اسم الكاتب : شفان إبراهيم
تعجز الأنظمة العربية عن احتضان وتقبل الأخر المختلف لغوياً وقومياً. وتترفع عن الاعتراف الدستوري بها، ما يدفع بمفهوم المواطنة إلى صدارة المسرح المشوه. ومع استحالة تطبيق المواطنة مع سؤد مبدأ الأغلبية السياسية، أو صبغ الدولة بلون قومية واحدة، فإن النحرّ السياسي يجد طريقه معبداً بسلاسة.
وبموازاة نسف مفهوم المواطنة وفقدان الكوردي شعور الانتماء إلى العراق. فجرت أسئلة من قبيل الأمة والوطن والدولة، شعب واحد أم شعوب متنافرة، حق تقرير المصير للشعوب المتجانسة والمتمايزة عن الأغلبية الشعبية. فجرت الأنساق المضمرة لدى عامة الكورد والعراقيين والنخب الفكرية والسياسية.
فمنذ انهيار جمهورية مهاباد لم ينفصل نضال الكورد عن مطاليب عموم الحركة السياسية العراقية المعارضة للنظام الحاكم وحتى الإطاحة بنظام البعث. لكن لم تتغير نظرة الفئات المختلفة للقضية الكوردية إلا بما يتوافق مع وضعيتهم السياسية والحيز الجغرافي الذي يسكنوه. ولم يكن العراق الجديد سوى نزعات مذهبية متثوبة برداء المواطنة. وأنحسر هم الشيعة في الدفع بمظلوميتهم لاستثمارها بما يخدم أجنداتها وتحالفاتها الإقليمية، وليس قادة لكل العراقيين!
فوجد الكورد أنفسهم بين حلم الدولة الكوردية والتعنت العراقي نحو إعادة نزعة المركزيات بشكل خفي متستر وراء الدستور الوهمي. ومع إهمال العراقيين للصوت الكوردي منذ عقود، بقيت ثنائيات الوطن والمواطنة، الأمة العراقية أم الأمة الكوردية، دون حلّ أو جواب شافي. صراع الثنائيات هذه يشير إلى حقيقة توجه العراق نحو المركزية الاستبدادية المرتبطة بالتيارات السياسية الشيعية، والمتكئة على الأغلبية الطائفية التي تؤمن سلاسة تمرير أي قرار دون أي اكتراث لباقي المكونات العراقية على اختلاف اروماتها السياسية.
تتفاقم الأزمة لتتجه نحو البحث عن مفهوم الأمة العراقية وإمكانية التعايش لمكونات مختلفة ومتنافرة تاريخياً، وخوض سلسلة من الثورات والنزاعات العسكرية والثورية بين الجانبين. خاصة وأن الهجمة العراقية بحد ذاتها تعني إن أعواماً من الحياة السياسية الكوردية – العراقية وكأنها لم تكن، ولم تأسس لواقع سياسي مختلف في المنطقة كُلها.
لكن بموازاة ذلك لم يقتصر التفسخ السياسي وانهيار السيادة الوطنية على العراق العربي وحده. بل قابله مفهوم السيادة الوطنية لإقليم كوردستان العراق وإفساح شخصيات سياسية وعسكرية كوردية المجال أمام الحشد الشعبي والقوات العراقية لدخول كركوك. صحيح أنه حتى اللحظة لم تفلح جميع الجهود في قيام الدولة القومية الكوردية، لكن الضغوطات والحروب أيضا لم تفلح في إنهاء الحلم الكوردي. ومع نسبة ال92% من المطالبين بكيان قومي كوردستاني فإن المطلوب الآن في هذه اللحظة وليس غداً أو بعد غد، المطلوب الاعتراف أولاً بالهزيمة في كركوك، والنقد الذاتي بعد الهزيمة. الأجمل في كل الهزائم التي مُني بها الكورد إن هزيمة المعنويات لم تجد لها طريقاً إلى نفسية وعقلية الكوردي، لكن الإقرار بعمق الشعور بالإهانة ومرارة الهزيمة الأخيرة ربما تكون طوق النجاة للمستقبل الكوردي. خاصة وأن ثبات الإقليم في وجه التمدد الشيعي، ووقوفه ضد محاولة استمرار العبادي في إهانة الكورد يقابله ثبات كوردي في امتصاص الصدمة والهجمة، لكن السؤال إلى متى؟ لذا فإن ردة الفعل الكوردية المطلوبة إن تأخرت فإنها ستكون مقبلة على أزمة تطور الانسلاخ والانزياح القومي لبعض الأحزاب الكوردية ما يُعجل من إمكانية تغلغل النفوذ الإيراني بشكل ضخم جداً.
إن لم تتدارك القوى الضامنة لمشاريعها الفئوية والمستندة على تأمين أغلبية طائفية، وتتجه نحو فتح باب حوار جديد بعيداً عن إلغاء نتائج الاستفتاء وتقديم أوراق اعتماد الإقليم السني، فإن دخول القوة المحركة للشارع السني إلى جانب الفعالية الكوردية الجديدة، سيعجل من الاصطدام النهائي بين المكونات المتنافرة. خاصة وأن المناطق المتنازعة عليها لا تزال ترزح تحت عباءة الفكر الريفي، ولا تزال بناها التقليدية متماسكة ومتراصة، يقابلها استمرار الخلاف حول تأريخ قومية والولاء السياسي لأبناء تلك المناطق، ما يؤجل احترام رغبة ساكنيها ما بين الانضمام إلى الريف الكوردي والزحف نحو المدنية والمدينة، أو الانضمام إلى الريف العراقي النائي والبقاء في مستنقع التحضير المستمر لاستغلال أبناء تلك المناطق لتصدير الانتحاريين والإرهابيين صوب أي طرف مخالف للأغلبية الشيعية.
وما بين رفد حكومة الإقليم بثقل بشري جديد، أو رفد بغداد بعناصر مطلوبة لتنفيذ عمليات بشعة، فإن الأتفاقيات القادمة ستوضح لمن تكون المناطق المتنازع عليها بمثابة الذراع القوية في حسم الخلافات الداخلية الكوردية، والتنافس الانتخابي في الإقليم، أو الصراع الكوردي العراقي. خاصة وان الغالبية الساحقة لأبناء هذه المناطق تدين بالولاء للديمقراطي الكوردستاني، والجناح المتحالف مع الديمقراطي ضمن الاتحاد الوطني الكوردستاني، وهو ما سيساهم في الاستمرار في مشروع الاستفتاء من عدمه خاصة التركيبة السكان في كركوك. أم ستكون الذراع القابضة على أرواح ال92% من المُستفتيين على الاستقلال وستساهم في تعميق النزاعات الإقليمية والمحلية.