نوفمبر 22, 2024
5ف

اسم الكاتب : علي ثويني

شاهد جلنا شريط تشييع المرحوم ناظم الغزالي المصور عام 1963،وكيف ظهر القوم فيه وكأنهم في حفلة كوكتيل، متبغددين بحلة مقشبة، وممتطين سيارات باذخة. ونتذكر جميعا ونحن صغار مبارة كرة القدم على بطولة كأس العرب التي أقيمت في بغداد 1966، بأن جمهور الحاضرين كان يأتون وهم يرتدون حطة منمقة واطقم بأربطة عنق،وكأنهم يحضرون حفلة توزيع جائزة نوبل ،مقارنة مع غياب تلك الطقوس في حياة العراقيين اليوم.
أتذكر وأنا صغير عام 1963 بأن تعطل تلفاز جارتنا (أم إيراهيم) ،فاتصلوا بشركة(فليبس) ،فبعثت الشركة مندوبين عنهم في سيارة(بيك أب) مغلفة بجادر أزرق مكتوب عليه (فيليبس) مشابها لما كتب على الزي الموحد للرجال الثلاث المرسلين لحمل التلفاز الى ورشة الشركة.ثم رأيناهم قد أنزلوا جهازا آخر من السيارة جلبوه معهم لتمشية أمور (أم إبراهيم) ،الى حين يعاد لهم جهازهم. وبالمقارنة فأن هكذا خدمات لم تتوفر في السويد إلا في الثمانينات.
أتذكر في بداية الستينات كيف شاع في حينا البغدادي الهامشي (مدينة الحرية) ظاهرة ترك البيوت دون بيع، و الرحيل الى أحياء أرقى وبيوت أوسع وأرفه.و كنا نطلق على هذه الظاهرة (رفض البيوت)،التي لم نسمع بها بعد تلك السنين. وكانت تلك الظاهرة “الشاذة” متداعية من وفرة المساكن والأراضي ومن سمات الرخاء والدخول المرتفعة. وقرأت للأستاذ حسن العلوي، كيف أنه دخل السجن أيام الزعيم عبدالكريم قاسم،وخرج بعد شهور قلائل،ليجد أن مرتبه قد تراكم،وتسنى له أن يشتري بجزء منه ، سيارة مرموقة من معارض السيارات في ساحة الأندلس.
كل ذلك عايشناه ونحن صغار، ولم تعايشه الأجيال التي كبرت بعد حقبة البعث،وربما أو تعتبره اليوم من باب “المبالغات”،حينما كان الدينار العراقي أكبر من نضيره الكويتي،ودخلهم مرتفع، ثم أمسى في التسعينات يصنف من أدنى دخول البشر وقبع تحت أهل جيبوتي وبنغلادش. وأمسى الحصول على مسكن من المعجزات،حتى تبوأ العراق المستوى الأعلى لأزمة المساكن في العالم،وتناخر الأخوة على البيوت ،وأمست ظاهرة(الكعيدي)” أن يسكن الزوج عند أهل زوجته” مألوفة،وليست مشينه كما كانت أيام زمان. لكن بالمقابل رأينا بعد سقوط الصنم قصورا رئاسية باذخة ، لم نرى مايحاكيها في العالم،وكذلك مساجد “رئاسية” خيلائية تناطح منائرها عنان السماء. وهنا أتذكر كيف عير صدام العراقيين بأنه ألبسهم أحذية،بعدما كانوا حفاة قبله.
وفي الوقت الذي كان العراق من أوائل الدول التي تملك بث تلفزي في دول العالم منذ العام 1954 بالمقارنة مع السويد التي بدأت في العام 1963، وفي الحين الذي نصب العراقيون أول وزيرة وهي الدكتورة الكفئة نزيهة الدليمي عام 1959، “حدث الأمر في السويد أول مرة عام 1978″، فأن جل دول العالم مازالت لم تتجرأ على هكذا خطوة حضارية، ومازلت دول “متقدمة” لا ترضى للمرأة أن تتعلم أو تعمل أو حتى تسوق السيارة . وإذ أتساءل بسذاجة: أين سمت السويد وأين تقهقر العراق، وها نحن لاجئون عندهم،فهل سمعتهم بربكم أن سويدي لجأ الى العراق؟.أليس الأمر يدعوا للمراجعة، أليس الأجدر البحث في العلة قبل المعلول.
كانت تلك الخواطر قد أستقيتها من ذاكرة أتعبتها سنين الإغتراب الطوال، ولا أروم التباهي أو الإختيال أمام الغير،مثلما تفعله النسوة “المحلة” ،بقدر البحث عن علة هبوط مستوى الحياة من عليائها تدريجيا ،والذي يؤرخ بالملموس إبتداءا من إنقلاب 8 شباط، و تصاعد إبان سرقات السياسة العروبية عام 1966،وهيمنة أشخاص مثل خير الدين حسيب وغيره على المصارف العراقية التي تركها عبدالكريم قاسم متخمة بالثراء، و أوقعت تلك الطبقة العراق في براثن القوانين الشمولية للحياة والإقتصاد المقنن على أساس(الإشتراكية العربية).
هذا ماحدث مع الإقتصاد الذي جر ورائعه الثقافة على مبدأ(بعدما تمتلئ الكرش تقول للرأس غني).ويمكن أن يكون هذا أكبر إنهيار،بعدما مكثت الثقافة السد الأخير الذي قاوم حتى الرمق الأخير، ثم ذهب أدراج الرياح في نهاية السبعينات، فلم نسمع بعدها عن أدب ولا مسرح ولا فن ولا غناء ولا عمارة يعتد بها،و(لم يمكث في الواد إلا الحجاره) كما يقول المثل الجزائري.وطفحت ثقافة”الكاولية” أو”الكروتسك” كما يسميها المعمار الجادرجي الى سطح الحياة العراقية . وحينما أنقشعت الغمة البعثية 2003 طفقنا جميعا نبحث عن آخر منتج من تلك الحقبة ،حينما توقف بعدها الزمن الإبداعي في العراق، وأخرجنا أغاني بداية السبعينات لنسمها وكأنها بداية مشوار ليومنا الحاضر.
وفي سياق المقارنة لابد من التفريق هنا بين الثقافة والحضارة فالثقافة ثابت على العموم والحضارة مثل التاريخ متغير وحركي . والثقافة حيثيات روحية و إجتماعية ونزعات وأذواق وبنية عقلية أملتها البيئات المحيطة،بينما الحضارة هي خدمات وتسهيلات لمقتضيات الحياة من خلال سطوة العقل والعلم ووسيلة الإقتصاد، وتجسد في الرفاهية و البذخ و التجمل والتأنق. وثمة شعوب لها ثقافة راقية،لكن ليس لديها حضارة كما العراقيين والعرب عموما. فالهنود مثلا لديهم ثقافة لكن تنقصهم الحضارة، واليابانيين لديهم ثقافة ولا تنقصهم الحضارة…الخ.
أنعتق العراق بعد الحرب الأولى من الغمة العثمانية بعد أربعة قرون عجاف وثمانية وعشرين جيلا نسوا الحضارة وتشبثوا بالثقافة الموروثة. وبدء المرحوم الملك فيصل الأول بأول مشروع نهضوي ممنهج، من علاماته مشروع جامعة أهل البيت 1924 ،ثم مشروع مجلس الإعمار بعد حوالى عقدين،و الذي خصص 70% من موارد النفط للخدمات ، التي يعود له الفضل في بث توشيحات حضارية في الحياة والثقافة العراقية.
ولم تصدق نوايا جل من أعتمدهم فيصل الأول في مشروعه، ومنهم مثلا ساطع الحصري ، فقد قلب مشروع لأمة عراقية متعددة الطوائف والأعراق،و معتدة بذاتها وخصوصيتها ومستندة على ثراء وعراقة تراثها،الى مشروع قومي عروبي وطائفي سني،لم يتسنى له المكوث أكثر من ثمانية عقود حتى أنهار على يد المحتل الأمريكي عام 2003 .
ويرصد أن النهضة الفكرية والحضارية التي تصاعدت منذ الأربعينات ونضجت في الستينات،لم تكن إلا إرهاصة لأرث ثقافي تراكمي ،ونزعة فطرية للإنعتاق والإرتقاء،ولم يكن مخطط لها البته من طرف الحصري ورهطه.فإذا راجعنا المنهجية التعليمية التي سطرت على يديه ،نستشف أنها كان تروم الى تخريج كتبة (واردة وصادرة)، وماسكين دفاتر وحسابات دوائر الدولة، ومعلمين يحدّوا من سطوة الأمية الغالبة. ولم تطرق تلك المنظومة الجانب العقلي والفلسفي المرتجى،ولم يكن لها منظور حضاري.
وبالرغم من ذلك فقد ظهرت طبقات إستثنائية لم يتوقع ظهورها من فنانين وأدباء وشعراء ومعماريين وإجتماعيين وآثاريين ومؤرخين ، نحتوا في الصخر من أجل الخروج من دوامة التخلف. فكان منهم علي الوردي ، ومصطفى جواد وطه باقر وعبدالجبار عبدالله وعبدالجبار عباس وعلي جواد طاهر وجعفر الخليلي وعبدالكريم الماشطه والشبيبي وغيرهم،ورهط الشعراء المجددين للشعر العربي مثل السياب والبياتي ونازك الملائكة ولميعه عمارة وبلند الحيدري. ومن المعماريين رهط أحمد مختار وجعفر علاوي ومحمد مكية ثم رفعت الجادرجي وقحطان عوني،ورهط الفنانين مثل جواد سليم وفائق حسن والرحال وآل سعيد وغيرهم.
ولم يبالغ المرحوم الزعيم عبدالكريم قاسم عام 1960،حينما أخبر السفير السوفييتي “الأرمني الأصل”، في حينها بأن العراق سيصدر علماء بعد عشرة أعوام،بعدما تيقن الرجل من ملكة محيطه الإستشاري مع تزكية أستلمها بإشارة لبيبة من لدن العالم عبدالجبار عبدالله رئيس جامعة بغداد في حينها، والذي وضع أول منهجية لمنظومة تعليمية رصينة ومتكاملة تبدأ من حضانة الأطفال، وتنتهي بأعلى الدراسات التخصصية،وتكتمل ببناء حضاري رصين.ونعلم جميعا أن كل من بعث للدراسة في الخارج(الشرق أو الغرب) في حينها دون محسوبية أو منسوبية أو حزبية ضيقة أسسوا بعد عودتهم عماد الدولة العراقية بعد ذلك. وهنا أشير الى أن البعثات الدراسية في الحقبة الملكية كانت تتبع موازنة نخبوية،بحيث يتم توزيعها “بالقسطاس” على بيوتات السلطة، وسمعت من سيرة الدكتور محمد مكية بأن منحته التي أقتنصها عام 1935 ودرس بها العمارة في ليفربول، كانت مخصصة لعائلة العسكري مثلا..وهلم جرا.
لكن الظاهر أن ذلك المشروع النهضوي قد دق ناقوس الخطر لبعض الجهات التي تتفق على تقويضه،وتختلف في الأساليب، حتى لو أختلفت في الحيثيات والتفاصيل. فثمة حاجة من هؤلاء لعراق متخلف وقلق ،ولاسيما من طرف الجيران أولا، عربا أم عجما ،بما يتطابق مع مصالح الغرب المستعمر الذي يسعى لديمومة مص ضرعه وتبعيته لهم. و الغرب محق في أنانيته ، لكن المؤرق للخواطر أن بلدان “شقيقة وجارة”، شاركت في عملية ذبح الإرتقاء العراقي.
ونضرب في ذلك مثل مصر التي لديها كل المصلحة بأن لايرتقي العراق،كونه المنافس الحضاري العتيد على طول التاريخ. وثمة كفي ميزان بين الصوبين، فأما يرتقي العراق وأما مصر.ومن الطريف أن هذا الأمر دونه أحد ملوك الفراعنة من القارئين الرواد لعبر التاريخ قبل إبن خلدون بدهور ،وأشار فيه الى أن إرتقاء العراق وإستقرارة وقوته يعني هبوط مصر دون مواربة. ومرورا بأمثلة شتى في التاريخ مثال ما حدث أيام الفاطميين فان هذه السليقة أو “الغريزة التاريخية” مكثت لدى الكثيرين عند أخواننا المصريين حتى اليوم .و مارست النخب المصرية تحمل حساسية مفرطة إتجاه الثقافة العراقية، ونجد أنهم يحبذون أن يسموا الحضارة العراقية ، ساسانية أو عباسية أو إسلامية خلاف ما يسموه صريحا، الشامي والمغربي والإيراني والهندي مثلا. لكن والحق يقال نجد بعض المنصفين القلائل ممن يسمون العراق باسمه حينما يتعلق الأمر بتاريخية أو في سياق انتماء شخصياته.
وإذا اعتبرنا الشام هو النطاق الوسطي الذي يتأثر بسطوة وتأثير وهيمنة أحد الصوبين، فتارة هو عراقي وتارة مصري. وتمادى بعض المصريين مشيا وراء عرف بحثي إستشراقي خبيث تساير مع النزعة العرقية القومية التي شاعت منذ حقبة الأنوار في ألمانيا القرن الثامن عشر، وتبنت فرز الأمم البانية للحضارة حصرا وقصرا عن سواها، فمثلا الآريون بناءون بينها الساميون هدامون، وتهكموا من الأتراك،ومجدوا بالفرس والهنود،ولم يهتموا بالأكراد مثلا،ناهيك عن تمجيدهم بعظمة اليونان والرومان الذين انتسبوا إليهم عنوة .حتى نجد في ذلك السياق من يحبذ إرجاع الإرث العراقي وكذلك الشامي الى أصول يونانية أو رومانية أو فارسية أو هندية،على أن لا تكون من نتاج الفكر المحلي العراقي أو الشامي ،نكاية.
لقد حارب الأخوة المصريين رموز الثقافة العراقية منذ عبدالمحسن الكاظمي ومهدي الجواهري ومصطفى جواد وعلي الوردي،وسفه المصريون قدراتهم،ونلمس ذلك صريحا فيما كتبه مثلا غالي شكري عن الجواهري. و لجأ القوم الى حركة استحواذية مغلفة بالثقافة العربية المشتركة،والحمية عليها ،وجسدوها من خلال إسباغ الألقاب والمسميات، وتهميش الآخرين من خلال تكرار الذكر والإطناب في المناقب والتعمية والإبهار. فسمعنا كنّيات أمير الشعراء وكوكب الشرق وعميد الأدب..الخ،ولم نسمع أن وهبوا علي الوردي لقب المجدد لفكر إبن خلدون مثلا، أو مجدد العربية مصطفى جواد أو الفقيه بالآثار طه باقر،أو “المغامر اللغوي” عبدالحق فاضل.ثم روجوا لأحجية(القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ) وهو شعور غريزي، يخشى من أن تنعتق العنقاء من براثن التخلف،لتسمو بالفكر والمعلومة.
وهكذا مات علي الوردي منسيا في بغداد، وطه باقر منفيا الى ليبيا، وعبدالحق فاضل عليلا في مراكش ، وهادي العلوي والجواهري في مقبرة الأغراب على تخوم دمشق والبياتي مقتولا في عمان وبلند الحيدري دفينا في لندن عند قبر كارل ماركس. ولم يسلم من التهميش حتى من غازل المصريين وروج لهم في أوساط السياسة، مثل هاشم على محسن السياسي الناصري الذي مات منسيا في بيروت 1984، وعلي صالح السعدي وفؤاد الركابي وغيرهم،لا وحتى المثقفين مثل عبدالعزيز الدوري العروبي. ويلمس المثقف العراقي في المنافي القسرية ،مقدار العداء والمحاربة المبطنة من طرف المصريين في أسواق العمل،ولاسيما في الخليج والجزيرة مثلا.
وهنا يجدر الإفادة بأن حركة عبدالناصر(العروبية) لم تنبثق إلا بعدما أحس أن فلسطين كجزء من الشام المتنازع عليها بين مصر والعراق في طريقها للضياع. فلم يكن الرجل محب صادق للعروبة في سجاياه، ويمكن مراجعة خطبه خلال سنين ثورة يوليو الأولى.فقد أحتكر الشاميون ورعيل فيصل الأول أسم العروبة وشكلها (بلاد العرب أوطان من الشام لبغدان). ونرصد بأن عبدالناصر رفع عقيرة العداء للملكية والجمهورية العراقية على حد سواء. وشعر بمدى التسفية والرغبة بالإحتواء حتى السذج من قادة سلطة البعث والأخوين عارف.
نخلص الى أن حركة جمال عبدالناصر في دعم القوى العروبية والبعثيين في إنقلاب شباط 1963 ،وقبلها في احتضانهم وتأهيلهم ودعمهم ، كان له جدوى ومآرب تدعوا للتأمل والعظة.ومن طريف ما نذكر بأن على عكس الرعاية التي أسبغها ناصر على القوميين العرب ، لم نجد احتضانا لأي معارضة وطنية عراقية ، سوى الحركة القومية الكردية التي كان لها مكتب في القاهرة وأورثوا الحضوة للقذافي المدافع عن “حق تقرير المصير”. لقد كان عبدالناصر يعلم علم اليقين،ماهية الحركة القومية الكردية،و مرجعيتها وتلونها وإرتباطها بإسرائيل وإيران والغرب والشرق وشركات النفط ،وأن هدفها المعلن والمبطن هدم الوحدة العراقية من أجل تأسيس دولة الأكراد القومية .و أثبتت الايام بعد نصف قرن من التضحيات والخسائر، بأنها لاتتمتع بأي نصاب واقعي وتعاني من التناقض والمآرب وإستحالة التحقيق، وهو ما أماط اللثام تباعا عن ماهية قياداتها ،ولاسيما لسواد أهلنا الأكراد الذي أستعملوا وقودا.
لقد حقق عبدالناصر ما أراد بغريزة الشامت المتربص،وبعامل مساعد أتاه من السماء،هو إصرار الغرب على هدم العراق، فقوض بالمؤامرة والدس سلطة الجمهورية العراقية الفتية التي أرادها الشهيد عبدالكريم قاسم أن تكون عراقية الوطن، وإنسانية وقسطاسية وعلمية المنهج. وبالنتيجة أطفأ عبدالناصر بانقلاب 8 شباط، الشعاع الذي أنبعث توا من جهد رهط المتنورين العراقيين الحثيث وأجهض مشروعهم النهضوي، الذي كان يبشر بأمل أنتظره العراقيون سبعة قرون عجاف،وفي تلك الحيثيات،يمكن اعتبار الزعيم عبدالكريم قاسم، أول عراقي يحكم العراق منذ تاريخ سقوط بابل عام 539 ق.م.
وفي خضم الأحداث أمست مصر القنطرة التي عبر عليها صدام حسين الى سدة الحكم في العراق .ونعلم جميعا أن عملية إعداده من قبل المخابرات الأمريكية قد تمت في سفارتهم في القاهرة،وعبدالناصر كان العراب ،والمصريون يعلمون ذلك،ولكنهم لم يعلنوها، لكي لاتفشى طبيعة الحبل المشيمي بين قيادة يوليو والضباط الأحرار وعبدالناصر مع الأمريكان. وقد شهد على ذلك الارتباط المشبوه، خالد إبن جمال عبدالناصر وكذلك العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري إبان أزمة الكويت،و أكد بأن عبدالحميد السراج حول صدام لعبدالناصر. وهنا يكمن التساؤل المحير،عن مصلحته مصر وعبدالناصر في إيصال صدام للأمريكان،والذي تم على يده تهديم العراق بلدا ورخاءا وثقافة وتاريخ ومستقبل،وأدى الى احتلاله تباعا.
أن تغليب نظرية المؤامرة هنا هو الأجدر في خضم كم المجهول الذي يحيط بالأحداث ، واجزم أن من يروج الى عدمها ويخشى طرقها ويتهكم من شيوعها هو سلفي بطريقة أخرى،حينما يرتضي بالأمور وعلاتها وقدريتها، دون تمحيص أو غور في جبريتها. وهكذا فان تسبيق الظن بالمؤامرة حالة شكية محركة لملكات العقل ستفضي حتما الى الحقيقة أو قربها.وهنا يجدر أن يتبع ما أستجد وإبتدع في التاريخ الى تلك “الشكية” والبحث عن اليقين خارج المعلن.
أخلص الى القول بأن ثمة مؤامرة على العراق وهويته وثقافته ومشروعه الحضاري ،سلكت الطريق السياسي، الذي يبقى المفتاح والحل في غياب منظومة قيم وتقاليد راسخة ، لا تحيد عنها في مناخات التغييرات السلطوية. وإذ نتهم الغرب صاحب المصلحة و مشاركة “أشقاءنا” العرب والمسلمين في ذلك،وإستخدامهم كقنطره يعبرون عليها. فما معنى ياكرام أن تنهار كل القيم الحضارية خلال العقود الأربع التي تلت إنقلاب البعث في 8 شباط 1963،والذي خططته وكالة المخابرات الأمريكية ومولته مع شركات النفط وأمراء الكويت ومعين شاه إيران، ونفذه البعثيين المرتبطين بسوريا والأردن ومن ورائهم مصر.
وهنا نقول ناصحين جيران العراق بأن ضعف العراق لايخدمهم البته،،وأن مقاصدهم في إحتواء وإذلال وتهميش العراق والعراقيين سوف تنتهي الى كوارث.فللشعوب ذاكرة ،وها هي أجيال تلقن ماسبقها من أجيال. وأجزم أن ما يستعملون من وسائل لتخريب العراق سوف تنعكس عليهم تباعا مثل السحر على الساحر،ودليلنا الإرهاب والتفخيخ و الحرب الطائفية، التي انتقلت بسرعة غير متوقعة لهم، والأيام سجال و حبلى بالأحداث.
وثمة عظة نستلهمها من تجربة الشعوب ،فها هم الفرنسيون حاربوا كل جيرانهم برعونة،من ألمان وأنكليز وإسبان وهولنديين وطليان على قرون طوال،و حاولوا الاحتلال والاحتواء .لكن وبعد أن كلت مساعيهم، و ضاعت ريحهم وخارت قواهم ،وسلموا أمرهم للمحتل الأمريكي في مشروع مارشال بعيد الحرب الثانية، تآخوا مع جيرانهم اليوم، ورموا ضغائنهم و”غرائزهم التاريخية” خلفهم ،وحكموا العقل، وانخرطوا في مشروع (اليورو) اللاقومي. والأمر يمكن أن نطبقه على العرب وموقفهم من العراق،ففي الوقت الذي مازالوا يدجلوا بأنهم محبين له ومتواشجين مع ميراثه وبغداده العباسية، وخائفين على أهله،لكنهم يهدموه بمعاول الخبث والطعن من الخلف .
لقد فات العرب والمسلمين أن يعوا أن ارتقاء العراق وثقافته هو إرتقاء لهم كونها ثقافة عربية”كما يدعون”،ولو أن العراق أكثر منهم عروبة وإسلاما، حيث أن 80% من المنتج الفكري الإسلامي هو عراقي محض، وأهله اصحاب فضل على الجميع.ويجب أن يعوا أن التسلق على أكتاف العراق والإستئثار بمقدراته وثرائه،ربما ينفع لحين، لكنه سوف يسقطهم ويكشفهم تباعا . فياليتهم يبنوا مع العراق كتفا لكتف ويد بيد ،وليس كتفا تتسلق على كتف العراق ، ويد تحفر قبرا للعراق او تبتزه أو تسرقه.وهنا تكمن مشكلة العراق ومشروعه الثقافي والحضاري الذي طال أمد إنتظاره، والأمل معقود على النخب الواعية وطول نفسها وإيمانها بأن العراق قادم لا محالة، وللتاريخ أحكام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *