اسم الكاتب : حسين درويش العادلي
الخطيئة الكبرى التي مارستها المدارس العراقية الإيديولوجية تمثلت بغياب وتغييب المدرسة الوطنية القائمة على أساس من الخصوصية والمصلحة العراقية، إن فشل مشروع الدولة الوطنية يكمن في أدلجتها، هو فشل مدرسي إيديولوجي أنتجته المدارس العراقية.الدولة المؤدلجة ما زالت الدولة لدينا تعيش خطيئة التأسيس، فلم تنتج بعد النواة الصلبة لأمة وطنية تستندها الدولة في وجودها وبقائها، فالعراقيون منقسمون تجاه قضاياهم الكبرى: الدولة كإطار وطني، السلطة كمركز شرعية، الثروة كقوة توظيف وتوزيع، التعايش على اساس من قبول الآخر،.. ومعظم ما لديهم ينتج التباين: الذاكرة الدينية والتاريخية، التابوات والإيديولوجيات، التجارب البنيوية للدولة العراقية الحديثة، التنوع المؤدلج..الخ. المحصلة، لدينا واقع منقسم ومتحيز ومتخندق بالذاكرة التاريخية والهويات الفرعية العرقية والمذهبية والمناطقية والتحيزات السياسية التي انتجتها الدولة. إن التحيز والتخندق العرقي والطائفي القائم خير دليل على تشتت الذات الوطنية، وسيادة التشظي والتحيز لذوات الجماعات والمجموعات المجتمعية في صورها البدائية. قام العراق الحديث العام 1921م على أساس من مشروع (الدولة/الأمة)، وليس مشروع (الأمة/الدولة)، صحيح أن العراق الحديث وارث للعراق التاريخي، إلاّ أن خط شروعه كأمة سياسية وطنية بشكلها المحدد يبدأ من عام 1921م، وكان من المؤمل أن تنجح الدولة بخلق الأمة (خلقنا العراق وعلينا خلق الأمة العراقية)، ومعيار النجاح هنا: خلق الأمة الوطنية (أمة الدولة) ذات الإنتماء والهوية والمصالح المشتركة، وهو ما لم يحدث. إنّ العلة الأساس التي انتجت الإنهيارات والتصدعات على صعيد أمة العراق الإنسانية والوطنية، يكمن في فشل مشروع الدولة العراقية كإطار مؤسسي قادر على استيعاب التنوع وحل الخلافات وتحقيق المصالح وخلق الوحدة الوطنية. عوامل عدة وراء فشل مشروع الدولة العراقية، وفي الطليعة تأتي (العلة الإيديولوجية)، فقد وقع مشروع الدولة منذ التأسيس ضحية المدارس الإيديولوجية، فكيان الدولة تنازعته ثلاثة مديات ايديولوجية، هي: (القومية والماركسية والدينية)،.. في ظل غياب كامل للمدى الوطني. وقد تلبّست المديات الثلاثة بمناهج بُنيوية حملت الدولة بالقوة على وفق رؤاها وبرامجها وسياساتها كسلطة ومعارضة وثقافة ودونما أدنى مرونة، والأعقد هنا تداخل هذه المديات في تكوين وتشكيل الهوية والإنتماء والمصالح لدى النخب المجتمعية والسياسية والجمهور معاً، من هنا نلحظ أنَّ مأزق كيان ووجود وانتماء الدولة العراقية تتشاطره مفاهيم ووظائف وأدوار من قبيل: الوطن العربي والأمة العربية والدولة القومية، والوطن الإسلامي والأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، الوطن البرولتاري والأممية والدولة الإشتراكية..الخ. في خلط وتنازع مفاهيمي وبرامجي أفقد معه مشروع الدولة الإنتماء والتشكّل والدور والوظيفة والوحدة النوعية، وقادها الى التسلط والتمييز والإنحياز. إنَّ الخطيئة الكبرى التي مارستها المدارس العراقية الإيديولوجية تمثلت بغياب وتغييب المدرسة الوطنية القائمة على أساس من الخصوصية والمصلحة العراقية، إن فشل مشروع الدولة الوطنية يكمن في أدلجتها، هو فشل مدرسي إيديولوجي أنتجته المدارس العراقية وبالذات المدرسة القومية. يكمن الفشل البنيوي للمدارس العراقية في تضحيتها بالأسس المعيارية لتكوين الدولة كأمة سياسية،.. إنَّ خطاب وبرامج المدارس الثلاث غيّب أهم معايير نجاح مشروع الدولة الوطنية، واقصد بها معايير الرابطة والنظام واللازم: الرابطة السياسية (المواطنة)، والنظام السياسي (الديمقراطية)، واللازم المجتمعي (التعايش)،.. لقد استعاض المشروع القومي بالرابط العرقي لتشكيل الدولة، واستعاض المشروع الماركسي بالرابط الأممي لتشكيل الدولة، واستعاض المشروع الديني بالرابط الديني لتشكيل الدولة.. في أدلجة لرابطة العضوية السياسية للدولة أنتج التعويم والإستلاب والتداخل والتدخل وفقدان هوية التجربة وخصوصية الدولة،.. فعلى سبيل المثال: تم أدلجة الفكرة القومية – البريئة والمحايدة بذاتها – وجعلها رابطة سياسية لتكوين الدولة، والأساس لهويتها وثقافتها ومصالحها،.. ومع وجود التنوع القومي والعرقي تصبح هذه الرابطة لازم تناحر وتصارع وطني، كونها لا تعبر عن جميع الإنتماءات العرقية والقومية، وتقود بالضرورة إما الى الإنصهار في بوتقة القومية الرسمية الحاكمة، وإما الى الإنفصال. إنَّ وجود التنوع الديني والقومي والطائفي في جسد الدولة الواحدة يوجب بالضرورة اعتماد رابطة محايدة تصدق على جميع التنوعات المجتمعية، وليس هناك غير رابطة المواطنة تستطيع ضمان الإعتراف المتكافىء لمنتسبي الدولة. فشل الدولة كأمة سياسية بفعل فشل الرابطة السياسية المشكّلة للدولة وغياب النظام الديمقراطي اللازم لإنتاج الإستقرار والسلم.. أدى إلى تشتت المجتمع كأمة إنسانية وتحوّله إلى جماعات ومجموعات بفعل فشل مرتكزات التعايش السياسي. إنّ انهدام وتشيؤ المجتمع بشقيه الإنساني والسياسي، لا يقضي فقط على الدولة كجماعة سياسية، بل على المجتمع أيضاً كجماعة إنسانية،.. وستكون المحصلة خلق مجتمع اللا دولة ودولة اللا مجتمع. الدولة ظاهرة اجتماعية/تاريخية لا يمكن أن تنتج إلاّ على أساس الهوية السياسية الوطنية، ومقتلها بأدلجتها واعتمادها لفكرة المكون القومي أو الديني أو الطائفي أو العشائري أو المناطقي، ولا يمكن خلق أمة الدولة إلاّ بسيادة فكرة الدولة (القانونية/المؤسسية/المدنية) المصنعة على وفق معادلة (الأمة/ السلطة/ الثروة) والمنتجة على وفق مركّب (الخصوصية/ العدالة/المصلحة) وعلى وفق قاعدة (المواطنة/الديمقراطية/التعايش)، وهو ما ضحت به الإيديولوجيات السياسية التي تعاطت مع مشروع الدولة.ما بعد الدولة المؤدلجة تأثير الإيديولوجيات السياسية على الدولة (سياسياً واقتصادياً وثقافياً واعلامياً) كان قاتلاً منذ تأسيسها، فأتى زالزال 2003 كمحصلة حتمية لإنهيار مشروع الدولة الملفقة على وفق ايديولوجيات عائمة ومتخيلة ومنحازة، فورثنا عام 2003 ركام مجتمع وحطام دولة،.. مجتمع الأفراد والجماعات والمجموعات العرقية والطائفية والمناطقية المأسورة بهوياتها ومصالحها الضيقة، ودولة السلطة المتكثرة بكثيرة الأفراد والجماعات والمصالح. بغض النظر عن النتائج التي ترتبت على طريقة تغيير النظام الصدامي المستبد، وبغض النظر عن طبيعة الممانعات والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية الهائلة المتأتية من القوى المتضررة من التغيير، وبغض النظر عما أفرزته طريقة الإدارة لملفات الإنهيار من إرهاب وجريمة وفوضى ألقت بظلالها على البديل المراد انتاجه.. إلاّ أنّ ما تم إنتاجه –سياسياً- بعد التغيير كان تأسيسا لحزمة أزمات مستحدثة زادت أزمة الدولة تأزماً،.. فطبيعة المنظومة السياسية المركبة على العملية السياسية كرؤى وسياسات وأجندة كشفت عن حجم الأخطاء والخطايا التي أوقعت التجربة في دوامة الأزمات المستنسخة والمتناسلة.. حتى غدا كل شيء أزمة: هوية الدولة، شكل نظامها السياسي، الإنتماء والولاء والتعايش والتماسك الوطني، إدارة السلطة وتوظيف الثروة، الدستور والقوانين والثقافة،.. ولقد وظفت الإيديولوجيا العرقية والطائفية والمناطقية كافة التناقضات والإنهدامات التاريخية لتجذر هذه الأزمات قيمياً وسياسياً واعلامياً.. وقادنا لخطر الإنهدام الكلي لبنية المجتمع والدولة. قصور الرؤية في الوعي والتخطيط والإدارة لطبيعة الأزمة العراقية.. رهن البلاد لإحتمالات الإنهدام أكثر فأكثر، فلم تدرك القوى التي أسقط الدكتاتورية الصدامية -أجنبية كانت أم وطنية- حجم التأثيرات السلبية العميقة التي تركت آثارها على بنية المجتمع والدولة طيلة عهود الدولة العراقية في القيم والثقافة والهوية.. لم تع ما معنى الإنتقال من بنية حكم استبدادي مطلق الى ديمقراطي تعددي مفترض، ومعنى الإنتقال من المركزية السياسية والإقتصادية المفرطة الى اللامركزية أو الفدرالية أو الكونفدرالية، ومعنى التحول من نمط الدولة الإيديولوجية والبطرياكية والأبوية الى الدولة المدنية، ومعنى تغيير الفضاء الجيوسياسي للدولة وتأثيراته الإقليمية والدولية،.. لقد ترجمت العملية السياسية -كمرتكزات وسياسات- قصور الرؤية هذه وتواضع الفكر والتخطيط الستراتيجي المعني بإنتاج الدولة الجديدة. نعم، ورثنا فشل مشروع الدولة.. ولكن قصور الرؤية وسوء التخطيط أعاد إنتاج أزماتها المزمنة وأدخلها في نفق أزمات جديدة أجهضت البديل على يد العملية السياسية ذاتها،.. لقد أفرزت العملية السياسية أدلجة من نوع آخر، قامت هذه المرة على أساس من فكرة المكوّن العرقي والطائفي على حساب مبدأ المواطنة مما حال دون خلق الأمة سياسية للدولة، وأتى بفكرة التوافق على حساب الإستحقاق الإنتخابي مما حال دون وحدة السلطة، وكرس الإعتراف والمصلحة على أساس من الهويات الفرعية مما صادر محاولات التأسيس لهوية الوطنية. استناداً لذلك، علينا أن نعي: بإنّ مشروع بناء الدولة الوطنية هو مشروع تفكيك وبناء قبل اي شيء آخر، هو تفكيك لبنية المدارس السياسية المتعاطية ومشروع الدولة على أساس من الشموليات والتابوات والنمطيات الإيديولوجيات الواهمة أو المتخيلة أو الحالمة، وهو بناء لمشروع المدرسة الوطنية المنتجة لرؤى وخطاب وبرامج مستمدة من الخصوصية والمصلحة العراقية لا غير. الدولة الوطنية تنتج من خلال عملية إعادة بناء أنساق المجتمع التقليدي والدولة التقليدية على وفق مرتكزات: المواطنة كعضوية الكاملة بين الدولة ورعاياها، والديمقراطية العددية كنظام لإنتاج السطات، والتعايش كقاعدة لوحدة الأمة الوطنية، والمدنية كجوهر منتج للتقدم، والتنمية كلازم رخاء وتطور. يتطلب انجاح مشروع (الدولة/الأمة) العراقية انبثاق (كتلة تاريخية وطنية) تتوحد في رؤاها وسياساتها واراداتها تجاه مشروع الدولة الوطنية المدنية، والتحوّل رهن ولادة وريادة هذه الكتلة التاريخية الموعودة. |