نوفمبر 22, 2024
images

اسم الكاتب : علي ثويني

اثير في السنوات الأخيرة لغط ومفاضلة بين الحقبة الملكية والجمهورية، وتفرق الناس وكفروا بعضهم البعض كما هي عادتنا في الإختلاف،ورغم تنائي الزمن عن الفترتين، فقد قل عدد من عايشوا الملكية، ومن شهد على أحداث 14 تموز 1958، بل وما جرى بعد 1963 من تشويه للحقبتين، ولاسيما جمهورية عبدالكريم قاسم. أما الملكية فقد كان الموقف منها مصلحي، حينما توطدت علاقة صدام حسين مع ملك الأردن حسين، فأعاد الإعتبار لفيصل الأول ورممت وأعتني بالمقبرة الملكية في الأعظمية، وأعتمر صدام (السدارة) الفيصلية،وكأنه يوحي بأنه سليلهم أو على الأقل محيي لسننهم في تأسيس مملكة صدامية، كما كان يحضر لها . لكن سارت الرياح عكس رغباته.وبذلك غابت الحقيقة وأمسى تقييم المرحلتين دالة لكياسة مفاهيمية يفتدها العراقيين دائما، وكأنهم يبحثون عن جدل يفرقهم حتى لما مضى وأنقضى ولم يعد ممكن إحياءه بشكل أو آخر،ولدينا في أحداث الإسلام قبل 1400 عام أسوة في الفرقة حد التناحر.
ولدت مخضرما بين عهدين ، فكان عمري عام ونصف حينما حدثت ثورة تموز، ولكني أتذكر في بداية الستينات زيارة والدي لبعض معارفنا القاطنين في المناطق الفقيرة، وكأنها ملامح من فلم صور في أحياء المنبوذين في الهند(الباريه)، فقد كانوا يسكنون وسط الماء الآسن وبيوتهم متهالكه وأحوالهم المعاشية يرثى لها. فقد شفت الميزرة والشاكرية وشطيط، في آخر رمق لها، ومكثت صورتها عالقة في ذاكرة طفل.
أستفاق البعض اليوم يمجد بالملكية على المبدأ النفسي العراقي(اللي يشوف الموت يقبل بالصخنه)، ومادام العراق تائه اليوم ولا يحمل مشروع للبناء بل للهدم، فقد طفق البعض بوعي وخبث أو ترديد، الترحم على صدام والبعثيين، ثم أنتقلوا لعبدالسلام عارف، ثم قفزوا على فترة عبدالكريم ليجدوا المبرر في إطراءهم للحقبة الملكية، رغم مرور ستة عقود على غروبها. والأنكى في تلك الأحجدية أن التقى البعثيين و الشيوعيين وهم يمجدون الملكية الغابرة اليوم، رغم أنهم ناصبوها العداء بالأمس، وفضحوا خباياهم،بل وجعلوهم شماعة تبرر نشر فكرهم . الشيوعيون ومنذ الثمانينات لجأوا متجمعين في بريطانيا بإيعاز غريب ، فهم اليوم الأكثر حماسا لتذكر الملكية بخير، بما يوحي بأن من صنع الملكية والشيوعية هو مصنع واحد أو نقل جهاز تأهيلي مخابراتي واحد.وهذا يذكرنا بما كتبه المرحوم الدكتور علي الوردي عن تلك العقلية المتخبطة: (من مآسي العقل العربي أنه عندما يتعرض للظلم من طغاته الحاليين يتحسر على طغاته السابقين، مع أن السابقين هم من مهد الطريق للحاليين ولكل مهمته!.).
نقر هنا بأننا لسنا متحاملين على الملكية مثلما على البعثيه، إثنانهم حكموا أربع عقود، فقد كان العراق خلال العقود الملكية بحالة صعود بينما خلال البعثية بحالة نكوص، الأولى بدأت بإحتلال وأنتهت إلى مايشبه الإستقلال، والثانية بدأت بإستقلال وأعادت العراق إلى المربع الأول، أيى إلى الإحتلال، والأمر سيان فبين الإنكليز وأبنائهم الأمريكان تواصل روحي في الشراهة والطمع والحيلة وإحتلال البلدان، من أجل “حلبها” مع إعطاءها قليل من العلف.فسيان بين الإحتلالين بالحجج والمسوغات والفرق في الحقبة والوسائل. أما عملية التنصيب لعملائها على سدة السلطة فهي الأمر الثابت، لا بل أن أولاد وأحفاء عملائهم الأولين نصبوا اليوم، على مبدأ (الساس الدساس)، اي أن حفيد العميل مؤتمن كونه يحمل مورثات جده. لذا فإن سلطة اليوم هي (ملكية مبرقعة بتسمية جمهورية)، لا بل أن نصاب الدولة هو نفسه كما بلملكية تحت تسمية (الديمقراطية)، فحواها إنتخابات مزوره ، وكراسي تدور بين أحزاب وعناصر تابعة لها، وبرلمان صوري، ودستور لاقيمة له، وحكومه كارتونية تفضل مصلحة الغير على أهل الوطن. لذا أنتجت حالة أكثر إبهاما من الملكية الأولى،بل وجعلت إيران التي يتحسس منها العراقيون تأريخيا، شريك لهم في حكم العراق، وأن العناصر الإيرانية والإسرائيلية والكويتيه تهيمن على معطيات الدولة والسلطة، وبعدما فسدت أفسدت، وهي لم تكن مفتضحة بالحقبة الملكية الأولى.
وللقسطاس والموضوعية، فلايمكننا أن نكيل التهم إلى سلطة وحقبة سياسية إلا من خلال المعطيات التي وصلتنا أو عايشناها،وكذا قراءة العقلية والظروف المحيطة والخطاب الفكري المهيمن حينها. فالبعثيين والإسلامويين شهدنا على سلطتهم، لكن الملكية بقيت تحت وابل الرجم بالغيب، وتشويه الصورة من أطراف تمدحهم اليوم، بما يجعلنا أمام حقائق مشوهة تحتاج إلى تحقق منها من خلال مانشر أو كتب أو نقل، على أن تمرر بمرشح الضمير والعقل والحال المقارن بما حصل من نتائج بعدهم أو حصاد زرعهم.وحسبنا أن المقارنة بين الحقبة الملكية والقاسمية أمر يفرض نفسه، من أثر التغيير الذي أحدثته ثورة تموز 1958، والتي لم تطبق مبادئها إلا لفترة قصيرة لايمكن الحكم عليها إلا من باب التجني، لكن الحقبة البعثية يمكننا أن نقيمها بعد أن مكثت أربعة عقود، أستهلكت كل المنجز السابق وجيرته لصالحها، ثم فقدت زمام المبادرة وتركت العراق لمصيره.
حري الأقرار بأن العسكر لم يحكموا منذ 1958 كما يروج لذلك جهلة التأريخ، بل منذ 1921 حينما ورد الملك فيصل الأول مع الرعيل العصمنلي الذي شكل الأساس للدولة العراقية ، بل أن العقلية المتغطرسة المتعالية والعنيفة التي حملوها معهم شكلت صلب الخطاب السلطوي الذي ساد حتى اليوم. بما يعني أن عبدالكريم قاسم لم يشق عصى الطاعة ولم يستجد أمر، بل سار على حالة متواترة حكمت العراق لأربعة عقود. بل أن العسكر القادم من الموصل وتكريت مكثوا يشكلون صلب الدولة العراقية لثمان عقود (1921-2003) ، وتركوا الأثر الذي سارت عليه الدولة التي صنعها الأمريكان والإيرانيين بعد 2003.ولنناقش المعطيات التي تخللت الحقبة الملكية والتي لم يكترث بسقوطها العراقيون، بل تأسوا على مقتل الملك غازي رغم نزقه المفضوح، وتأسوا ثانية على مقتل الملك الشاب فيصل الثاني ، إبان أحداث ثورة 1958، ولم ينتبهوا إلى خسائرهم وما أريد لهم وكيف بنيت دولتهم وكيف أسس لمجتمعهم.
ومن المعطيات التي يتشدق بها المتاسون على الملكية ربأن ثورة تموز كانت إنقلاب وخرق للشرعية رغم أن العراق شهد أول إنقلاب عسكري عام 1936 من طرف بكر صدقي الكردي، ثم تبعه عام 1941 قاده رئيس الوززراء رشيد عالي الكيلاني.أما أحجية إنتهاك الدستور والشرعية البرلمانية فقد مارسها كل الرعيل الملكي ولاسيما نوري سعيد الذي أحتكر الوزارة 14 مرة ، ألغى البرلمان مرات ومرات، وتعامل مع الحرب الباردة بحماس المنحاز أكثر من الغربيين، وحسبنا أنه يقر كراهية الناس له فتشبث بالأجنبي الحامي وبرقعها بواهي الأعذار.
و يتعلق بسفك الدماء فقد شهد العراق مجاز عديدة ومنها عام 1941 ثم 1948، لا بل أن السجون كان ملئى بالسجناء السياسيين ومنهم من أعدم كما 1949 للقادة الشيوعيين. وتبقى أحجية قتل العائلة المالكة، فقد أثبتت كل البحوث تقريبا بأنها جاءت بإيعاز من عبدالسلام عارف ونفذها الضابط عبدالستار العبوسي، الذي قوبل بالتكريم مقابل البعثيين وأصبح تباعا مدير الموانئ العراقية مقابل ماقام به، أي أن الناصريين والبعثيين كانوا من نفذ الأمر من خلاله ةليس ثورة تموز، التي شهدت هرج ومرج كما كل الثورات. وحسبي أن رعاع القوم لو تسنى لهم القبض على صدام حسين وثلته عام 2003 لكانوا لقوا نفس المصير لنوري سعيد وعبدالإله، لكن الأمريكان حموهم من نقمة الناس. وحسبي أن قانون مادعي(إجتثاث البعث) جاء لحماية البعثيين وليس القصاص منهم كما صرح بذلك الكثير من عناصر العهد الجديد.
كتب أحد الإنكليز في حينها عن العائلة المالكة: ” يحمل العراقيون شعورا مضادا كل الضد للعائلة المالكة التي كان افرادها يعيشون في ثراء ورخاء ، ولا يهمتون الا بمصالح عائلتهم و وراثتهم وحياتهم البوهيمية ، ان العراقيون يرون في افراد عائلتهم المالكة … غرباء مستوردين ، وفي الحق ان الأسرة الهاشمية لم يكن لها في العراق اي جذور او أصول فقد جئ بهم من الحجاز واعطوا تاج العراق كجائزة ترضية بعد ان قرر الحلفاء الغربيون حرمانهم من تاج سوريا ، كما طردهم عبد العزيز بن سعود فيما بعد من مركزهم الوراثي في الجزيرة العربية ، وعلى الرغم من ان فيصل الاول كان يتمتع بسمعة عالية ، فأنه واقرباءه لم يكونوا صالحين لاختيارهم لتولي شؤون العراق ، اذ لم يكن ليربطهم بالعراق اي رابط!.وقد تم الامر بالشكل التالي … نظام ملكي يفرضه البريطانيون للاسرة الهاشمية الغريبة عن البلاد “( )
وحسبنا أن التأسي والبكاء على الملكية اليوم هو حالة من جلد الذات أو الندم والتوبيخ الذاتي المرضي أكثر من كونه موقف ينضح حكمة ودراية وعقل، فالعراق ليس البلد الوحيد الذي نفض الملكية عن كاهله، بل أن السويديين أنفسهم مستائين ويتهكمون من ملكهم رغم أنه يملك ولا يحكم، ولكن منطق القوم يقول: لماذا ندفع الضرائب لشخص لايقدم شء سوى أحجية (حماية الدستور) الذي يحمي نفسه بنفسه من خلال رسوخ الوضع السياسي. أما من يقارن الملكيات ويعد أن ملكية العراق كان يمكن أن تكون كما حال ملكية بريطانيا وهولنده والسويد، وهذا مجافي لحقيقة الأمور، فشتان بين الشعوب والعقيات والثقافات، فالعراق كان يمكن أن يكون الأقرب حالا لملكية المغرب والأردن التي تحصي الأنفاس على الناس، أكثر من ملكية البحرين والسعودية وعمان بل ومشايخ قطر والكويت التي وازنت الأموروسبقت حكمة البدوي، ومارست بناء دول من نقطة الصفر، حتى أرتقت اليوم لمصاف الدول المتقدمة كما السعودية.فما بناه فيصل الأول يختلف عما بناه عبدالعزيز بن سعود، الأول أحس بكونه مؤقت والثاني أيقن بأنه يبني أرض أجداده، بل لم نسمع أنه تعامل بغل حتى مع إبن رشيد أمير حائل ، وكان ألد أعداءه، بل أن ورثته اليوم يعيشون النعمة السعودية دون تبطر.
يمكن تصنيف المؤيدين للملكية اليوم رغم غروبها المبرم، وعدم وجود نصاب إحياءها المطلق إلى:
1.توجه سلطوي عراقي ودعاية يبثها إعلامه بالحنين للملكية كون جل الطبقة السياسية هم أولاد أو أحفاد الطبقة السياسية الملكية، وهم يرمزون خبثا بأن (العمالة) التي مارسها أهلهم للإنكليز هو شرف لهم، إذ أنهم اليوم عملاء نموذجيين للأمريكان والإيرانيين. اي أن العمالة لدى الطبقة السياسية أصبحت محل فخر وتنمر.
2.البعثيون الذين يرومون خلط الأوراق بأنهم ليسوا الأسوء، بل أن صفة (العروبية والتسنن) التي تبنتها الملكية ، كانوا إستدامة لها ضد (الشعوبية) التي غلبها الأمريكان اليوم ونصبها في السلطة.
3.الشيوعيون الذين لم نفهم تناشزاتهم وتوجهاتهم ولاسيما بعد سقوط الشيوعية العالمي 1992، فهم من حارب الملكية إبان مادعي (الحرب الباردة) نزولا عند إيعاز رفاقهم في (الكومنترن) والمخابرات السوفيتية، واليوم يجدون أنفسهم بحالة غزل مع الأمريكان بل حتى الإنكليز الذين صنعوهم مع الملكية، حالتين تتخاصم بالنهار وتتفاهم بالليل.
4. بقايا الإقطاع وورثتهم وبعض المتنفذين السابقين، لا بل وألتصق بهم بعض من كان أهله يتضورون جوعا وضمن الـ95% من العراقيين تحت خط الفقر. لكنهم اليوم يرومون التمظهر أن ابائهم كانوا ضمن 5% من الباشوات والمرفهين، كي لايقول الناس عنهم (إبن فكر).
5. بعض من يسكن اممالك العربية كما الأردن ودول الخليج، للتمظهر أنه مع الملكية ، وحن لأحياءها بالعراق،ويندم على ضياعها.وغالبيتهم من البعثيين السابقين.
وهكذا تؤكد توجهات بعض العراقيين اليوم بأن حالة (اللاوعي) التي مارسوها خلال قرن من التهافت والتشتت والتخبط والتناحر والإختلاف والإنحياز الجزافي والعمالة للأجنبي والضياع، مازالت مستمرة تسري في عروق القوم، حتى على كذبة أسمها الملكية التي لم ولن تعود ضمن سياقات التحولات في العالم والعراق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *