اسم الكاتب : رياض سعد
البتاويين حي البؤس والضياع والانحراف
ان حي البتاويين : عالم من فوضى الزحام والخراب والاندثار والاطيان والاوساخ ومناظر لا تعرف السرور , واصبحت قطعة من مدينة صناعية ومحلات لبيع المواد الانشائية وتأجير الآلات ، و فيها كل اشكال التصليحات للسيارات وسواها، ومحال تجارية مكتئبة بأغطية الدهونات والزيوت... ؛ بينما اعالي البنايات فيها مكفهرة وكئيبة وحزينة ولا تسر الناظرين ، لاسيما تلك التي يعود تاريخ بناءها الى سنوات بعيدة … ؛ و الجديد منها لا يدهش العين وعمارته سيئة للغاية… ؛ واينما تولي وجهك تشاهد اكوام النفايات والطين والارصفة التي تزدحم بالعابرين والواقفين والبائعين وثمة كلاب تختلط بالناس البائسين و(المكاريد) المظلومين … ؛ كما تتميز منطقة البتاويين بكثرة الفنادق وبمختلف الدرجات، ومخازن بيع المشروبات الكحولية والمطابع والمصانع ومكاتب الغش الصناعي والطبي , و دور انتشار تجارة الجنس، و عصابات المخدرات والخطف والجريمة المنظمة وتجارة الاعضاء البشرية والتزوير , و بسطات بيع الاقراص الاباحية والمنشطات الجنسية … الخ .
اما سكان الحي فهم خليط غير متجانس ؛ فلا تستغرب وانت تسير في ازقته , ان ترى شخص مسلح , او اخر سكران يترنح , او ثالث نائم على الرصيف ولا يشعر بالحر بسبب جرعة من المخدرات , او مومس تدعوك اليها لممارسة الجنس , او وجوه مخيفة لا رحمة فيها او شخصيات مرعبة تثير الريبة , او مراهقين يحتسون الخمر او يدخنون الحشيشة … الخ .
علما اني من الاشخاص الذين يؤمنون بأن الجريمة مسؤولية مشتركة , وان المجرم ابن بيئته , والجريمة وليدة المجتمع ؛ فلا يفهم من كلامي هذا اني اقسو على ضحايا المجتمع ؛ فأغلبية سكان الحي من العراقيين الاصلاء ؛ وهم من الذين لاكتهم “حروب صدام وأجرام بعثه القذر”، ومن ضحايا الارهاب ومخرجات الاضطراب السياسي ؛ فرست بهم الحياة بذلك الحي .
واغلب شباب المحافظات المهاجرين الى بغداد والباحثين عن فرص العمل فيها من الذين يسكنون في حي البتاويين ؛ يتعرضون للتحرش والتهديد والاغراء والتهديد من قبل شقاوات المنطقة ومجرميها العتاة ؛ وفي حديثها لـ\”المدى\” قالت صفا، التي تمارس البغاء : استشهد أبي في السنة الثالثة من الحرب العراقية – الإيرانية وكان عمي يعيلني لكنه استشهد أيضا في الأحداث الطائفية في عام 2005، لذلك لجأت إلى ممارسة البغاء … ؛ وتابعت : بعد أن أهلكني الفقر التقيت صدفة بإحدى الغجريات اللواتي يرقصن في الأعراس في بعض القرى، وعملت معها كراقصة، ثم امتهنت البغاء وهربت من مدينتي خوفاً من أقربائي وعشيرتي … ؛ فيما بينت منال ، التي تمارس البغاء أيضا : أنا لا أخشى أحداً فعائلتي كلها من الغجر وأمي عاهرة ولقد باعتنا منذ الصغر… ,وأضافت : أمي أنجبت شقيقتيّ بعلاقات غير مشروعة مع الرجال … ، متسائلة : ماذا يريد المجتمع منا وأين هو عندما طحننا الفقر ، ولماذا ينظر إلينا باحتقار؟؟!! ؛ ولفتت منال : أقول للجميع أنا بشر مثلكم ، وإن عشت حياة رخيصة ، فذلك لأن أحداً لم يمـد إلي يــد العون ، مضيفة : ما دمتم غيارى أنقذونا ، فالبعض يبيعنا إلى دول الجوار …!!
والدكتور صبيح عبد المنعم، المتخصص في علم الاجتماع، أكد أن : ظاهرة البغاء موجودة في كل المجتمعات منذ القدم وليست جديدة – وقد استفحلت هذه الظاهرة في العراق في تسعينيات القرن الماضي بسبب الوضع المأساوي آنذاك – وتزيد هذه الحالات بسبب الانحلال الاسري والضائقة المالية… ؛ ويرى أن الحل يكمن بإزالة الأسباب والدوافع التي دفعت النساء للبغاء ومنحهن راتبا يكفيهن ليعشن حياة كريمة … ؛ أما الباحثة النفسية ابتسام إبراهيم فتشير إلى أن هناك حلولا لهذه الظاهرة ، منها تعيين باحثات نفسية واجتماعية يكون دورهن توعية من تمارسن البغاء، وغلق بيوت الدعارة في أغلب مناطق بغداد وخاصة في المنطقة المذكورة والتشدد في معاقبة مَن تمارسن البغاء … ؛ وتشدد على ضرورة إنشاء المزيد من أماكن الترفيه العامة التي تشجع الشباب على التعبير عن طاقاتهم الإبداعية ، لأن أوقات الفراغ لدى الشاب تدفعه للخطأ ، على حد قولها… ؛ غير أن الناشطة النسوية في جمعية الأمل العراقية هناء أدور قالت: إن القضية ترتبط بالوضع المأساوي الذي يمر به العراق من فقــر وبطالة وعدم استتباب الأمن ، والفساد المالي والإداري، كل هذه الأسباب وغيرها تدفع الشباب إلى الانحراف… ؛ وترى أن الحل السريع يكمن من خلال توفير مستلزمات الحياة الأساسية وهي السكن والراتب لتأمين حياة كريمة … .
واليكم بعض قصص سكان الحي ؛ حيدر الأسمر البصري ذوالـ26 عاماً، ثملٌ طوال الوقت، لكنه يجيد الحديث باتزان وصدق “فالسكر مرآة الحقيقة” كما يقول… ؛ يروي هجرته من البصرة بعد غرق والده في شط العرب وزواج أمه وهو ابن الـ 12 ربيعاً ، ثم هجرته إلى بغداد وتَنقله في العمل بين المطاعم والفنادق … ؛ تنهّدَ قائلاً : “أنتم المترفون تستلذون بمآسينا لتشعروا بقيمة حياتكم”، وطلب الأركيلة مقابل إكمال حديثه ، ثم استطرد مستذكراً حبه لفتاةٍ كرخية لم تسمح الطبقية لهما أن يُتوجا حبهما بالزواج ، ما دفعه إلى اليأس حتى وصل لمنطقة البتاويين باعتبارها سكناً رخيصاٌ ، لكن سرعان ما أدمن الخمر وحبوب الهلوسة… ؛ حيدر يمتلك كاريزما وهدوءاً جعلاه محبوباً من الجميع ، ما حدا بأصحاب محال بيع المشروبات الكحولية والمقاهي جمع مبلغ يومي له مقابل تنسيقه مع الجهات الأمنية في حالة وجود مداهمة، أو لتخليص من يقع في أيديها ممن لا يمتلك أوراقاً ثبوتية، أو ترتيب أمور أخرى تخص ساكني المنطقة، متسائلاً : “لولا نشوة الخمر والسكر أيستطيع إنسان العيش في هذه المنطقة”؟!
موجات كئيبة من جموع الأطفال تنطلق بشكل يومي من المنطقة تغزو تقاطعات وشوارع العاصمة بغداد للتسول بشتى الطرق ، بين بيع العلكة وتنظيف زجاج السيارات وصبغ الأحذية… ؛ يحلِّقون كأسراب نحل كل مجموعة من ثلاثة إلى أربعة أطفال تتأرجح أعمارهم بين أربع وست سنوات مع يافع يقودهم… ؛ ثم يعودون إلى الفندق مع عودة الشمس إلى مخدعها ، فيما تتنوع أعمال الأمهات بين الدعارة والتسول والعمل في المقاهي والنوادي الليلية… ؛ و الكثير من الأطفال مجهولو الأب ؛ او يتم بيعهم من قبل ابويهم , او يتم خطفهم … ؛ و العامل المشترك لأولئك النسوة هو النزوح من المحافظات العراقية او من باقي مناطق بغداد بسبب الفقر أو البحث عن عمل ، بالإضافة إلى من هربن بسبب “غسل العار” الذي يؤدي إلى قتلهنّ وفق العرف الاجتماعي لتلك المحافظات… ؛ فالهروب والوصول إلى بغداد يجعل الهارب فريسة سائغة لسماسرة النساء المنتشرين في مرائب السيارات والباصات الرئيسية، حيث يُستدرجن إلى أماكن البغاء… ؛ ويُجبرن على العمل مع “مستقبليهن” بعد أن يسحب هؤلاء أوراقهن الثبوتية ويعرفوا عناوينهن الحقيقية، فيقعن تحت التهديد خوفاً من الاتصال بذويهن... ؛ واذا كان حال البتاويين بهذا الشكل حاليا ، فهذا لا يعني ان النظام السابق المنحل كان مسيطرا عليها ، فحال هذا الحي هو نفسه ولم يتغير، لكن بشكل اشد في زماننا الحالي ؛ وقد مر عليكم في الحلقتين السابقتين ما يؤكد ذلك . (1)
سارة وأحمد ونور أطفال بملابس رثة نُقشت في مخيلتهم فنون التسول والتذلل والخداع، أمانيهم لا تتجاوز أكلةً شهية ويداً كريمة ترفع من محصولهم اليومي لينالوا رضا الأم، وقوة تبعدهم عن المنافسين ومالكي التقاطعات من عصابات التسول … .
المعاناة لا تقتصر على من فقدوا السيطرة على حياتهم وتماهوا مع هذه المنطقة، هناك سواهم ممن يعاني بشدة… ؛ فالسكان الأصليون المتبقون هم عوائل مسيحية لا تملك المال الذي يمكِّنها من الانتقال إلى منطقة أخرى، ولاسيما أن منازلهم لا تُباع وبدلات إيجارها بسيطة جداً… ؛ يقاتلون للعيش وتربية أولادهم بعيداً عن تلك الأجواء… ؛ ومع أنهم يحظون باحترام وتقدير الباقين، إلا أنهم لا يشعرون بالأمان… ؛ تروي “مورين” طالبة الحقوق في السنة الثالثة معاناتها في الكلية بسبب سكنها في البتاويين ، باعتبارها المنطقة الأسوأ سمعة في العراق، ويستغرب “يوسف في وقت سابق ” إهمال الأجهزة الأمنية للمنطقة التي تمثل الحاضنة الأكبر للمجرمين والهاربين من القانون، حيث مختلف أنواع الجريمة تمارس في وضح النهار، فيما تتخذ الأجهزة الأمنية موقف المتفرج… لتبقى علامات الاستفهام قائمة حول من يقف خلف ذلك كله، مغيباً دور السلطة والقانون جاعلاً الدولةً محكومة بشريعة الغاب.(2)
………………………………………………………
- براونزفيل بغداد .. بؤرة العنف والمخدرات والاتجار بالبشر / محمود المفرجي الحسيني / بتصرف .
- حي البتاويين في بغداد : بؤس قاع المدن / محمد المحمودي.