المعارف التي كانت تتم ببطء شديد ، بالإضافة إلى رصد الأنشطة والفعاليات لإدارة المدارس حول تشجيع طلبتها .
تميز أسلوب الإدارة الاحتلالية في مجال المعارف ، على عدم الإندفاع نحو التوسع في إفتتاح مدارس جديدة ، انطلاقاً من النقص الواضح في عدد المعلمين والواقع أن هذا الأسلوب ميز طريقة تعاملهم ، أبان فترة الاحتلال الأولى ، حيث بسطت القوات البريطانية نفوذها على البصرة والمناطق الجنوبية خلال سنوات 1914-1917 وكان التوجه نحو إعداد الكوادر التي يمكن الاستفادة منها في الوظائف التي تتطلبها إدارة الاحتلال .
عدد المعلمين | عدد الطلاب | المدرسة |
4 | 85 | البصرة |
4 | 95 | أبو الخصيب |
3 | 35 | الزبير |
3 | 50 | الناصرية |
جدول عن عدد المدارس التي أفتتحتها قوات الأحتلال في المنطقة الجنوبية للفترة 1914-1917.
لم تستطع إدارة الاحتلال بعد دخولها بغداد في11 آذار 1917 ممارسة أسلوبها السابق في المنطقة الجنوبية لاسيما وأن الفئة المثقفة ، كانت تمارس ضغوطها وتعلن عن إرادتها والمتلخصة بضرورة العناية بإفتتاح المدارس .مما حمل القوات البريطانية إلى إفتتاح دار المعلمين في بغداد ، حيث كان القرار أن يكون التدريس فيها على شكل دورات سريعة مدتها ثلاثة أشهر ، ومن أجل مواجهة الأصوات المعارضة قررت السلطات البريطانية الإعلان عن مجلس المعارف ، الذي دعا له كل من محمود شكري الآلوسي ، وعلي الآلوسي ، وجميل صدقي الزهاوي والأب أنستاس ماري الكرملي وحمدي بابان وحتى أيلول 1918 بلغ عدد المدارس الأولية والابتدائية 28 مدرسة بلغ عددها في بغداد 19 أما في البصرة فكانت تسع مدارس.
وعت القوى الوطنية لأهمية المدارس ودورها الفاعل في إيقاظ الشعور الوطني حتى كانت المدرسة الأهلية في بغداد التي تأسست عام 1919 ، مقراً لأغلب أعضاء جمعية حرس الاستقلال ، ولم تختلف عن أداء هذا الدور المدرسة الجعفرية التي حرصت على إثارة المشاعر الوطنية ونبهت إلى ضرورة رفض الاحتلال والمطالبة بالحرية والاستقلال من خلال نشاط طلبتها .
ويضع ساطع الحصري وصفاً للأسس التنظيمية التي قامت عليها المدارس أبان دور الاحتلال العثماني 1917-1921 مشيراً إلى أن مدة الدراسة في المدارس الأولية أربع سنوات لا يتم فيها تدريس اللغة الإنكليزية ، أما المدارس الابتدائية فمدة الدراسة فيها أربع سنوات يتقدمها سنتان أوليتان ،ويبدأ التعليم باللغة الإنكليزية من الصف الأول الأبتدائي .
أثر التعليم في تكوين الفكر السياسي
كان التقرير الصادر عن حالة المعارف في العراق لسنة 1922-1923 قد أشار إلى أن عدد المدارس سنة 1920-1921 ، قد بلغ ثماني وثمانين مدرسة فقط ، وكان عدد المعلمين فيها أربعمائة وستة وثمانين ، أما عدد الطلاب فيها فقد بلغ ثمانية آلاف وواحد .وقد مثلت هذه الإحصائية عموم القطر ، عدا السليمانية ، وقد تطلعت وزارة المعارف في سياستها التعليمية إلى التمييز بين المدارس الأولية والابتدائية ، حيث حاولت تعميم تجربة المدارس الأولية التي تشابه طريقة تدريس “الملا” في القرى الصغيرة ، حيث حددت مدة الدراسة فيها بأربع سنوات . ويتم تدريس مواد اللغة العربية والقراءة والكتابة والحساب والدين ، مع إمكانية إضافة مواد التاريخ والجغرافية وعلم الطبيعة .ولم يحبذ القائمون على شؤون المعارف تدريس اللغة الإنكليزية فيها .وكانت وجهة نظر الوزارة قد ركزت على ضرورة تدريس العلوم الدينية للطلبة ، لاعتبارات تتعلق بفقر البيئة الثقافي ، لا سيما وأن أغلب الأمهات يعانين من الأمية مما ينعكس أثره على نشوء الطفل .وكان الطموح يتمثل في الإرتقاء بالمدارس الأولية إلى مستوى المدارس الأبتدائية ، حيث قرن المشرفون بحصول الإناث على التعليم ، ليكن قادرات على تقديم المعلومات لأبنائهن ، مما يجعل الحاجة إلى تلك المدارس منتفية .أما والحال التي عليها المرأة العراقية من جهل مطبق بالقراءة والكتابة والمعلومات العامة فأن المدارس الابتدائية الحقيقية هي في الوقت الحاضر من الكماليات في القرى الصغيرة.
لقد تم الإبقاء على الدورة الدراسية ، بالنسبة للدراسة الابتدائية وهي ست سنوات مع إضافة دراسة اللغة الإنكليزية في السنتين الأخيرتين ، والأخذ بنظر الاعتبار ضرورة إفتتاح مدارس صناعية في المدن الكبيرة يتم فيها قبول الطلبة من خريجي المدارس الأولية أو الابتدائية ، إنطلاقاً من أهمية تزود الصناعي والحرفي بالمعلومات الأولية ، ليكون قادراً على التمييز والنظر إلى الأمور بعقل متفتح ، أما على صعيد الدراسة الثانوية فقد أعلنت وزارة المعارف عن عجزها في إفتتاح مدارس ثانوية لعموم القطر ، لاعتبارات تتعلق بقلة الأموال ونقص المدرسين وكان الأقتراح أن يصار إلى انتخاب عدد من خريجي المدارس الابتدائية لدخول الثانويات ، مع ضرورة أيجاد نظام مساعدات مالية لإتمام هذه العملية ، وللأهمية التي تنطوي عليها المدارس الثانوية ، كان الحرص شديدا على ضرورة العناية بالمناهج المقدمة للطلبة ، حيث يصار إلى تقسيم الدراسة إلى نصفين الأول : الدراسة المتوسطة حيث يتم فيها تقديم مناهج عامة تشتمل على مختلف العلوم ، أما الثاني : وهي الدراسة الإعدادية ، فلا بد أن يصار إلى التخصص في القسم الأدبي الذي يحوي على اللغة العربية والإنكليزية والتاريخ والجغرافية أو القسم العلمي الذي يتضمن اللغة الإنكليزية والكيمياء والعلوم الطبيعية والرياضيات ، من أجل إعداد طلبة القسم الأدبي لدخول كليات الحقوق واللغات في الجامعة ، أما خريجوا القسم العلمي فأن إعدادهم يتم لدخول كليات الهندسة أو الطب أو الزراعة، وكان التشديد على ضرورة الاهتمام بالدراسات الإنسانية العليا يجب عدم إهمالها ويجب الإصرار على مستوى عال في اللغة العربية وفي التربية العربية وإذا لم تكن هذه لا يوجد شيء في الجامعة يرضى الشبيبة المنورة فيعودون إلى أنفسهم والسياسة.
جدول عن نمو التعليم في العراق
بعثات حكومية | تعليم عالي | ثانوي حكومي | ابتدائي حكومي | |||
الطلبة | الطلبة | تلاميذ | مدارس | تلاميذ | مدارس | السنة |
9 | 65 | 110 | 3 | 8001 | 88 | 20-1921 |
26 | 140 | 583 | 5 | 22712 | 288 | 25-1926 |
32 | 119 | 2082 | 19 | 34513 | 316 | 30-1931 |
67 | 279 | 6138 | 35 | 67593 | 590 | 35-1936 |
إن حالة فرض المادة الدراسة والتخصص فيها ، لم يكن يتم على حساب الدارس ، وعلى الرغم من قلة المتعلمين ، إلا أن الفسحة كانت واسعة لمجالات الاختيار وليس أبلغ من محاولات الإقناع التي كانت تبذل من قبل وزارة المعارف للطلبة المرشحين للبعثات العلمية ، بحيث أن المبادرة تبقى بيد الطالب لاختيار التخصص البديل داخل القطر ، ولا بد من التنويه هنا ، إلى ان حالة تكافؤ الفرص ومنح البعثات العلمية لم تكن بالنموذجية التي قد يتصورها من يطالع مسألة حرية الاختيار في التخصص ، بقدر ما كانت تخضع لاعتبارات أخرى ، متعلقة بالرصيد العائلي ومدى القرب والبعد من أصحاب القرار وتأثير الوجهاء ، ولم تسلم المعاهد العليا من معاملات النكاية بهذه الفئة أو هذا الطرف حتى أن مسألة قبول بعض الطلبة في مدرسة الحقوق على سبيل المثال ، كانت قد خضعت لتدخل اكثر من طرف في سبيل قبول بعض الطلبة فيها حيث حاول الملك فيصل الأول إحداث نوع من الموازنة في حصول أبناء الطوائف العراقية على فرصهم من التعليم العالي والتوظف في المؤسسات العراقية.
إن الإفصاح عن التوجه نحو المعاهد الأكاديمية ، إنما كان يرتكز على محاولة الحصول على المكانة الاجتماعية التي أفرزتها المؤسسات الحكومية التي برزت في أعقاب تأسيس الحكم الوطني ، حتى أن مسألة الحصول على الشهادة في الأغلب ، لم تخرج عن مبررات الحصول على الوظيفة أو الوجاهة الاجتماعية في حين أن القلة المتعلمة التي نهلت من المدارس الدينية والأديرة ، تمكن من فرض نفسها في الواقع الثقافي ، وقيض لها تقديم نتاج ثقافي مميز وليس أبلغ من الإشارة إلى أن أبرز من أهتم بالدراسات التاريخية خلال حقبة ما بين الحربين ، إنما كانت مرجعيته الثقافية والعلمية ، تشير إلى إنخراطه في المدارس الدينية أو من كان مهتماً بالمتابعة ، وأهلته في ذلك موارده الاقتصادية . إلا أن هذا القول لا يعني بأن أتهاماً مبطناً يوجه إلى المدارس العلمية الحديثة ، بقدر ما نحاول الإشارة إلى الأسبقيات التاريخية التي رافقت ظهور نتاج النخبة المثقفة فالكثير من المثقفين وأن هم كانوا يقدمون عطاءهم ونتاجهم الفكري في فترة ما بين الحربين ، إلا أنهم كانوا يعبرون عن المرحلة السابقة لجيل ما قبل الحرب العالمية الأولى حيث بقي مكنونهم المعرفي يخوض في المفاهم التي أكتسبوها في المرحلة السابقة ولم يفدهم أو بالأحرى لم يستفيدوا من فترة التخضرم التي عاشوا في كنفها ، حيث ظلوا مصرين على التمترس بأفكارهم التي ورثوها عن الأجيال السابقة ، مما عطل إمكانية بروزهم ووسمهم بالسكون نتيجة عدم تمكنهم من اللحاق بإيقاع العصر إلا أن هذا الأمر لا يعني أن المرحلة قد تعطلت ، ولم تثمر عن بروز بعض الأسماء التي رفدت الكتابات التاريخية ، ومن مختلف الاتجاهات والمرجعيات حتى أن الإشارة إلى مؤرخ إسلامي مثل محمد حبيب العبيدي أو مؤرخين عبروا عن اتجاهات وطنية من أمثال ، عباس العزاوي ، محمد بهجة الأثري ، أو قوميين مثل ، ساطع الحصري ، أحمد عزت الأعظمي ، علي الجميل ، طه الهاشمي ، سامي شوكت وآخرين غيرهم .. ولعل المرحلة قد أفصحت عن بروز أسماء مؤرخين حصلوا على التخصص الأكاديمي من أمثال مصطفى جواد ، جعفر الخياط، عبد الرحمن البزاز، وهؤلاء وان حاولوا أن يعبروا عن الالتزام بالمنهج الأكاديمي إلا أن هذا لم يمنع من بروز مكوناتهم الفكرية واتجاهاتهم في الطروحات التي قدموها.
الكتابة المسمارية، من اولى جذور الثقافة العراقية
جيل المؤسسات الثقافية
لقد أفرزت التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية جيل المؤسسات الثقافية إذا صح التعبير، ذلك الجيل الذي أخذ عن المؤسسة التعليمية الرسمية التي باركتها ورعتها الدولة العراقية الجديدة ، ولعل أبرز موقف ظهر عن المتعلمين الشباب قد تركز في الموقف الذي أبدوه إزاء مسألة حرية الفكر ، التي فجرتها مناسبة إصدار “أنيس زكريا النصولي ” مدرس التاريخي البيروتي في الثانوية المركزية ببغداد لكتابه الموسوم ” الدولة الأموية في الشام ” عام 1927، وكانت بعض الإرشادات التي أدرجها المؤلف في كتابه قد أثارت حفيظة بعض الأوساط ، نتيجة للطريقة التي قدم بها المؤلف بعض الشخصيات التاريخية ، التي لم تكن تلاقي الموافقة .بحيث أن بعض رجال الدين قد أعربوا عن احتجاجهم ورفضهم للأفكار التي طرحها الكتاب ، وعلى هذا عمدت وزارة المعارف إلى فصل “النصولي” الذي كان يعمل مدرساً من أجل السيطرة على الأمور والحد من تفاقم الأوضاع ، لا سيما أن الحكومة كانت تنظر إلى مسألة التعايش بين الطوائف بأهمية بالغة وتعتبر الوحدة الوطنية من الأولويات ، إلا أن القرار الذي أتخذته الحكومة فجر أمراً لم يكن في الحسبان ، تمثل في احتجاج الطلبة العلني والصريح لقرار وزارة المعارف والطلب منها لرفع هذا الحيف الذي يمثل قمعاً لحرية الفكر ، ولم تجد الوزارة بدا من اعتماد مبدأ الشدة في مواجهة المتحجين ، حيث عمدت إلى فصل مجموعة الطلبة فصلاً نهائياً وهم عبد اللطيف محي الدين ، فائق السامرائي ، حسين جميل ، أنور نجيب ، وطرد سبعة طلاب لمدة شهر واحد وأحد عشر طالباً لمدة أسبوعين ، وفصل الأساتذة عبد الله المشنوق ، جلال زريق ، درويش المقدادي ، يوسف زينل ، وإنزال عقوبة تخفيض الدرجة الوظيفية بيوسف عز الدين الناصري مدير المدرسة وكانت تداعيات القضية قد بلغت شأوا بعيداً إلى الحد الذي تدخل فيها الملك فيصل الأول بصفة شخصية حيث طلب من رئيس مجلس الوزراء إعادة الطلبة المفصولين إلى مقاعدهم الدراسية .
أن دالة الوعي الذي عبر عنها الطلبة الشباب ، كانت تعبيراً واضحاً عن الاتجاهات التي اعتملت في ذهن ووعي الشباب المثقف ، حتى كانت المفاهيم والأفكار ، قد تجسدت في مواقف واضحة تم أتخاذها بجرأة وشجاعة ، لأنها استندت إلى أساس رصين من المفاهيم الواضحة ، فإذا ما كان الطلبة قد عبروا عن موقفهم البارز إزاء قضية حرية الفكر ، فأنهم تمكنوا من التعبير عن موقفهم القومي الصميم إزاء الأخطار المحدقة بالأمة العربية من خلال الوعي بالحركات الأشد تهديداً وخطراً عليها ممثلة بالحركة الصهيونية والتعبير عن هذا الموقف بما تيسر لديهم من إمكانات ، وكانت الفرصة قد واتتهم خلال زيارة الصهيوني البريطاني الفرد موند إلى بغداد في شباط 1928 حيث قاد الطلبة مظاهرات الاحتجاج الصاخبة المنددة بالسياسة البريطانية، التي تحابي الصهاينة على حساب الشعب العربي الفلسطيني ولم يقف الأمر عند حدود التظاهر ، بل عمد الطلبة إلى إغلاق المنافذ المؤدية إلى وسط بغداد أعقبتها اجتماعات واعتصامات شملت أغلب مدن العراق.
وكانت الشعارات التي رفعها المتظاهرون قد عبر بوضوح عن عمق التلاحم القومي الذي يكنه المثقف العراقي وإدراكه الواضح لحقيقة المؤامرة ، التي لم تستهدف شعب فلسطين بقدر ما هي مؤامرة لتهديد كيان العرب القومي بأسره ، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن مظاهرات 8 شباط التي عمت بغداد لم تقتصر على الطلبة فقط أنما ساهم فيها مختلف فئات الشعب العراقي مما يوضح عمق تفاعل الشعب العراقي مع قضية فلسطين والإدراك الشعبي بالخطر الذي تمثله الصهيونية ، وكان الرفض لزيارة موند عاماً وشاملاً ، لأنها كانت تمثل مساً بالمشاعر القومية ، وإذا ما كان الظن لدى بعض الجهات الحكومية التي تضافرت إجراءاتها وتناسقت مع الجهات البريطانية لتسهيل مهمة الزيارة ، بأن الشعب العراقي جاهل بالصهيونية ولا يعي معانيها بحكم الظروف التي تحيط به من قلة فرص التعليم وسيادة التخلف والعوز فأن الرفض العارم والسريع والمباشر قد مثل صدمة للجهات الحكومية التي شلت قدرتها ولم تتمكن من مدارات الموقف بشكل لبق مما جعلها تعمد إلى العنف والتنكيل بالمتظاهرين ، والواقع ان المواقف التي تبناها المثقفون العراقيون لم تكن وليدة الحماس أو ردة فعل مباشر إزاء حادث سرعان ما ينتهي بأنتهاء المسبب ، بل أن التنسيق والتفاهم كان السمة التي ميزت نشاطهم لا سيما في مظاهرات 8 شباط 1928، حيث لعبت التجارب السابقة فعلها في أهمية التنظيم من أجل مواجهة الطوارئ ، كما أن المتابعة والإطلاع كان لها الأثر الأهم في التنبه ، إلى زيارة الفرد موند إلى العراق ، حيث يشير الأستاذ حسين جميل أنه اطلع على خبر الزيارة في أوائل شباط في مجلة الشرق الأدنى التي كان يصدرها أمين سعيد ، مما حدا به للاتصال بعبد القادر اسماعيل ويوسف زينل معتمد نادي التضامن من أجل وضع الترتيبات اللازمة للمواجهة.
لم تخف وزارة المعارف خشيتها وتوجسها من تعليم الكبار ، بدعوى ” أن انتشار العلم بين أناس أذكياء ربما أكن أمراً مخطراً ” إلا أنها وجدت في الأمر أخف خطر من منع العلم عنهم ، لكنها نظرت إلى الأمر من زاوية تقديم خدمة ثقافية إلى الكبار وإلى من فاتتهم فرصة التعلم،بحكم فقر الإمكانات المادية لديهم ، وعلى الرغم من أن إشارتها إلى أن هذا الأمر لا يعد واجباً حكومياً إلا أن حيوية الأمر التي تنصب في موضوعة “تدريب الرأي العام” كانت من العوامل الدافعة نحو هذا النوع من الدراسة ، مع الحرص على ضرورة تقليص النفقات ، من خلال الاعتماد على إلقاء المحاضرات بشكل مجاني ، وكانت المعارف قد وقفت إلى جانب تعليم الإناث على الرغم من المشاكل المترتبة عنها ، لا سيما في المجال الاجتماعي حيث كان الربط أن الأمم المتعلمة يمكنها القيام بأداء دورها في مجالات متعددة كأكفأ ما يكون في حال تلقيها المعلومات العامة .بالإضافة إلى ما يمكن توفيره من أموال في تعليم الطفل الذي يمكن أن يلقن التعليمات عن طريق الأم بصورة لا يبلغها أي معلم مهما بلغ من الكفاءة والخبرة ، كما أن المعلومات التي يمكن أن تحصل عليها الإناث ، ستساعدها في تفهم الكثير من القضايا والمواضيع ، فعلى سبيل المثال أن المرأة إذا ما عرفت شيئاً من المعلومات في مجال الصحة العامة ،سيكون له أهمية بالغة في زيادة كفاءة المرأة في العناية بأطفالها مما سيكون له ، النتائج المباشرة على سلامة الأسرة التي هي عماد المجتمع.
ان تلمس الأثر الإيجابي للتعليم كان الهاجس الذي ميز توجهات السياسة التعليمية وكانت الإشارة إلى مجموعة من المخاطر التي تعتور العملية برمتها بشكل لا يخلو من دقة ، حتى كانت الخشية من إقحام الأفكار التربوية الخارجية التي لا تتوافق والقيم والأعراف السائدة من الأولويات التي حذرت منها المعارف بالإضافة إلى ضرورة توازن الاتجاه في قبول الطلبة وتوزيعهم في مجالات التعليم ، وفق الاعتبارات والحاجات التي تتطلبها البلاد فما قيمة أن يتوفر عدد كبير من المتعلمين تعجز الحكومة عن أحتوائهم وفتح منافذ التشغيل لإستيعابهم ، ويجب ان نبذل كل الهمة داخل المدرسة وخارجها لتعليم شرف العمل إلى الصغار وان النقب في الحقول أشرف من الجلوس في القهاوي ، كما أن الخطوات المحسوبة والدقيقة في الخطط والمشاريع التربوية لم تغب عن وعي التربويين لا سيما وإن الإمكانات المتاحة كانت محدودة ، مع التشديد الإرتقاء بمستوى الدراسة في القطر أن الدرجة التي توازي فيه مستوى الدراسة في البلدان المستقلة الأخرى وكانت النظرة إلى تعليم العشائر كأمر سياسي وليس علمياً إلا أن المعارف كان تعي أن لها دور في الجمع بين أبناء العشائر وأبناء المدن ليكونوا هيئة من المنتخبين المنورين .
مثقفون ورجا ل دين في اوائل القرن العشرين
سلك المثقفون في التعبير عن حرصهم على ضرورة دفع النشيء الجديد نحو حب المدرسة والإقبال نحوها طابعاً وعظياً ، حتى أن العديد منهم كان يهتبل الفرص من أجل وعظ الطلبة وإرشادهم إلى أهمية العلم والمعرفة لا سيما خلال موسم بدء الدراسة ، فهذا علوان العرس يكتب قصيدة من مدينة العمارة بعنوان (التلميذ المجتهد) يقول فيها :
أنا تلميذ ولي رأي مكين كل جهدي طلب الدرس الثمين
كانت الحكومة تعي جيداً أن الصعوبات التي تواجهها تفت في عضد آمالها وطموحاتها ، أن كان على صعيد الموارد الاقتصادية أو المشكلات الاجتماعية الناتجة عن عمق الإنقسام بين مجتمع المدينة والعشائر ، من جانب آخر حرصت الحكومة على التعبير عن نفسها بالإمساك بالعصرية والمدنية انطلاقا من تمثيلها لنظام الحكم السياسي القائم على التمثيل الدستوري ، وقد وعت وزارة المعارف أهمية التوفيق بين الواجب الخاص الذي ينحصر في الجانب العلمي والحاجات التي تتطلبها البلاد في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، وعليه عمدت إلى تنفيذ خطة عملها في وجوب التركيز في المناهج المقدمة للطلبة ، على أهمية الوحدة الوطنية وغرس مفاهيم الانتماء والتضحية والبذل في سبيل الوطن ، والاهتمام بالمدارس المهنية وتوجيه الأنظار إلى ضرورة العناية بإفتتاح مدارس عليا ، في الزراعة الهندسة والطب بالإضافة إلى الحرص عل ضرورة إعداد الكوادر الإدارية القادرة على إشغال مناصبها بكفاءة ومقدرة .
هواجس الحكومة
حرصت الوزارات المتعاقبة على وضع قضية التعليم في صدر منهاجها الوزاري ، لاعتبارات مختلفة ، تراوحت ما بين تطمين المصالح ، والرغبة الصادقة في البدء بمشروع النهوض الاجتماعي الذي يقوم على التعليم ، بشكل رئيس ، وفي هذا المجال حرصت الصحافة الحزبية ، لا سيما المعبرة عن وجهة نظر الأحزاب الحكومية على الإسهاب والأطناب في بيان دور الحكومة حتى أن جريدة التقدم “لسان حال حزب التقدم ورئيسه عبد المحسن السعدون” قد أشارت بإحتفاء إلى المشروع التربوي الذي تنهض به وزارة السعدون مع الإقرار بأن عدد المدارس الابتدائية على سبيل المثال لا يزيد على المائتين وخمسين مدرسة تضم خمسة وعشرين ألف طالب وكإبراز الوزارة السعدونية ، عمدت الجريدة إلى التركيز على نهوض وزارة المعارف بمشروع كبير ” لنشر الثقافة العلمية الراقية”الذي يتمثل في المدرسة الثانوية ، التي تقوم بإعداد الطلبة من أجل إتمام دراستهم خارج العراق .
وإنطلاقاً من الأهمية القصوى التي تنطوي عليها العملية التعليمية ، أفرد مجلس النواب العديد من جلساته البرلمانية لمناقشة شؤون التعليم لا سيما فيما يتعلق بالمناهج الدراسية المقدمة إلى الطلبة حيث تركزت الملاحظات التي تم تقديمها حول أهمية العناية بتدريس اللغة العربية وفق القواعد والأسس السلمية ، كما كانت الإشارة إلى تناقض المناهج مع الواقع ، حيث يتم تدريس التلاميذ موضوعات غير عملية بالمرة ، وفي هذا كان المثال حول الأوزان والمقاييس والمكاييل واختلافها ما بين الكتب المنهجية وما هو سائد في الأسواق العراقية فيما برزت وجهات نظر أكدت على ضرورة تبين المناهج نقاط الإنطلاق التدريجي ، كأن يتم تدريس الموضوعات المتعلقة بالبيئة المحلية لكي يكون إدراك الطلبة أوسع واشمل ، فوصف الفرات أو دجلة سيكون أكثر وقعاً في نفوس الطلبة فيما لو قورن بوضع وصف للنيل أو بردى ، وكان نائب بغداد الشيخ أحمد الداود قد ركز على ضرورة تأليف الكتب المدرسية باللغة العلمية الصحيحة فيما يجب أن يتعلمه الطلاب العراقيون ويفهمونه وعلى كل حال فأنا من المصفقين للوحدة العربية العظيمة ومن الداعين غليها ولكن هذه مسألة وتلك مسألة أخرى .. فإذا أردنا أن نعلم أبناءنا فينبغي أن نعلمهم باللغة التي يستفيدون منها ولا بد من القول ان المناقشات البرلمانية التي تناولت موضوع التعليم كانت من الأهمية والنضج أنها بلغت في طروحاتها إصابة المشكلة في الصميم وبشكل مباشر دون لف أو دوران وفي هذا يمكن الإشارة إلى ان النقد الذي وجهه نائب الموصل ضياء يونس ، حول مدارس الإناث وابتعاد المناهج المقدمة لهن ، عما هن في حاجة فعلية اليه مشيراً إلى قلة العناية بدرس التدبير المنزلي وتخصيص ساعات دراسية أكثر لمواضيع عامة أخرى ، مذكرا أن مهمة تعليم الإناث الرئيسية أنما تنصب في غاية أعداد الأم المتعلمة المثقفة التي تتمكن من أداء دورها الاجتماعي بفاعلية وكفاءة وفق ما تحظى به من معلومات تقدمه إليها المدرسة ولم يفت النائب أن يشير إلى تذمر العديد من أولياء أمور الطالبات حول إصدار إدارة بعض مدارس الإناث على شؤون بعيدة كل البعد عن جوهر التعليم وغاياته ، حيث يتم تحميل الطالبات المزيد من المصاريف حول لباس موحد غالي الثمن ، تكون عواقبه المباشرة على دخل ولي أمر الطالبة متناسين في ذلك أن الأغلبية من العراقيين يعاون من الضائقة الاقتصادية .
لقد حددت جملة من العوائق التي تقف في طريق التعليم منها ضآلة التخصيصات المالية والنقص الواضح في مناهج التعليم والتركيز على الدراسة النظرية على حساب الدراسة العملية وتشتيت الجهود التي يخلقها إصرار بعض المسؤولين على التوسع في الدراسة العالية ، في حين ان حاجة البلاد تستدعي الاهتمام الأكبر بالتعليم الابتدائي والثانوي ، وإذا ما كانت الأفكار المتعلقة بالتعليم قد صدرت عن جهات ترصد الواقع وتحاول بلوغ الأفضل فأن وزارة المعارف لم تقف مكتوفة اليد إزاء ما وجه لها من ملاحظات نقدية حتى لنجد إجابات وزير المعارف في مجلس الأعيان ، قد تداخلت فيما قائم ومأمول ، فهو من جانب أشار إلى العديد من الصعوبات التي تعترض عمل الوزارة ، كاعتراض بعض المعلمين عن العمل في المناطق النائية أو في المدن الأخرى حيث يصر أغلبهم للعمل في مركز العاصمة ، فيما كان العديد منهم يرفض العمل في المدارس الابتدائية ، من جانب آخر أشار الوزير إلى الطموح القائم من خلال الشروع ، في إفتتاح عشرة مدارس جديدة خلال العام 1929 مع إمكانية رفع عدد المدارس إلى عشرين في حالة زيادة التخصيصات المالية ولم يفت على وزارة المعارف الأخذ بالخطط المستقبلية حيث وضعت دائرة مفتش المعارف العام خطة خمسية للسنوات 1930-1934 حول عدد الطلبة الذي يأمل تخرجهم من المدارس الثانوية والمتوسطة ، إلا أن هذه الخطة سرعان ما أصطدمت بالحالات الطارئة والمتمثلة على الأغلب في ترك العديد من الطلبة لدراستهم لا سيما في المراحل الأولى مما أربك الخطة إلى حد بعيد وجعل المسؤولين يعمدون إلى تغيير الجداول المقترحة باستمرار ، وكانت الدائرة قد أشارت إلى إمكانية الإفادة من خريجي المدارس الثانوية والمتوسطة في سد النقص الحاصل في المعلمين ، وإذا ما كانت الإشارة إلى المشاكل والعقبات التي اعترضت سبيل التعليم ، فإن هذا لا يعني أن الركود كان يمثل السمة الغالبة عليه أنما برزت تطورات في هذا المجال مع ضرورة التنويه إلى أن البطء كان ملازماً لها فالمدارس الابتدائية شملها التوسع فبعد ان كانت مائة و أربع وعشرون مدرسة للبنين عام 1921 ضمت أثني عشر ألف ومائتين وستة وعشرين طالباً فأن هذه الأرقام تضاعفت خلال العام 1930 حيث بلغت مائتين وسبعاً وأربعين مدرسة ضمت أربعة وعشرين ألف وثمنمائة وخمسة وثمانين طالباً وشمل هذا الأمر مدارس البنات ، فبعد ان كانت سبعاً وعشرين مدرسة تضم ألفاً وثمانمائة وتسعاً وأربعين طالبة زاد العدد إلى أربعة وأربعين مدرسة ضمت ستة آلاف وثلاث طالبات ، كما ازداد عدد المدارس الثانوية فبعد أن كانت أربعة تضم مائتين وثمانية وعشرين طالباً أضحت خمس عشرة مدرسة ،ضمت ألف وثمانمائة وثلاثة وستين طالباً ولم يقتصر النشاط في إفتتاح المدارس على وزارة المعارف بل برزت جهود مساعدة من قبل بعض المسؤولين والسياسيين ورجال المال والوجهاء في تقديم العون والدعم لإنشاء المدارس في مختلف مدن العراق وكان للملك فيصل الأول المشاركة المباشرة في هذا النشاط حيث ساهم في تقديم المعونات المالية للعديد من المدارس التي تم تأسيسها .
أن حالة النمو البطيء التي شهدها قطاع التعليم وقلة نسبة عدد المتعلمين والظروف الاجتماعية التي كانت تحيط بالطلبة ، وتحد من بروز فعالياتهم لم تمنع هذا القطاع من التعبير عن رأيه إزاء مواقف مباشرة عكست بوضوح حدة الوعي الذي امتلكوه ، والقدرة في الثبات على المواقف على الرغم من كل ما أحاط بهم من تهديد مباشر لمستقبلهم والذي تمثل بالطرد من المدارس والاعتقال والحبس على الرغم من صغر سنهم .
واستمراراً لدعوة النهوض في مختلف القطاعات حرص المثقفون على الإعلان بضرورة تبني الأساليب الحديثة في التعليم ونبذ الأساليب القديمة ، وانطلاقا من هذا الوعي استقدمت وزارة المعارف الخبير الأمريكي باول مونرو لوضع تقرير عن شؤون التعليم في العراق ووضع التصورات اللازمة حول نهوضه حيث تم تقديم التقرير عام 1932 والذي أحتوى على دراسة عامة وشاملة للأوضاع الثقافية والاجتماعية في العراق ورصد أبرز المعوقات التي تقف في وجه سير العملية التعليمية حيث لم يخف التقرير حالة الوهن والضغط التي تحيط بسير التعليم ، الذي وصفه بـ ” معلول الصحة” وأنه يعاني الكثير من المشاكل ، ويهمل جوانب أساسية كان على المشرفين ان يأخذوها بنظر الاعتبار ، كالتركيز على نشر المعرفة وتنوير الأذهان وتركيز التوجه نحو ما يفيد البلاد بشكل مباشر ، لا سيما في مجال الوعي الصحي والحث على دراسة الموضوعات الزراعية إلا أنه من جانب آخر أشار إلى النقص الفاضح في البنية الأرتكازية للبلاد وحاجتها الأساسية للمشاريع التي لا بد ان تقوم عليها بنية الدولة وفي هذا كان التشديد بشكل واضح على قلة الموارد الاقتصادية وخواء الخزينة التي تعجز عن أداء الأولويات في مجال تنفيذ المشاريع .أما أهم المشاكل التي كانت تعانيها وزارة المعارف ، فقد لخصها التقرير في افتقار الوزارة إلى برنامج بعيد المدى ، مما يجعل من القرارات المتخذة نهباً للحاجة المباشرة والمزاجية وتأثيرات بعض أصحاب النفوذ وفي المجال تعليم العشائر ، فأنه وعلى الرغم من أن العشائر تمثل الفئة الاجتماعية الأكبر في العراق ، فأن المعارف ضربت صفحاً عن العناية بتعليم أبنائها ، وتركتها للمبادرة الشخصية والتي تتمثل بالعادة في توجه بعض شيوخ العشائر لتخصيص ملا أو أحد السادة لتعليم أبنائهم بعض سور القرآن الكريم فيما تعمد القلة القليلة من الشيوخ لإرسال أبنائهم إلى المدن من أجل الإنخراط في مدارسها ولا بد من القول هنا إلى أن اعتبارات النشاط الاقتصادي كانت تفرض نفسها بقوة في هذا المجال حيث من العسير على الفلاح ان يتخلى عن جهود أحد أبنائه بدعوى التوجه نحو التعلم والتثقف .
الاحزاب والتعليم
أن التطورات التي شهدتها حقبة الثلاثينات لا سيما في مجال نشاط الأحزاب السياسية وتبني المعارضة الوطنية اتجاهات أكثر صراحة ومباشرة في عرض مطاليبها على الحكومة جعل الأخرى تركز في عرض مضامينها وأهدافها على الرأي العام في وضع الدلالات الفكرية وتقديمها حتى على المشروعات التي طالما فاخرت بها الوزارات السابقة بحيث أن وزير المعارف السيد عبد المهدي وفي معرض حديثه عن تطلعات وزارة المعارف ركز على أهمية الربط بين التعليم والثقافة القومية ، وفي هذا تتضح أبعاد من التقارب بين وجهة النظر الحكومية والحزبية في هذا النطاق ، بحيث أن بيان حزب الآخاء ومذكرة معتمد الحزب الوطني العراقي المرفوعة إلى رئيس الوزراء ، لم تخرج في إشارتها للتعليم من هذا التوجه المتمثل بالتركيز على أهمية الثقافة القومية وغرسها في عقول وأذهان الطلبة إلا أن الأولويات القومية التي مثلت حالة من التوافق بين التيارات المختلفة لم تمنع من ارتفاع بعض الأصوات التي عبرت عن رفضها لإجراءات وزارة المعارف في استخدام د.فريد زين الدين وأكرم زعيتر تحت دعوى رفض مروجي فكرة الجامعة العربية .
كان المثقفون يتطلعون إلى المعارف دور أوسع واهم في مجال الحياة الثقافية والفكرية حيث كتب أنور شاؤول متسائلاً ، هل من بعث في الحياة الأدبية على عهد الوزارة الحاضرة ، معلناً عن آماله العراض بتولي الشيخ محمد رضا الشبيبي لوزارة المعارف لا سيما وهو الأديب والشاعر كما برزت العديد من الدعوات التي تبناها رؤساء تحرير صحف ومثقفون في ضرورة ارتفاع أداء المعارف وبلوغها روح العصر وليس إقتصارها على النشاط النمطي المفرط في تقديم المعلومات إلى الطلبة وطالبوا المعارف بالخروج عن الدور التقليدي والبحث عن آفاق أوسع تتلاءم والجديد من الطروحات الفكرية .
السيد محمد الصدر وكان من ابرز المعارضين للانكليز
انطلاقا من المعطيات الجديدة التي افرزها انقلاب بكر صدقي عام 1936 حاول المتأملون خيراً من العهد الذي اعتقدوا انه جديد ، التعبير عن طموحات واسعة تمثلت في تبني توسيع دور الطلبة للإسهام في الواجبات الوطنية كالدعوة التي تبنتها جريدة الانقلاب لرئيس تحريرها محمد مهدي الجواهري في بعث القرى العراقية وإسهام المتعلمين في التعليم القروي . وكتعبير عن الفسحة التي أتيحت للمثقفين من وضع تصوراتهم إزاء القضايا الملحة نجد مثقفين يحاولون ان يضعوا تصوراتهم بثقة واتساع وشمول من خلال تناول الموضوعات بآفاق توسعي وكأن المرحلة الجديدة هي مرحلة المشاركة الشعبية حيث يكتب عبد الله الحاج عن المعارف مشيراً إلى ان ” القصد من الدراسة المتوسطة والثانوية هو في الحقيقة إعداد قادة للبلاد في مختلف النواحي في السياسة والاقتصاد والدفاع وإذا ما كان الاعتراض على ان هذا القول لا يحمل أي جديد فأن مبرر درجه يكمن في ثقة الطرح وتبنيه كأمر شخصي صادر عن إدراك هو نتاج تفاعلات المرحلة التي أغرقت بالشعبية ومشاركة الجماهير وتوسيع ذورها في الحياة العامة وبذات القدر من الثقة بالنفس يضع حسن الجواد تصوراته في تساؤل عريض ضمنه هل في العراق مشكلة معارف .
بذات القدر من الموضوعية ناقش مجلس الأعيان قضية المعارف وشؤون التعليم حيث اجتمعت آراء الأعيان على النقص العظيم في وزارة المعارف محملين في ذلك أرث سنوات السيطرة الأجنبية والتي تفصح عن التحولات والتنوع ، في وجهات النظر والأهداف والأساليب وكانت الأهم من بين الإشارات تلك التي طرحها العين ناجي السويدي إلى ان التوسع في افتتاح العديد من المدارس لا يعني ان آفاق التقدم والتطور قد غدت حاضرة بداهة بل كان البديل ان يتم التركيز على نوع الثقافة والمعلومات التي يتم تقديمها إلى الطلبة مع ضرورة التنبه إلى أهمية العلم في رفع مستوى الأمة وليس الغاية أن يكون ” كل طالب يحمل تحت إبطه كرسي الوظيفة ” فيما أشار العين داود الجلبي إلى ان البلاد أحوج ما تكون إلى التعليم الابتدائي أما العين محمود صبحي الدفتري فقد عبر عن وقوفه إلى جانب الرأي الذي يدعم توحيد مناهج التعليم في البلاد العربية والتي اعتبرها هدفاً أسمى يرتجى تحقيقه .
لقد أبرزت نهاية حقبة الثلاثينات في العراق العديد من التوجهات الطامحة نحو التغيير حملها في ذلك إطلاع بعض المثقفين على تجارب أمم أخرى كان لها قصب السبق في مجال التعليم وليس بالغريب ان يقدم شاب عراقي مثقف كنوري الراوي على كتابة عن “صورة من التعليم المختلط ” أو حين تفاخر جريدة مثل الرأي العام بجهد أكاديمي قام به طالب دكتوراه عراقي متي عقراوي في موضوع العراق الحديث .بالإضافة إلى الأفكار التربوية الحديثة التي بدأ يجاهر بها بعض من تحصل على المعلومات الحديثة في المعاهد الأميركية كالدكتور فاضل الجمالي وجعل الصحافة العراقية منبراً لنشر تلك الأفكار والعناية بها ، وكتعبير عن عناية الجهات الحكومية بأهمية ترسيخ العلاقات الفكرية والثقافية مع الهيئات والمنظمات الثقافية والعالمية ، عبر مجلس وزراء العراق عن موافقته على انضمام بلاده إلى اتفاقية تنقيح كتب التاريخ والتي نصت على أهمية التوسع في تدريس تاريخ العالم بما يؤدي إلى خلق نوع من التفاهم والتقارب بين الأمم والتركيز على نبذ الأفكار التي تعمل على شحن البغضاء ورح العداء بين الأمم المختلفة .
ان تركيز وزارة المعارف على ضرورة العناية بالتعليم الأولي والابتدائي لم يكن يعني ان الجهات الحكومية كانت تغفل أهمية التعليم العالي بالقدر الذي حاولت ان تمسك بأسس تدعم الخطوات اللاحقة في مجال التعليم وعليه فان التقارير الصادرة عن المعارف كانت تحوي العديد من الملاحظات التي تشير إلى ضرورة حشد الجهود وتنظيم العمل من اجل الحصول على نتائج مقنعة في هذا النطاق من التعليم حيث تم الاقتراح بإمكانية جمع التخصصات العالية المختلفة ، وجمعها في مكان واحد ، لغرض تقليص الجهود والإنفاق وتسهيل عميلة الإشراف والمتابعة وإذا ما كانت العناية بالتعليم العالي هو شأن خاص بوزارة المعارف كأمر يدخل في صميم مهامها وفعالياتها فان هذا القطاع اخذ أهمية استثنائية لدى رجال السياسة لاسيما عناية الملك فيصل الأول الذي أراد من خلاله ان يعمل على خلق نوع من التوازن بين الفئات الاجتماعية وتقريبها من نبض العمل وتكريس حالة من الربط وتوثيق الشعور بالانتماء للوطن، من خلال فتح فرص أوسع لمن عانى من الابتعاد عن المشاركة في الفعاليات بسبب نقص الكفاءة التعليمية حتى كانت مدرسة الحقوق الميدان الذي خاض فيه الملك فيصل تفعيل عملية المشاركة لدى فئات الشباب العراقي دون تمييز أو محاباة لهذه الفئة على تلك.
لقد أخذت الصحافة العراقية على عاتقها مهمة الأخذ بمشروع التعليم العالي والمطالبة بحشد كل الطاقات والجهود من اجل النهوض ، واعتباره مهمة وطنية مقدسة ، والواقع ان التوجه نحو التوسع في افتتاح كليات جديدة وفي تخصصات متنوعة كان قد بدأ يظهر بجلاء لتظهر كليات جديدة إلى جانب المدارس العالية السابقة كالحقوق والهندسة والمعلمين حيث نشرت الصحف شروط القبول في كلية الزراعة خلال صيف 1926 وفي العام اللاحق صدرت الإدارة الملكية بتأسيس كلية الطب للحصول على كفاءات مهنية وطنية ، تؤدي مهمة سد النقص الواضح في المجال الصحي وإذا ما كانت الكليات قد استطاعت ان تمارس دورها في تخريج الكفاءات العالية لسد النقص الحاصل في آليات عمل الدولة فإن الدعوة للجامعة العراقية كانت مطلبا حرص عليها المثقفون العراقيون من اجل تنظيم الفعاليات العلمية ورفدها بشكل جمعي في دائرة الفائدة والمعرفة .
لا بد من الإشارة هنا الى ان فكرة الجامعة الشاملة كانت قد ظهرت منذ بواكير الحكم الوطني وبتشجيع مباشر من قبل الملك فيصل الأول الذي أمر بتشكيل لجنة تأسيسية لإنشاء جامعة آل البيت في 11 كانون الثاني 1922 ،لتضم ست كليات دينية ، طبية ، هندسية ، حقوق ، آداب ، فنون ، ويتجلى الطموح الذي رافق المشروع بالمخطط الحاذق الذي وضعه مدير الأشغال العمومية الميجور ويلسون الذي عني بجماليات المعمار من خلال التركيز على المنائر وتنظيم الحدائق وتقسيم المبنى إلى بنايات للدرس والمحاضرات وآخر للسكن والصرح المركزي الذي يضم الإدارة والموظفين أما اختيار الموقع في الاعظمية وعلى جهة النهر إنما يفصح عن العناية الفائقة بأهمية المشروع من حيث التطلع نحو الأفق الأرحب لتقدم البلاد وكانت التخمينات الأولية التي وضعت من اجل بناء الكلية الدينية والصرح المركزي والأقسام الداخلية لسكن الطلبة قد قدرت بحوالي 50 لك ربية ، وقيض لهذه الجامعة ان تبدأ عملها حيث عين لها فهمي المدرس وهو الأبرز من بين مفكري العراق وكتابه أمينا عليها عام 1924 والذي لم يأل جهداً في تنشيط وتفعيل دائرة عملها إلا ان اصطدامه بالعديد من المعوقات كالاختلاف في وجهات النظر الذي طفى إلى السطح مع ساطع الحصري ومحدودية الإمكانات المتاحة جعل من نوري السعيد يصدر أمره بإلغاء الجامعة عام 1930. .