نوفمبر 21, 2024

من الأمور التي تعلّمها الناس وحرصوا على تطبيقها في حياتهم، إخفاء الجوانب المسيئة أو الرديئة عندهم، لذلك غالبا ما نجد وجهين للإنسان، الأول يتحرك فيه أمام الناس في العلن ويخرج به أمامهم، وهو وجه غير حقيقي في الغالب أو مصطنع، أما الوجه الآخر فهو الوجه المستور أو المخفي الذي لا يعرفه الآخرون وهو الوجه الحقيقي للإنسان.

إذًا هنالك وجهان لكل إنسان (وربما لكل مجتمع)، أحدهما معلَن والآخر مستور، والفارق بينهما كبير جدا، ولكن من يتحكم بطبيعة هذين الوجهين وسلوكهما؟، لأن سلوك الإنسان يختلف في العلن وأمام الناس عن سلوكه في الخفاء، فهل يتساوى سلوك الإنسان في الشارع وفي بيته بنفس الوقت، وهل يتصرف بالطريقة نفسها في بيته وفي السوق أو الأمكنة العامة مثلا؟

بالطبع هنالك اختلاف واضح بين السلوكين وبين الوجهين كالاختلاف بين مفردتيّ الخفاء والعلن، وهو اختلاف كلّي أو حاد، وهذا يعني أن الإنسان يتصرف في الخفاء كما يشاء هو، أما في الخارج وأمام الناس فإنه يتصرف كما يرغبون أو كما يحبون وبما يجعله مقبولا ومحبوبا أو على الأقل يبعد نفسه عن سهام الانتقاد المجتمعي.

من المشاكل المعقدة التي تواجه الفرد والمجتمع في نفس الوقت، هذا الاختلاف الشديد بين الخفاء والعلن، وأفضل الأفراد والمجتمعات هي التي تقلل الفجوة بين الخفاء والعلن، بمعنى كلما كان الإنسان أقل اختلافا في سلوكه المخفي والمعلن كان أفضل من غيره ويصح العكس أيضا.

ولهذا يقول علماء الاجتماع والنفس أن المجتمعات الجيدة هي التي تتصرف بعيدا عن الازدواج، وتسعى أن تلغي الفارق بين السلوكين المعلن والمخفي، إلى أي مدى يصح هذا القول، وهل يمكن فعلا للإنسان أن يساوي بين أفعاله داخل بيته (بالخفاء) مع أفعاله خارج بيته (بالعلن)؟

اليوم لا أحد يستطيع أن يعيش في الخفاء، المجتمعات كلها رُفِع عنها الغطاء، وانكشفت بعضها للبعض الآخر، وصار العالم كله عاريا، كيف؟، لقد دخل الإنسان في مرحلة العيش المكشوف أو العاري، وأصبح تحت رحمة (العولمة، الانترنيت، الشوسيال ميديا، مواقع التواصل الاجتماعي)، فالجميع اليوم مكشوف للآخر، ولهذا لم تعد هناك قدرة للمجتمعات أن تخفي نفسها عن نفسها أو عن غيرها من المجتمعات.

سلوكك الآن أصبح معلنا، وثقافتك باتت مطروحة على الجميع، ولم يعد بإمكانك كفرد أو كمجتمع أن تمنع الآخرين من معرفة الخصوصية التي تميزك عن غيرك، ومن أخطر عيوب هذا الانكشاف القسري للآخرين أنك لم تعد قادرا على إخفاء عيوبك، ولهذا صارت الأخطاء مرصودة بشكل فوري، وصار انتقادها فوريا أيضا، بل هناك حملات انتقادية شاملة وحادة يمكن صناعتها في لحظات ويمكن إدامتها أياماً أو حتى لأسابيع.

لكل خطأ يحدث على مستوى فردي أو جمعي هناك ردود أفعال فورية، فمثلا نتابع هذه الأيام في الداخل العراقي موجة الانتقادات الشاملة التي تعرضت لها إحدى الطالبات بسبب تقديمها رسالة دراسات عليا حملت عنوانا جعلها مصدر انتقادات عارمة، العنوان هو (صناعة الحلويات)، وما أن تم طرح هذا العنوان في العلن حتى اشتعلت الدنيا كلها (مواقع تواصل مختلفة ووسائل إعلام ومنصات إلكترونية)، بل حتى في الشارع غير الافتراضي كانت الحوارات تدور حول هذه الطالبة وحول عنوان ومضمون رسالتها عن الحلويات…

ولكن أين الضير في ذلك، وما الذي جعل هذه الرسالة وهذا العنوان أن يكون هدفا انتقاديا للجميع، إلا ما ندر، بحيث بلغ حالات التندّر والسخرية إلى أقصى مدياتها، لماذا؟، وما هي الأسباب التي دفعت الناس في هذا الاتجاه، إن هذه الحالة الغريبة من الاصطفاف الجمعي للانتقاد تقف وراءها أسباب عجيبة لابد من البحث عنها ومعرفتها.

لماذا مطلوب منّا معرفة الأسباب التي اثارت هذه الموجة الهائلة من السخرية والتندّر على عنوان (صناعة الحلويات) ولم تثرْنا أمور أخرى أكثر أهمية بكثير من هذه الرسالة، فأية سطحية فكرية انتقادية يتحلى بها (هؤلاء الناس) وهم يثيرون ضجة ما بعدها ضجة حول موضوع لا يقدِّم ولا يؤخّر قياسا لما يعانيه العراقيون من نواقص هائلة تشوب حياتهم.

لماذا لم ينشغلوا بما يهدد حياتهم، حاضرهم ومستقبلهم، لماذا لم يشعلوا السوشيال ميديا عن مشكلات وقضايا أكثر أهمية في حياتهم بكثير من أهمية (رسالة صناعة الحلويات)، ألا يدل هذا الانشغال (الفارغ) بعنوان صناعة الحلويات على سذاجة هؤلاء الناس، وبانجرارهم وراء موجات (قطيعية) تؤكد بأنهم تشغلهم قضايا تافهة، ويهملون قضايا أساسية في حياتهم؟ إذًا نحن نعاني من الفارق بين المخفي والمعلَن، وأننا مصابون بداء (القطيع الجماعي)، وهذا يدفع بنا أكثر فأكثر إلى الانشغال بما لا يستحق، والتنصّل عما يجب أن ينشغل به الناس كونه يهمّ حياتهم، حاضرهم ومستقبلهم، مطلوب إعادة نظر جذرية ثقافية سلوكية جمعية وفردية، وهذه قضية تحتاج وحدها إلى معجزة أو مجموعة معجزات لكي نقلص الفارق بين المعلَن والمستور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *