اسم الكاتب : علي ثويني
شغف البعض بتقصي اصوله، كما هو شائع اليوم بين ملوني أميركا في البحث عن اصولهم الأفريقية، حتى من خلال فحص المورثات(DNA)، ونعتقد بأن الأمر نابع من سليقة بشرية تعتني بتعويض نسب عن حسب تصنعه الذات البشرية بملكاتها وجهدها،كما نجد ظاهرة الأصول النبوية كظاهرة منتشرة في المجتمع العراقي، تميزا وبمبالغة بالمقارنة مع المجتمعات الإسلامية الاخرى، حتى قرأنا عن خبر عصابة مختصة بتزوير الأنساب، و(فبركة) أشجار العشائر والحمائل حسب الطلب ولأي أصل يرغب.
ومن الطريف في تلك التجاذبات التي تجسد غفله الإنسان، حينما وصل به الأمر أن ينتقخ فخرا وزهوا، بما لم يكن من اختياره أو قراره، كأصله و(عمامه) ولونه وشكله ودينه واسمه، التي أمليت عليه.
والبحث عن أصل أو (عمام) أو انتماء جعل الشعوب تختار الأسمى المشّرف حضاريا، وتنأى عن الأصل الهمجي والمبتذل. وهذا ما دعا الألمان الى التنصل عن همجية الوندال والقوط والنورمان واللومبارد حينما عدّوا أنفسهم آخر العروق الآرية المهاجرة نحو الغرب وأنقاها دماً،وهم من الهمجية الوندالية براء.
وجدير أن نتذكر ما عيرهم به الفرنسي (كوستاف لوبون) في (حضارة العرب) عام 1882، بانهم أستوعبوا الحضارة بعد اثني عشر قرنا، ويقصد بذلك الفترة الممتدة منذ سقوط روما على يد الوندال عام 455م حتى حقبة الانوار، والأمر يقع على النقيض مع العرب الذين استوعبوا الحضارة بعد أقل من قرن، وذلك انسياقا مع جهل لوبون بأن العرب المسلمين كانوا قد ورثوا تراكمات الشرق القديم الحضاري، ولم يشرعوا من فراغ مثلما كانت الشعوب الشمالية الغازية لجنوب أوربا.
وعلى عكس العراقيين، نجد الكثير من الشعوب تقمصها هوس الانتماء لسومر وحضارة الرافدين، ومنهم الأتراك الذين قدموا من آسيا الوسطى، حيث التقط (مصطفى كمال أتاتورك) إشارة بحثية، ووظفها بعناية في مسعاه القومي على خطى (فخته) الألماني، وأشاع بأن السومريين هم أجداد الأتراك، مستنداً على معلومة وردت في عشرينيات القرن العشرين، تفسر ماهية اللسان المقطعي السومري،ومحاكاتها بنيويا بالصدفة مع الكثير من اللغات الآسيوية ومنها المغولية والصينية والإيغورية التي وردت صنواً مع اللغة التركية. وزاد الأمر تعقيداً حينما دخل المجريون(الهنكَار) بالمعمعة، وتبنوا هم كذلك أصلهم السومري.
استنادا على بحث مقارن أظهره في بداية سبعينيات القرن العشرين باحث هنكَاري مهاجر للأرجنتين، وجد فيه بعض المفردات الهنكَارية المشابهة بشكل أو آخر للسومرية.
حدث ذلك بالرغم من التنائي بين أهوار العراق وبحيرة بلطون عند سهوب الدانوب التي وردوها (شعوب الهون) في القرون الرابع والخامس الميلادي من آسيا الوسطى كذلك.
وطفق الجميع بعد ذلك يبحث عن الأمر عينه وأعلن الإنكليز في بحوثهم بأن 75بالمائة من لغتهم سومرية الأصل، ثم انتقلت حمى المنافسة إلى الشعوب الشمالية فأعلن الفنلنديون وأهل بحر البلطيق (أستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، من خلال البحوث عن محاكاة بين مفردات سومرية ولغاتهم. واليوم وبالأمس أعلن (أوجلان) الثائر أوالعاصي التركي(حسب الظروف)، عن أن سومر كردية كرمانجية وليست سورانية، من دون أي دليل منقول أو معقول إلا من خلال تأويلات تتصل بسياقات ماركسية عن حركة الطبقات. ثم شاع الأمر وسمعنا أصواتاً قومية كردية وكذا ايزيدية ثم فيلية تردد الأمر عينه، على عكس الأصول الحقيقية للكلدان والآشوريين وبقية العراقيين، بما يذكرنا بأيام القوميين العرب الذين أكدوا على أصول عدنان وقحطان، درءا للشك الذي يحيط بأصولهم المجهولة.
وبالرغم من قبولنا بتلك العناصر الانتماء لسومر، لكن كان الأحرى بهم الإعلان عن انتمائهم العراقي أولا،وكون سومر عراقية محضة، وأنهم سياق زماني-مكاني من مكوث سومر وأكد وآشور وبابل المنتمية إلى طين الوادي وجباله، والأكثر واقعية من انتماءات احتكارية لعوالم تتحرك في سياق مآرب ملتوية ابتزازية وانتهازية، تسخر البحث من أجل مقاصد إبليسية.
لقد نسب للسومريين نسب اخير قوم اسمهم (الإتروسكيون)، وهم سكان إيطاليا القدماء الذين سبقوا الرومان بسبعة قرون حيث يعود أثرهم إلى القرن التاسع أو العاشر قبل الميلاد، وهم أحد رواد مؤسسي المدن والقرى في أوربا، بما سجوا عليه من جذرهم الاول. حتى أن روما نفسها التي أدت لها كل الطرق اختيالاً وأسبغت عليها قدسية استثنائية،أسسها الإتروسكيون كقرية زراعية ليست ذات شأن استثنائي، ولعب موقعها الوسيط وحصانتها ووجودها على نهر دورا وقربها من تخوم البحر في تصاعد أهميتها، حتى أمست من أكبر عواصم الدنيا شهرة.وغير المدن نقل الإتروسكيون الكتابة إلى أوربا ومكثت كتابتهم غير مقروءة وأشيع عنهم بأنهم وردوا من سواحل المتوسط الشرقية أي الساحل الشامي. وتكتم القوم(الغربيون) على أصل هؤلاء، حتى سنين قلائل خلت، حيث أعلن بتحفظ بأن ثلاثة أرباع لغتهم هي سومرية، ويعتقد اليوم أنهم حمولة سومرية رحلت نحو الغرب.ومن أطرف ما ينقل أن أهل جامايكا يعتقدون أنهم بابليون، وأنهم قدموا من بلبلة برجها، ولهم دين غريب يقدس الاصول البابلية لهم.وثمة جماعات فرنسية تدعي أنها من أصل أكدي عراقي، والأمر ينطبق على الاسكتلنديين الذي طفقوا يفسرون صلاتهم ببابل من خلال تسمية بلادهم القديم (كاليدونيا) أي بلاد الكلدان، قبل أن تحل التسمية السكسونية على رؤوسهم،وهم يجزمون أن ثمة الكثير من الشواهد الأجناسية (الأنثروبولوجية) واللغوية والأسماء وحتى العادات، قد جاءت من تلك الأصول.
وأشاعوا الأمر عند العامة، وجاء في سياقات ما كان يروج له في عشرينيات القرن العشرين في العراق، عن صلات قديمة بين الإنكليز والعرب من أجل درء خطر رفضهم أو الحساسية منهم،كما حدث قبلها إبان إشاعتهم لأحجية الشعوب (الهندو- أوربية) التي روج لها في الهند والسند، درءاً لنقمة الهنود من هيمنة الإنكليز على مقدرات بلادهم. كل ذلك يحدث خارج إطار الوعي العراقي،ومن دون تزكية أو اهتمام أهله، حتى لم نجد من العراقيين من يفخر بسومريته أو بابليته.ونشكر الباري على ظهور علم الحفريات (الأركيولوجيا)، الذي أماط اللثام عن اسم سومر، بعدما درسته الأيام ومكث مجهولاً ثلاثة آلاف عام، إلا من إشارة إسم (شنعار) المبهم في أسفار التوراة (العهد القديم)(1)، أو أسماء لاتعني شيئاً مثل نهر السيمر على تخوم الحدود العراقية في عيلام جنوبا أو مشاحيف (السيمريات) في الهور، أو الأوفر حظاً اسم سومرا (سامراء) التي لها صلة بسومر اسماً وجسماً، قبل أو بعد شيوعها. لكن الاهم من كل ذلك الملموس هو محسوس العقلية الماكثة داخل الفرد والجماعة العراقية والتي أوجدت نظما ومعايير ماكثة وأسبغت جمالا وكتبت مشاعر وأنشدت شعرا وتفاءلت وشكت وبكت وتظلمت وكظمت، وأمسى ثابتا لا يزحزح ودليلا قاطعا على وجود أمة عراقية لم يصنعها سايكس-بيكو كما يريد البعض.