نوفمبر 22, 2024
ح

اسم الكاتب : علي ثويني

ثمة مرادفات لغوية كثيرة بين لغات الشرق القديم ولاسيما ما يكنوها الغربيون(السامية) ولغاتهم، ونعزيها الى الأصل المشترك للغات الذي يتفق مع الأسطورة التوراتية وبلبلة الألسن ، وعلى المحك فأن وجود الإغريق في آسيا الصغرى وبحر أيجه،على تخوم الرافدين والشام ومصر، وكذلك وجود الحيثيين أجداد اللاتين في نفس الإقليم،قبل إنتقالهم الى الغرب،بما جعل اليونانية والأغريقية البؤرة التي انبثقت منها جل مفاهيمهم ولغاتهم. وهنا نشير الى أن ثمة مشترك وافر من المفردات بين السومرية كلغة عالمية أم، مع كل اللغات ، حيث نجد في هذا السياق (فولك) السكسونية هي نفسها (خلق) و(ديمو) اليونانية التي تعني الشعب هي نفسها (دهماء) العربية. والدهماء هم الغوغاء أو العامة أو السوقة أو الغاشي عند المغاربة،وتعني جموع الناس و”سوادهم” وليس خاصتهم.ومن طريف التفاسير بأن الدهماء هي ليلة التاسع والعشرين من الشهر القمري حيث يلف الظلام ،وفي السياق الرمزي يأخذ معني البستان التى اشتدت خضرته فمالت الى السواد،وهو مقترن بأسم العراق (بلاد السواد)، وكأن أريد لنا أن نكون بلد (دهماء).
الظاهر أن الشعوب تطور، مايروق لها من مفاهيم، ومفردات لغوية، كما في مذاهب الفلاسفة المسلمين ،حينما اهتموا بأرسطوطاليس ولم يعيروا أهمية لأفلاطون كون الأول ملكي الهوى يمثل سلطة الخليفة و”أولياء الأمر”،بينما الثاني جمهوري يمثل الدهماء والمدينة الفاضلة. وبسبب هذا التوجه أنتجت كلمة الديمو Demos اليونانية سلسلة مفاهيم وإصطلاحات، على عكس شقيقتها(الدهماء) العربية التي أحجمت وجمدت،كي يمكث الدهماء بعيدين عن الإرتقاء، فتولد من اليونانية ديموطيق Demotic أي شعبي، و ديموغرافية Demograf أي السكان وديمونستراتDemonstrate أي التظاهر أو البيان والإعلان بأمر عام، وورد ديمونيس Demonis بمعنى الإيمان بالطناطل والغيب كصفة ملازمة للدهماء. والأهم في تلك الشجون مفهوم الديمقراطية Democrat.ولها تفاسير مثلما اللبان،و بحسب التوجه،حتى أن شاوشيسكو أعتبر نفسه(ديمقراطيا).ومن الطريف أن البعثيين والقوميين العرب ازدروا تلك الكلمة وأحلوا محلها كلمة (الحرية) فضاع نصابهما الاثنين معا.
وبرغم ذلك الإختلاف ،ثمة إشتراك بين عوالم الدهماء، فقد كتب عليهم الحرمان من التطلع الى ما “لا يعنيهم”،أو إجتياز الخطوط الحمراء للسلطات الثلاث. وتوصل المسلمين بدلا من (الدهمائية) الى الشورى ، لكنها أعادت تفسير الماء بالماء وركزت حظوة وسلطة متجددة لذوي الحيثيات وعلية القوم وأصحاب الحل والعقد،ممن يتضرعوا البقاء للسلطان ،ولم تهبط الشورى الى درك الدهماء،وبذلك مكث بون شاسع بين مفهومي الشورى و الديمقراطية.و ننوه الى أن كل التضرع لله الكريم أن يحفظ السلطان لاتجدي نفعا مع الطغاة ، فكم من منافق دعى لصدام (حفظه الله ورعاه)،لكن الله حاشاه لا يخدع ،وإذ أجزم أن من روج بالأمس( لمحفوظ وآغا) ،ثم لرفيق وسيادة واليوم لفخامة وسعادة ودولة ،لم ينفع عندما تحل ساعة الحقيقة و الله لا يشفع لهؤلاء.
سمع العراقيون بـ(الديمقراطية) بعد ثورة الشهيد عبدالكريم قاسم،وروج لها الشيوعيون ، حتى تناقلتها الألسن دون أن تعيها ووصلت مشوهة لمسامع أحد فلاحي الجنوب العراقي، حتى لفظها (مخراطية) وقال (أنا مخراطي) و (خرط) يعني مفهوما معيبا في اللهجة الدارجة العراقية، فمسكين هذا الفلاح حينما تنازل عن كرامته وأقر (مخراطيته).
الظاهر أن الامر كان يبشر بـزمن(الخرط) الأمريكي ،بعدما سوق لنا حلا سحريا مثلما يقول المثل العراقي (يسوي الهور مركه والبردي خواشيك). وروج أن أكسيره وسره صندوق الإقتراع، حتى لو كان من أو ما نختاره مجهول كالطناطل. ولم يطلع العراقيون على برامج من يختاروا، بل وجهونا الأخوة “المحررين” مثل الأغنام (الغوناييم اليهودي) الى مسالخ الصناديق لنقر لهم حقهم الثابت الذي يتغير شكله ويمكث مضمونه أزليا . لم نطلع على أسماء ولا مؤهلات ولا برامج سياسية، وبعدما رمينا الأوراق وأعلنا تشبثنا بالوطن وأملنا بالنهوض بعد كبوة القرون السبع، وملئنا طموح ببناء ومنظور ،ولم نجد إلا الضياع والإنحدار.
لم نرى الصناديق بعد رمي الأوراق، ولم نعلم مدى مصداقية الفرز،ثم سمعنا فلان وعلان يعلن أنها زورت ولم تنأى حتى السفارات ،واجهة البلد الحضارية في بلدان متحضرة،كما السويد. فقد تبين أن السفير قد سرق (26 الف) جواز،ليس ليوقع عليها (أوتوغراف) للمعجبين،بل كي يزور بعدد أصوات جماعته. والأنكى أن الإعلان عن النتائج أستغرق شهور ،بينما عند الأوربيين سويعات وحتى لدى أخواننا الجزائريين بالأمس انفضت وأعلنت النتائج بعد نصف نهار. كل ذلك يدلل على كم نحن(مخراطيون) ودهماء ،والأهم بعيدين عن مفهوم الديمقراطية الأمريكية، ودليلنا أن الوقت لديهم ثمين بينما عندنا هو والدم أرخص السلع.
السلطة المتحاصصه في العراق قبلت بتلك الديمقراطية الأمريكية ،حتى أن المعميين من شيعة وسنة تخلو عن مطلبهم السابق بالشورى. والظاهر أن تلك الديمقراطية ضمنت لهم موارد أكبر من الشورى،وإلا كيف ينقلبون على الأمريكان من(الشيطان الأكبر) الى (الحليف). تغيرت الموارد وتضاعفت عن موارد الخمس والزكاة والأوقاف ، الى نفط وعقارات وأطيان وإستدمارات (إستثمارات) تمتد من زاخو حتى أم قصر.
بالأمس كانت المعادلة سهلة فإقطاعي في الجنوب وآغا في الشمال يسرقون بني جلدتهم بأسم البيوتات والحسب والنسب المنزه من الرذائل، ورجال دين وآخونية يدجلون بواه المفاهيم من أجل أن تمكث إمتيازاتهم سرمدية،متسللين في دامس الوعي ،و مرهبين (الدهماء) (بجهنهم) وكيف (يشوي) الله عباده الفقراء ،وكأن الله سبحانه وحاشاه (كبابجي) .و الناس عندنا مشويين من الأساس يعيشون جهنم الفاقة والعوز والمرض والجهل، وحالمين بيوم الخلاص ومتأملين وردود المهدي.وأتذكر نادرة في السبعينات بأن العراقيين لايخافون جهنم،كون صيفهم أحر منها ، لكن اليوم جهنمهم حقيقية بين صيف على الأبواب وتفخيخ متربص واحتلال إبليسي.
رأيت وأنا صبي المرحومة والدتي وهي تهب في الستينات مئات الدنانير للملا محمد صادق الخلخالي،حينما حل مرحبا به بين ظهرانينا في حي بغدادي بائس يدعى مدينة الحرية،وقد أصبح وزير داخلية إيران الثورة. والمفارقة أن أهل الحي يدفعون الخمس والزكاة وهم أجدر بها وتحل عليهم الصدقة. وأمسى خلخالي الهارب من إيران سيد علينا،نجبر ونحن صغار على تقبيل يده . لقد جمع خلخالي مال فقرائنا وعرق أهلنا ،وتسنى له أن يقيم ثورة كبرى أطاحت بشاه إيران. لقد وهبنا خلخالي والخميني المال ليصنع أمجاد ويعدل مسار أمته و مكثنا نحن في العوج. وبعد أن جاء أهل(العوجة) عوجوا كل الحقائق وألغوا العقل،فذهبت أموال نفطنا للفرزلي والعيسمي والرافعي والمدثر وعفلق و حتى كلوي الأنكليزي و الأعراب من الصومال حتى موريتانيا، كيف لا و(نفط العرب للعرب).وأجزم أن لايوجد شعب في الدنيا بهذه السذاجة ،يهب ماله للآخرين يتمتعو به وهو في فاقة.
الإيرانيون ،وبأموال فقرائنا التي وهبتها لهم (الحوزة) ، ثاروا على الشاه وأسقطوه وضحوا بكم ألف في سينما عبادان أو في المظاهرات المليونية التي عمت شوارع طهران، فكتبوا بدمائهم أجمل الأثر، وسوف يمكث في التاريخ أنهم ثاروا على الطغاة .والحال نفسه حدث مع الشعب الجزائري الذي قدم مليون شهيد من أجل إستقلاله من فرنسا ، بيد أن الأمر عندنا معاكس،و جلد الذات يتقمصنا ، فها نحن نقدم الضحايا كل يوم للتفخيخ و الإرهاب، والقتلى من الصوبين أي أن الإرهابي عراقي والجندي عراقي،والأمريكان يتفرجون جزلين من المشهد السريالي (الهوليودي) الجميل، ويطبقون علينا مثل(من لحيته وبخرله، أو من لحم ثوره وأطعمه)، وها نحن نخسر الأرواح،دون أن نتعلم كيف نوظفها لصالحنا و نكتب بها تاريخا مثل الإيرانيين أو الجزائريين.
دائما ما أفكر لو كانت المرحومة أمي مع زميلاتها وقريباتها قد أدخرن الأموال دون إعطائها للمعممين ، وأقمن جمعية نسوية (للمجتمع المدني) لكان يمكن أن تصنع وعيا،يتداعى أن يقيم ثورة، تطيح بنوري سعيد قبل صدام ،ولصنعن بأموالهن مجد للعراق ،،وارتحن من الفاقة و(القادسية) و(أم المعارك)، ووفرن عليهن شقاء الفجيعة والثكالة، وضيم نحر الأحبة والترمل ثم التشرد.
وعلى نفس الإيقاع مازلنا نقدم بأسم الديمقراطية الأمريكية القرابين من أهلنا،مشردين وقتلى ، وكأن الأيام تعود،مثلما كانت بالأمس مع صدام وعبث البعث، حينما أبدلنا أرواح أخوتنا وأولادنا ومشاريعنا البشرية الرائعة بسيارات يابانية على مذبح الرياء والدجل والخسة. بالأمس ضللونا لنهلل ورود (شهيد) ،واليوم نفرح حينما يقتل(إرهابي) عراقي . لقد فرح “الدهماء” في أخبار القضاء على (جند السماء)، وكأن هؤلاء ليسو عراقيين، أو أستعرنا أرحام رخيصة لتحملهم،وليس أمهات من نسائنا،وكأنهم وقعوا بمظلة في أرضنا وليس أولادنا وأخوتنا، لم نستطع حتى أن نتحقق من حقيقتهم،وتبعنا صاغرين لما يروجه إعلام الأمريكان المقنن والمدروس بعناية، وهو نفسه الذي روج بالأمس لصدام ونفخ في صوره وسمى بغروره، ثم أطاح به مشنوقا مثل أي كلب ظال .
لو كنا (ديمو) وليس (دهماء) لكنا قد خرجنا في تظاهرات(ديموستراتيه) ضد صدام وعصابته ،ليقتل منا ما شاء، وحينئذ يكون لتضحيتنا مبرر وجدوى وهدف . وهكذا فشلنا أن نوظف دمائنا في (بنوك) ونجعلها عمله ورصيد تاريخي. بالأمس ضاعت دمائنا في جبهات الأردن والجولان ولبنان وفي شمال العراق(حركة الأنصار والبيشمركه) وضد إيران وفي الكويت،بعبثية ، وخرجنا من كل ذلك مفلسين،حتى من دافعنا عنهم من العرب، لم نكسب منهم عرفان بجميل بعدما ذدنا عن حقهم في الحياة.
دهمائنا دخلو (ديمقراطية) الأمريكان مذعنين ،مثلما الخراف التي تقاد للمسلخ(المجزرة) ، مستأنسين شعورهم الجماعي و”حشر مع الناس عيد”، لكن ذبحنا سيكون فرادا.الأمريكان بدأوا مشروع التفتيت الذي سوف لاينتهي، وسنرى غدا أن الأكراد والشيعة والسنة يتقاتلون فيما بينهم ، ثم نجد الحرب مشتعلة بين الكاظمية والأعظمية والفضل والصدرية، والنجف وكربلاء وسليمانية وأربيل..الخ. أنها دوامة سوف لن تتوقف عن الإنشطار.
لا مصلحة لأحد في بقائنا لا عرب ولا عجم، فالكل طامع بأرضنا دون دهماء. ومن الطريف وجدت تعريفا(للديمقراطية) في موقع فلسطيني (د.و)، يبرر صاحبه المدعو محمود مصلحي قتل الأبرياء في العراق كاتبا بحقد: (ها هي خطوة جديدة من خطوات النصر المبين على الكفار العراقيين.. انهم ليسوا بعرب من يجعلون من العجم أسيادا لهم ويقولون عليها ديمقرطية ان الديمقراطية يا اخوان تبدا بقتل كل العراقيين واحلال شعب جديد يكون امينا على العرب و العروبة و الاسلام. وأنا اقترح ليكون شعب المجاهدين الهاربين من دول الكفار في الاردن و سوريا و السعودية ومصر و الجزائر وفلسطين ليجتمعوا في العراق ويقوموا بقتل رجال العراق كلهم واخذ نسائهم سبايا ثم الانفتاح على العالم العربي و الاسلامي اجمع كي يعود زمن الاسلام الذهبي حيث كانت جيوش الاسلام تجوب الارض ولا من يقف في وجهها.)تصوروا ياكرام هذه أفكار تبث وتنشر على الملئ، فأي مهزلة نعيشها بين محتل وأخ وصديق وجار وأهل دار يرومون فنائنا.
قرأت قبل أيام بحثا لعالم إجتماع أمريكي اسمه MALCOLM N. QUINT ـتسنى له أن يقيم في قرية أسمها (أم النهر) تتبع (لواء) العمارة بين أعوام 1956-1958 ،وتقع الى الشرق باتجاه هور الحويزة على بعد 65 كلم، وكتب عنهم دراسة بعد معايشة 21 شهر ، وأستخلص أن مشروعا تنويريا لا يمكن أن يقام في أم النهر ، في الوقت الذي ينام (الدهماء) مع جواميسهم في الصرايف(العشش) ،وهم يرون جواميسهم تتغوط بالهور، ويرون بالعين المجردة الديدان تسري فيه ، لكنهم يشربون ماءه جزلين ، في الوقت الذي تبعث لهم بغداد (بالقراءة الخلدونية) المفعمة بمخملية ساطع الحصري ،و التي تنصحهم بغسل أسنانهم بالفرشاة والمعجون المعطر، أو السكن في بيوت بمعارج وطوابق وأثاث ،وهي تناسب حياة أطفال نيويورك أكثر من “فريخات” أم نهر، التي لا يدخر أهلها غذاء غدهم. كل ذلك دعى المختص الأمريكي منذئذ يمتعض ويصرح أن لا أمل بالنهوض العراقي وتحقق ما قاله بعد حين.
اليوم يتكرر الأمر عينه فأن دهمائنا يسلكون طريق الديمقراطية الأمريكية مثلما قراءة ساطع الحصري لأطفال أم النهر ، فهي تليق بنيويرك وشوارع منهاتن المرصودة بالأقمار الصناعية والمجهزة بنظم الأمان و مستلزمات العيش الكريم. أن الطبقة السياسية المنصبة اليوم من القوميين الأكراد والطائفيين الشيعة والسنة،هم أبعد ما يمكن أن يثق بذممهم وملكاتهم ووعيهم. وأجزم أن الرعيل العثماني الذي أستجلبه فيصل الأول والخاتون بيل أرقى من هؤلاء . لم نجد بينهم مقنعا ، كونهم منشغلون بمآربهم والبلد يضيع والدماء تهرق والمدن تحرق.
البارحة أخبرني أحد الأخوة من بغداد أن الطابور على جوازات السفر يصل كيلومتر، وحينها أيقنت أن البلد سوف يفرغ من دهمائه وأهله،وهو تخفيف حمل عن كاهل الأمريكان والسلطة ، لذا يوجب تنبيه الجموع على ما يراد لهم،وأجزم أن الرجوع لبداية الطريق والشروع من الصفر في بناء منظومة عراقية صميمه هو من باب أولى وأجدى ،من الطريق الدهمائي الذي أختاره الأمريكان لنا، وأن بناء(ديمقراطية) عراقية تتبنى المواطنة دون قوميات ولاطوائف هو الحل، قبل إنهيار تام للقيم وهدر مأساوي للدماء والثراء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *