اسم الكاتب : محمد مجيد
“لا آل جويبر ولا حجام بعد يسكنون كل العراق ودمهم مهدور الى يوم يبعثون من كل عراقي يكضبهم بالشمال والجنوب والوسط…..كل واحد من آل جويبر يلقى عليه القبض كل واحد من آل حجام يلقى عليه القبض… وبعدين احنه نصفيه ”
اللواء كمال مصطفى عبدالله التكريتي قوات مصطفى حرس جمهوري ..اذار ١٩٩١
اعقبت كارثة حرب الكويت ونتائجها المروعة من تدمير للبنى التحتية وتحطيم للقدرة العسكرية العراقية وقبول السلطة بحزمة قرارات الامم المتحدة المنتهكة للسيادة العراقية, اكبرحركة جماهيرية في تأريخ العراق الحديث.
كانت انتفاضة اذار عام ١٩٩١ حداً فاصلاً في تأريخ العراق وهي اكبر تهديد داخلي واجهته سلطة الرئيس صدام خلال فترة حكمه الطويلة. هذا الفصل مخصص لتوثيق ذلك الفصل المهم في تاريخ العراق.
النهج الذي اتبعته في هذا الفصل هو توثيق روايتين للحدث، رواية من قبل من عاش أو شارك ووثق الحدث، ورواية ثانية لنفس الحدث هي رواية السلطة متى ما توفرت الوثيقة. مصادر الرواية الأولى كانت كتب أو مقالات نشرت في فترات متباعدة، ومصادر الرواية الثانية كانت من مراجعة أرشيف القيادة القطرية لحزب البعث وهو موجود في Hoover Institute في جامعة ستانفورد، وخلاصة محكمة الانتفاضة، ومقالات جريدة الثورة وكتب وافلام أخرى انتجتها السلطة. الغاية هي محاولة توثيق الحدث من جانبين لتكتمل الصورة عنه ولسرده بشكل موضوعي ومتوازن. الغاية الثانية هي محاولة اجابة عن اسئلة لفهم الانتفاضة. تلك الأسئلة قمت بمحاولة الأجابة عنها في نهاية سرد أحداث الانتفاضة.
الشرارة الأولى
هناك قصة متداولة أشبه بالاسطورة عن بداية الانتفاضة خلاصتها أن ضابطاً أو جندياً في الجيش العراقي بعد عودته مهزوماً من الحرب في الكويت وقف أمام جدارية ضخمة للرئيس صدام في ساحة سعد في البصرة وبعد أن عاتبه على تسببه في الهزيمة التي لحقت بالجيش وجه سلاحه ،كان في رواية مدفع دبابة وفي رواية أخرى رشاشة, الى الجدارية فدمرها وسط جمهور غاضب فكانت تلك بداية الانتفاضة.
الرواية وردت في عدة مصادر ففي أول تصريح يدلي به معارض عراقي، روى السيد حسين محمد بحر العلوم لجريدة الحياة في ١٩٩١/٣/١١ ” أن ضابطاً عراقياً مسؤولاً عن كتيبة دبابات وصل الى ساحة العشار في البصرة وهو يحمل ذل الهزيمة ووقف يخاطب تمثالاً لصدام ويحمله مسؤولية هذه الهزيمة. ودفع به الحماس الى توجيه فوهة مدفع دبابته الى التمثال واطلاق قذيفة عليه فتفجر ساقطاً. وعندها انطلقت الجماهير المحتشدة في الساحة تهتف له وبسقوط صدام ثم امتدت التظاهرات الى أطراف البصرة ومنها الى العمارة والناصرية والسماوة والكوت وبقية مناطق العراق”.
تتكررت هذه القصة لدى محمد العباسي في كتابه من زاخو الى كربلاء مع بعض الفروق حيث ذكر “لقد بدأت الحركة العفوية للجماهير ومعهم العسكريون في صب جام غضبهم على النظام العراقي الذي حول الهزيمة العسكرية الى نصر اذاعي. وكان المشهد لاندلاع الثورة مثيراً فعند عودة أحد الضباط الى مدينة البصرة وكان محبطاً واثار الهزيمة تزلزل كيانه وجد صورة ضخمة لصدام حسين في أحد ميادين البصرة. فوقف يتأمله وهو يخشاه ثم بدأ يحدثه ويروي له ما حدث من مآس ولكن الصورة لم تتحرك أو تنفعل مما فجر الكبت الداخلي لدى الضابط الذي وجه رشاشه الى الصورة وصب جام غضبه على صورة صدام التي تحولت الى لوحة مليئة بمئات الثقوب وكان الناس يراقبون المشهد وهم مشدوهون وما أن سقطت صورة صدام حتى اندفعت الجماهير في أنحاء المدينة تدمر كل صوره وتماثيله.” لم يشير العباسي الى مصدر الرواية تماماً كما فعل السيد حسين بحر العلوم في تصريحه للحياة.
وورد في كتاب كنعان مكية القسوة والصمت ” بدأت الشرارة التي فجرت الانتفاضة في مدينة البصرة ذات الأغلبية الشيعية، واكبر المدن جنوب العراق، ويبدو أنها نشبت في الوقت الذي أصبح مفعول وقف النار الرسمي في حرب الخليج نافذاً عند الساعة الخامسة من قبل ظهر ٢٨ شباط ١٩٩١. فقد اندفع رتل من الدبابات الفارة من الكويت الى ساحة سعد، وهي امتداد شاسع مستطيل ومكشوف في قلب البصرة، فأوقف القائد على رأس رتله آليته في موقع موجه لجدارية عملاقة لصدام حسين مقامة الى جانب مبنى قيادة حزب البعث في الساحة، حيث يبدو صدام في زي عسكري. لقد وقف القائد فوق هيكل آليته وخاطب الصورة بخطبة لاذعة تتهم الديكتاتور ” ما حل بنا يا صدام من هزيمة وعار وخزي هو نتيجة حماقاتك، وحساباتك الخاطئة، وتصرفاتك غير المسؤولة”.
واحتشد الناس واصبح الجو مشحوناً جداً. ثم قفز القائد عائداً الى داخل دبابته وادار برج المدفع ليصوب باتجاه الصورة واطلق عدة قذائف، فانفجر الحشد مهتاجاً يهتف مشجعاً ومنشداً ” صدام أنتهى، كل الجيش مات”.
لم يتدخل أي من الدبابات أو الجنود الاخرين الذين كانوا في الساحة. والواقع أنهم سرعان ما أنضموا الى التظاهرة التي جعلت تكبر وتتسع. وانتشرت الانتفاضة مثل نار في الهشيم.”
وذكر مكية أنه سمع ” القصة للمرة الاولى مع بعض التفاصيل من السيد محمد بحر العلوم وذلك عندما تحدث في جامعة هارفرد في ٧ اذار ١٩٩١. أفعمتني كلمته بالحماسة، ورحت ابحث عنده عن التفاصيل الصغيرة. والقصة نفسها بتنويعات مختلفة، كررها أيضاً لاجئون كانوا قد فروا الى ايران أو هي ترددت بشكل غير مباشر على أفواه مشاركين آخرين كانت قد تحركت مشاعرهم بالرغم من أنهم جاؤوا من مدن أخرى.”
وقال مكية انه بحث ” عن شاهد عيان لتلك الساعات الأولى الحاسمة في البصرة” وحاول ” أعادة تأليف سياق التسلسل الدقيق للاحداث منذ تلك الشرارة الأولى في ساحة سعد، وصولاً الى الحريق الهائل والشامل في جنوب العراق وشماله وفي النهاية بدا ذلك مستحيلاً. ” ولم يستطع حتى أن يكتشف ” أسم القائد الذي قفز فوق الدبابة واطلق النار على صورة صدام حسين.” ولم يستطع أن يثبت” ما أن كان استطاع النجاة من انتقام الحكومة الشديد الذي تلا الانتفاضة”.
وردد نفس الراوية الدكتور عبد الحسين شعبان في كتابه ” عاصفة على بلاد الشمس” ” انفجرت الانتفاضة بعودة الجيش العراقي المنهزم ومصادفته صورة كبيرة لصدام حسين في البصرة، باطلاق رشقات رصاص من دبابة حولت وجهتها ثم امتدت وانتشرت الهبة الشعبية في المدينة واخذت ملامح وبوادر انتفاضة شعبية بالبروز عند انتقالها الى العديد من المحافظات العراقية في الوسط والجنوب ووصولها الى كردستان”.
وكذلك في تقرير منظمة حقوق الأنسان ” Endless Torment ” ” بدأ الجنود الغاضبون العائدون من الجبهة بالثورة على النظام” و ” استناداً الى معلومات من الناس، التي لا يمكن التأكد منها، فأن الانتفاضة بدأت عندما قام أحد قادة الدبابات برش زخات من مدفعية دبابته على صورة كبيرة لصدام حسين، ويقال أن هذا قد أوقد شعلة الانتفاضة لدى الجنود والمدنيين والمعارضة الشيعية السرية”.
أما العميد نجيب الصالحي في كتابه “الزلزال” فيصف البداية على أن من أشعلها أحد الجنود بعد أطلاق نيران بندقية على الصورة حيث ذكر “وصف لي أحد الضباط تلك اللحظة التي فجر فيها “الجندي المجهول” شرارة الغضب قائلا: كنا أفواجا من رجال … اختفت المناصب فيما بيننا وأزيلت الرتب، فصرنا جميعا منقادين إلى حيث لا ندري ونجري بلا وعي وفي كل ساعة يجابه أحدنا موقفا يفقد فيه السيطرة على نفسه… نلتفت يمينا فلا نرى إلا وجوها بائسة أرهقها السير وأذلها الموقف … ونلتفت شمالا فنرى جثثا مكدسة وجرحى يأنون هي حصيلة ما جرته سياسة النظام غير المسؤولة. وقد ينشغل الإنسان باستعادة ما عانى وما ينتظره فلا يلتفت إلى ما حوله وباتت مناظر الموت مألوفة ولم تعد مشاهد الدماء تفزع أحدا وما كانت آثار الدمار والخراب الظاهرة في كل مكان تثير فينا المشاعر.
وفي لحظة كنا نحلم فيها بلقمة أو بكوب شاي ساخن أو سيكارة، كان بالقرب مني جنود يبيعون بنادقهم ويتقاسمون أثمانها بينهم، وكنت أحمل مسدسا قررت أن لا أفرط فيه، وكانت مجاميع من الناس توقف سياراتها “البيك أب” وتكدس فيها الأسلحة التي يشترونها من الجنود، وأعتقد أن هؤلاء المشترين كانوا تجاراً ولكن، أية تجارة هذه ! أو أي صنف جديد من التجار هؤلاء.
كنت في هذه اللحظة على الطرف الآخر من صورة صدام.. نظرت إلى الجنود الذين كانوا في حالة مأساوية والإرهاق باد على ملامحهم.. كان كل واحد منهم يحاول أن يكيل السباب والشتائم للحاكم بأعلى صوته ويهتف ضده. ثم رأيت أحد الجنود وقد أعاد ثمن بندقيته إلى المشتري وانطلق إلى موقع الصورة ليفرغ فيها رصاصاته.”
أما فائق الشيخ علي ،في سلسلة ” قصة الشرارة الاولى” عن الانتفاضة العراقية في ذكراها الخامسة ونشرت في جريدة الحياة في عام ١٩٩٦، فهو شكك في القصة كلها وفي تأريخ بدء ومكان الانتفاضة حيث كتب” ماهي ألا ساعات تمر على وقف النار بين العراق والحلفاء في ٩١/٢/٢٨ واذا بالعراقيين ينقضون على النظام فجر الأول من اذار ٩١ ليهتز العراق من الفاو في أقصى جنوبه الى زاخو في أقصى شماله في واحدة من أعظم الانتفاضات العراقية في القرن العشرين. بدأت الانتفاضة في اهوار جنوب العراق قبل أن تعلن اية مدينة عراقية انتفاضتها ضد النظام، حين تحركت مجموعات من الثوار الهاربين ( من الخدمة العسكرية) واللاجئين الى هذه المناطق فشهروا اسلحتهم في وجه عناصر السلطة ومقراتها، وراحوا يحررون المناطق واحدة تلو أخرى، ولم يواجهوا في كثير من الأحيان مقاومة تذكر، ووصلوا خلال ٢٤ ساعة الى حافات المدن المطلة على الأهوار، ووصلت أخبارهم عبر المسافرين الى المدن الأخرى في الوقت الذي كان رجالها يستعدون ويخططون للتحرك ضد النظام.
وفي اليوم التالي، الثاني من اذار، تحركت مدينة البصرة التي انطلقت انتفاضتها من منطقة الحيانية ومعها الناصرية والعمارة ثم مدينة النجف الأشرف في الثالث من اذار، لتتبعها بقية المحافظات، وهكذا انتشر لهيب الانتفاضة الى مدن العراق لتعم الجنوب ولتنتقل في ما بعد الى الشمال وكلما كانت مدينة تحقق انتصاراً على السلطة تدفع مدينة أخرى الى الأسراع في اعلان انتفاضتها.”
وهو اعتبرأن مثقفي “الخارج يسلبون الانتفاضة من أهلها الحقيقيين وينسبوها الى الجيش من خلال اعتمادهم حادث تهشيم صورة صدام كبداية لتوقيتها”.
أما الدكتور قاسم البريسم في كتابه ” الشرارة والرماد” فهو لايتفق مع فائق الشيخ علي على من كان له الأسبقية في اندلاع الانتفاضة فبرأيه أن انتفاضة وسقوط محافظة الناصرية حدث بعد ظهر اليوم الثاني من آذار وبعد وصول أخبار البصرة. “ففي الوقت الذي اندلعت فيه انتفاضة البصرة الساعة الرابعة فجراً، وسقطت مؤسسات النظام، بيد المنتفضين الساعة العاشرة صباحاً، كانت أخبارها ، تصل الناصرية وتلهب المتظاهرين وهم في زحفهم على المحافظة.” “وهذا واقع انتفاضة الناصرية واحداثها وما أكده المئات من منتفضين أهل الناصرية الذين كانوا معنا في سجن الرضوانية. ”
ونفى الدكتور قاسم البريسم أسطورة شرارة الانتفاضة فذكر ” أن شرارة (بداية) الانتفاضة لم يشعل لهيبها ضابط مجهول نزل من دبابته في ساحة سعد واطلق النار على صورة صدام حسين فيها.” ” فلم يجرؤ ضابط أو ضباط ولا عشرات الدبابات أن تضرب صورة صدام في ساحة سعد، قبل أن يفجر أهل البصرة ( الحيانية) ثورة الشعب من جنوبه الى شماله.
لقد بدأت الانتفاضة في منطقة الحيانية، الساعة الرابعة فجر يوم ١٩٩١/٣/٢ ثم انتشرت بعدها الى المحافظات العراقية.”
“أن ما يزيد في خرافية رواية الضابط، وما حل بها من اضافات وتزويق، هو أن ساحة سعد ( فجر ١٩٩١/٣/٢) وهذا مايعرفه البصريون والمنتفضون على حد سواء كانت هادئة من أي مظاهر انفجار أو عصيان، وقد ظلت هكذا في أثناء الانتفاضة وبعدها، لأنها كانت نقطة تجمع للجيش وقوات الحرس الجمهوري المنسحب من الكويت، ومقراً لقوات علي حسن المجيد فيما بعد.
وقد مررت عليها الساعة الخامسة فجراً بقليل، وانا في طريقي الى الحيانية شأني شأن الكثيرين، بعد أن وصلت أصوات أطلاق النار فيها الى مسامع الداني والبعيد. ولم أجد ما يوحي بأي تمرد أو حتى صوت احتجاج من مئات العسكريين، الذين توقفوا فيها وهم في طريقهم الى أهلهم أو وحداتهم العسكرية. كان اغلبهم نائماً يتمدد على الأرصفة فيها، والبعض كانت أنظارهم واسماعهم مشدودة نحو مصادر النار الكثيفة والصيحات المدوية التي تسمع في ساحة سعد والقادمة من جهة الحيانية.”
“كان أطلاق النار على صور صدام حسين من قبل المنتفضين وهم يكتسحون مؤسسات النظام الأمنية والحزبية شائعاً. كما أصبح أطلاق النار وتمزيق صوره في الساحات والشوارع مألوفاً، بعد أن ذاع صيت الانتفاضة وسقطت البصرة بأيدي الثوار. ولم تبق صورة واحدة في ساحات البصرة وامام الدوائر الحكومية وغيرها ألا وتحطمت وتمزقت، حتى أصبحت وسيلة للمتعة، وقد شارك بهذا العشرات من الجنود، وقد سبق اندفاع أهل الحيانية ومباشرتهم الفعلية بالهجوم نحو أول فرقة حزبية في الجمعيات ( منطقة مقابلة للحيانية)، تجمعات للناس حدثت في ساعات الفجر الأولى من يوم ١٩٩١/٣/٢ وعلى طول شارع منطقة الحيانية، الممتد أكثر من كيلومترين. وهم يحرقون اطارات السيارات ويهتفون باسقاط صدام. وقد لعبت نساء الحيانية البطلات المسلحات بالبنادق والرمانات اليدوية في هتافاتهن دوراً مهماً في تأجيج الحماس والثورة، وقد بدأ هذا التجمع يكبر ويكبر، حتى اكتمل وجاوز المئات، عندما اندفعت الجموع الغاضبة ( من شارع التربية نحو فرقة القائد الحزبية)، وبذلك بدأت معها ولادة أعظم ثورة شعبية في تاريخ العراق ضد نظام صدام حسين.”
بالنسبة للرواية الرسمية عن الشرارة الاولى للاخبار عن بدء ” صفحة الغدر والخيانة” فقد وردت في كتاب “المنازلة الكبرى وقائدها ” لحميد سعيد، عبدالجبار محسن وعبد الأمير معلة ” على رواية الفريق الركن علاء الدين الجنابي جاءت الأشارة الاولى من مدينة الحي، عن طريق أمر قاعدة أبي عبيدة في الكوت، حيث جرى تسلل من قبل مجموعة أيرانية مسلحة قادمة من اهوار ميسان واتجهت نحو مدينة الكوت، والتحق بها بعض الهاربين من الخدمة وفلول حزب الدعوة، وبدأوا بالرمي على مقر الشعبة الحزبية البعثية في مدينة النعمانية والمقرات الأدارية فيها، وقد أصدر آمر قاعدة أبي عبيدة أمراً بتسليح منتسبي القاعدة وسد جميع النوافذ تحسباً لأي طارىء ومنع خروج ودخول الأشخاص للقاعدة، والتنسيق مع كتيبة الانذار والسيطرة السادسة ومع كتيبة مقاومة الطائرات الموجودة لحمايتها حدث هذا في الساعة الثامنة وثماني دقائق من صباح يوم ١٩٩١/٣/١ ”
وحسبما ورد في الكتاب فيبدو أن انتفاضة البصرة قد سبقت انتفاضة الناصرية وابتدات في البصرة كما ذكر قاسم البريسم في الحيانية وليس ساحة سعد واضافت لها الرواية الرسمية منطقة الخمسة ميل ، فقد ورد “في الساعة الخامسة والثلاثين دقيقة من مساء ١٩٩١/٣/٢ اعلمتنا دائرة الحركات ، أن مجموعة من المتسللين المتجمعين في قضاء سوق الشيوخ والقرى المحيطة به، تحاول التقدم باتجاه ناحية الفهود وناحية الحمار وقد وصلت الى قضاء الجزائر (الجبايش) وفي الساعة السادسة والنصف من مساء هذا اليوم تم عرض هذه المعلومات على انظار السيد الرئيس.. وكانت حوادث الشغب في مدينة البصرة قد بدأت بعد منتصف ليلة ١ اذار ١٩٩١ باقتحام سجن البصرة وتهريب السجناء والتعرض على منظومة استخبارات المنطقة الجنوبية ومراكز الشرطة والدوائر الرسمية والمستشفى العسكري، واكثر هذه الحوادث جرت في منطقة الحيانية ومنطقة ٥ ميل”.
إن كان تعريف الانتفاضة على أنها حركة شعبية واسعة فيبدو لي أن بداية الانتفاضة كانت في البصرة فجر يوم ٢ اذار ١٩٩١ ومن منطقة الحيانية وان ماحدث في الحي هو أقرب الى هجوم من قبل مجموعة معارضة من كونه بداية الانتفاضة. وينطبق ذلك الى حد ما في رأيي على الانتفاضة في سوق الشيوخ ، كما سنعرض أدناه، فهي وان بدأت قبل انتفاضة الحيانية ألا أنها لم تكسب صفة الانتفاضة الشعبية ألا بعد انتفاضة البصرة. أما قصة الجندي أو الضابط الذي أشعل شرارة الانتفاضة في ساحة سعد فيبدو لي أنها غير حقيقية ورددها الكثيرون عدا كونهم من غير أهالي البصرة فقد رددوها من غير تدقيق وتمحيص في صحتها.
انتفاضة البصرة
دون قاسم البريسم في كتابه “الشرارة والرماد” بداية الانتفاضة وتفاصيلها في البصرة فكتب “تكدست في يوم ١٩٩١/٣/١ مئات الألاف من العسكريين الفارين من الجبهة بعجلاتهم واسلحتهم ، وبؤسهم ومرارتهم في ساحة سعد ( قلب البصرة التي يتفرع منها عصب المواصلات الى خارج البصرة وداخلها).
امتص الشعب مشهد ساحة سعد الغاص بالجنود الذاهلين من هول المصيبة والمثقلين بحزن عميق لا حدود له، عندما أختلط المدنيون من أهالي البصرة وغيرها من المحافظات بمئات الألاف من العسكريين. وكان المدنيون من أهالي البصرة والمحافظات يبحثون عن ابنائهم، ويسألون القطعات المنسحبة عن اولادهم، بقلق وخوف، لعلهم قد نجوا من الكارثة.
في حين راح المئات من أهالي البصرة بعد أن غطى ليل حالك المدينة في ظل أنعدام الكهرباء ، يتسلل الى القطعات العسكرية والدبابات التي اصطفت على طول طريق شارع بغداد وشارع الزبير- ساحة سعد في جزئه القريب من الساحة والمقابل الى منطقة الحيانية، وهم يعرضون على العسكريين بيع اسلحتهم وخاصة الخفيفة كالبنادق الأوتوماتيكية والرمانات اليدوية والقاذفات RBJ7 والبيكيسي وغيرها وقد تجرأ البعض ، واخذوا ما كان موجوداً من أسلحة خفيفة أو التي يمكن نقلها من تلك القطعات العسكرية التي تركها الجنود.
انتابت الناس في أيام الأنسحاب الفوضوي ، رغبة عظيمة في شراء الأسلحة وحتى العتاد ، بالتأكيد كانوا يفكرون ليوم كالانتفاضة، بعد أن بدأت ملامحها تلوح في أفق الشارع العراقي. واصبحت حينها ساحة سعد سوقاً للعرض والطلب حول بيع الأسلحة. وحدث نفس الشيء بل أكثر منه ، في نقطة العبور الوحيدة على جسر شط العرب في منطقة التنومة، فقد وصل سعر البندقية الى عشرة دنانير، وبعض الأحيان تمنح لقاء أجرة العبور الى الضفة الشرقية من شط العرب. حين هبط علينا ليل ١ آذار ١٩٩١ كانت البصرة تغلي. وكان أطلاق النار الى الفضاء يسمع في كل مكان، وخاصة المناطق القريبة من منطقة ساحة سعد ، كالحيانية ( معقل الانتفاضة) والجمهورية والجمعيات والبصرة القديمة، وباب الزبير والعالية وشقق الفاو.
بدأت في ساعات الليل الأولى ، تظهر بوادر تجمعات للشباب في كل منطقة وكل شارع ، وكان البعض منهم يطلق النار عبثاً. وبدا لي أن كل واحد قد هيأ نفسه، واستعد لفعل شيء. وبدأت تظهر أيضأ كلمات التهديد والانتقام من ازلام النظام وخاصة البعثيين. أثار انتباهنا ( كنا مجموعة) أصوات نار متقطع ، ولكنه مستمر، يأتي من منطقة الجمهورية وهي لا تبتعد عنا كثيراً، وقد صادف أن رأيت أحد من البعثيين ممن أعرفهم، وسألته عما يجري في الجمهورية، وكان حينها ينوي الذهاب الى هناك، بعد أن تلقى أمراً بذلك. فقال لي أن هناك أضطرابات وتحركات يقوم بها شباب الجمهورية ومسلحيها.
قدت سيارتي بعد ذلك لكي أرى ما يجري فعلاً، وما أن وصلت الى منطقة الجمهورية حتى توضح التوتر بشكل جلي ، بحيث وجدت المئات من المسؤولين البعثيين والامن والمخابرات. وقد طوقت منطقة الجمهورية بعد أن وصلت لهم أنباء تفيد بحدوث تمرد فيها. وكان من ضمن المتواجدين محافظ البصرة عبدالله طلب وامين سر فرع الحزب، ثابت الدوري، وكبار المسؤولين في جهاز الأمن والمخابرات.
وما أن تجاوز الوقت منتصف الليل حتى تعاظم ضغط المسلحين من أهالي منطقة الجمهورية الذين كانوا يتمثلون أسلوب العصابات وهم يتربصون ويتسللون عبر الشوارع الضيقة والازقة نحو قوات النظام ، ويطلقون النار من وقت لأخر عليها وبعض الأحيان يطلقون النار من فوق أسطح البيوت باتجاهها. حتى عم الذعر والخوف في صفوف المسؤولين وبدأوا يهربون. وتسرب في البداية المحافظ والمسؤولون الكبار، ولم تمض ساعات ألا وتبخر الجميع حتى اذا بدأت خيوط فجر الثاني من اذار كانت الحيانية تشعل نيران الانتفاضة، وشرارتها الفعلية الاولى ، ليلتحق بها أهالي الجمهورية.
أذكر هذه الحادثة لاهميتها، فهي تمثل بداية الغليان، واولى التحديات الفعلية المسلحة ضد قوات النظام في البصرة، ومع أنها كانت أسبق في زمنها من منطقة الحيانية، ألا أن الانتفاضة اندلعت بشكلها الحقيقي في منطقة الحيانية الساعة الرابعة فجراً.”
“أستيقظت مذعوراً على أصوات أطلاق النار يأتيني من جهة الحيانية، كان الوقت الخامسة فجراً من يوم الثاني من آذار ١٩٩١ خرجت الى الشارع العام ( ساحة سعد-الجزائر) بدا لي أن الشارع هادئاً ، ألا أن سيارتين خطفتا في الشارع ( لاندكروز وبيكب) وفيهما أفراد يلوحون بالبنادق، ويهتفون ضد صدام، لم استطع التحقق مما حدث حتى مرت ثالثة ، فعرفت أن الحيانية انفجرت.
زادت حركة السيارات المنطلقة نحو الحيانية عبر ساحة سعد، التي كانت هادئة من كل شيء سوى من حركة الجنود الذين اكتضت بهم ساحتها الكبيرة. وتوقفوا فيها وهم في طريقهم الى أهلهم، أو وحداتهم العسكرية. وقد سألت بعض الجنود الموجودين في الساحة نفسها عن ما يجري من أطلاق نار، فأكدوا عدم علمهم بما يجري، سوى ما يسمعون من أطلاق نار كثيف يأتي من جهة الحيانية التي لا تبعد سوى كيلو متر عن الساحة نفسها، وصيحات عالية وهوسات مدوية، وسوى ما يرون من تقاطر سيارات مندفعة نحو الحيانية، وهي محملة بالناس وهم يهتفون بسقوط صدام.
وصلت الى شارع التربية في الحيانية لمعرفة ما حدث فيها. كان الفجر قد سطع واضاء الشوارع وفتح الطريق ليوم خالد في حياة العراق والعراقيين. كانت مئات من جماهير البصرة وبالذات أهل الحيانية تتجمع في شارع التربية (أهم شارع فيها) الذي يقع في وسط الحيانية تقريباً، ويوصلها الى مركز البصرة. وهم يهتفون باسقاط صدام ويطلقون العيارات النارية نحو الفضاء، على أصوات وهوسات النساء وزغاريدهن. أن نساء الحيانية والبصرة بشكل عام لهن الدور العظيم في انتفاضة البصرة، والعراق فقد كن يهتفن ويحرضن الناس، وهن يحملن الرشاشات والرمانات اليدوية، ويتحزمن بالعتاد. لقد كان مشهدهن، مؤثراً وعظيماً في تأجيج حماس الجماهير التي احتشدت في شارع الحيانية قبل بدء العمليات.
كانت منطقة الحيانية قبل وصولي لها، الساعة الخامسة والنصف أو ما يزيد بقليل، قد بدأت تمردها وثورتها، قبل هذا الوقت، بساعات وتمثل تمردها، باشعال اطارات السيارات واطلاق النار والهتافات ضد صدام ونظامه الدموي، في ساعات الفجر الأولى ( الساعة الرابعة فجراً)، على طول شارعها الرئيسي، الممتد من الأذاعة والتلفزيون ( الذي يقع على الطريق الرئيسي المؤدي الى ساحة سعد) حتى أخر شارعها في منطقة المثلث ( مدينة البعث) وقد بدأت جموع الناس تتقاطر على شارع التربية، قلب الحيانية وهي تحمل أسلحتها، وبدأ التجمع يأخذ طابعاً آخر غير الأحتجاج والهتاف واطلاق النار في الفضاء.
أندفعت الجماهير الغاضبة من شارع التربية ( منطقة الحيانية) الساعة السادسة فجراً تقريباً من يوم الثاني من آذار ١٩٩١ فكانت بداية الانتفاضة العظيمة ولحظتها التاريخية في العراق من جنوبه الى شماله.أقول بثقة تامة أن الانتفاضة بصرية المنشأ، والمولد، عراقية السمات، حيانية ( من أسم الحيانية) الشهادة والولادة.
كانت أولى الأهداف التي زحفت عليها الجماهير الغاضبة في ظل أصوات أطلاق النار، وهوسات الرجال والنساء، “فرقة القائد للحزب” في منطقة الجمعيات ( يفصل الجمعيات شارع رئيسي يوازي شارع الحيانية الطويل). فقد كانت هذه الفرقة حصينة، ومحمية بالكثير من الحزبيين، اضافة الى أنها قلعة سيئة من قلاع النظام، وقد سقطت هذه الفرقة الحزبية، بعد مقاومة بسيطة، وقتل فيها بعض المسؤولين وفر اغلبهم بعد أن سمعوا أصوات أهل الحيانية وشاهدوا الجموع الغفيرة تتجه نحوهم.
اتجهت جموع المنتفضين وهي في طريقها الى مركز البصرة ، الى الفرقة الحزبية ” عاش القائد” وتقع هذه الفرقة في منطقة الكفاءات ( المجمع السكني لاساتذة الجامعات، القريب من ساحة سعد). وحين وصلتها الجموع الغفيرة، كانت فارغة من البعثيين فقد هرب المسؤولون منها، وظل الحرس. وقد استسلم احدهم وقتل اثنان منهم، وتم الاستيلاء على كل الأسلحة الموجودة في الفرقة، وتوزيعها على المنتفضين.
طار صيت انتفاضة أهل الحيانية، وهجومهم على الفرق الحزبية الى كل الأفاق ، ووصلت أخبارها مثل البرق الى المناطق المجاورة والتي لم تكن تفصلها ألا مسافات بسيطة، فالمناطق في البصرة متداخلة بعضها البعض. فهبت المناطق القريبة، تحطم الفرق الحزبية، وتهجم على دوائر الشرطة وتستولي على الأسلحة فيها.
وكان أهل الجمهورية السباقين، بعد أهل الحيانية في الهجوم، بعد أن عاشوا ليلة عصيبة ضد النظام، عندما وصل الغليان ليلتها الى ذروته. فقد هجم أهل الجمهورية على الفرق الحزبية، ودوائر الشرطة وقد سقطت الفرق الحزبية المهمة في الجمهورية ، وهي فرقة حزب البعث لتنظيمات الكليات الأنسانية في جامعة البصرة، بعد ساعة من المقاومة، ثم احرقت وقتل أربعة من الحزبيين فيها.
اتجهت جموع الثوار المندفعين من أهل الحيانية بعد اسقاطهم الفرقتين الحزبيتين في الجمعيات والكفاءات، نحو شارع المستشفى الجمهوري ( شارع رئيسي يربط ساحة سعد، بمركز البصرة العشار) تتقدمهم دبابة، كانوا غنموها من الجيش، ويقودها شخص من أهل الحيانية. اندفع الثوار، نحو سجن البصرة المركزي، المقابل الى المستشفى الجمهوري، واسقطوا السجن، بعد أن استسلم الحرس، واطلقوا السجناء ( أغلب نزلاء هذا السجن هم من غير السياسين والمحكومين بجرائم جنائية مختلفة).
انضم الكثير من السجناء الى الثوار وخاصة المعروفين بشراستهم وشجاعتهم ، وقد أبلى البعض منهم في مقاومة قوات النظام بلاء عظيماً ومات البعض منهم في أثناء هجوم الجيش على المنتفضين.
بعد سقوط سجن البصرة، من قبل أهل الحيانية، انضم المئات الى الجموع الغفيرة، التي اندفعت بعد ذلك في الشارع الرئيسي المؤدي الى مركز محافظة البصرة، حيث توجد المقرات والمؤسسات الحكومية المهمة، مثل المحافظة، ومديرية الأمن، والمخابرات ومراكز الشرطة وغيرها.
تشظت الانتفاضة الى مجاميع كبيرة، واندفع الالاف الى كل ما يمت الى النظام ومؤسساته الأرهابية بصلة، مثل الفرق الحزبية ومراكز الشرطة ، ومراكز الأمن الفرعية، يكتسحونها، ويحرقونها. ولكن الجمع الغفير الذي انطلق من الحيانية ظل متماسكاً ومستمراً في اسقاط معاقل النظام الواحد تلو الأخر، واتجه بعد سقوط سجن البصرة الى أول فرقة في نفس الشارع، الذي يقع فيه السجن ( شارع المستشفى الجمهوري الذي يربط ساحة سعد بالعشار)وهي فرقة عدنان خيرالله وتقع في منطقة القبلة القديمة أو باب الزبير، وتبعد مئة متر عن سوق البصرة القديم. لم تقاوم كثيراً فقد سقطت بعد دقائق وقتل الثوار الثوار مسؤولاً حزبياً كبيراً فيها، وظلت جثته في باب الفرقة عدة أيام.
وبسقوط هذه الفرقة، انفتح الطريق للثوار الى عمق البصرة. واصبحت الانتفاضة عارمة، ووزعت الاسلحة الموجودة في هذه الفرقة على الناس . ولم يبق أمام المنتفضين ألا المعاقل الرئيسية، وهي المخابرات ومديرية الأمن العامة والمحافظة. وصل الثوار بعد ذلك، الى الأمن القديمة ( وهي البناية القديمة لمديرية الأمن في البصرة، كان النظام قد تركها بعد أن بنيت بناية الأمن الكبيرة في العشار).
ويبدو أن النظام لم يعد يستخدمها. بل حرص على الأحتفاظ بمجموعة من الحرس في ابوابها ، كمظهر من مظاهر أيهام الناس، وتخويفهم بوجودها. وقد تبين ذلك فيما بعد، عندما سقطت فلم يجد الثوار فيها شيئاً، وليس فيها سجناء أو معتقلين فقد نقلهم الى المديرية الجديدة.
لم تقاوم هذه المديرية طويلاً وقتل الثوار ما كان فيها من شرطة الأمن من الحرس وكانوا اثنين أو ثلاثة. لم يبق للثوار في هذا الشارع من مؤسسة مهمة ألا مديرية الأمن الرئيسية، وقلعة الظلم والاضطهاد في البصرة ، والتي يطلق عليها ازلام النظام ” الليث الأبيض” وفي الوقت الذي وصلت فيه جموع أهل البصرة الغفيرة الى مديرية الأمن كانت هناك مجاميع تتبادل أطلاق النار مع رجال الأمن والحرس فيها جاءت من المناطق القريبة كالتميمية والطويسة والعشار ومن مختلف المناطق الأخرى، بعد أن عمت الانتفاضة كل البصرة تقريباً.
استمر تبادل أطلاق النار والمقاومة بين رجال الأمن والمنتفضين لعدة ساعات، الى أن أطلق شاب شجاع قذيفة RBJ7 فاشتعلت النيران في البناية، وتوالى أطلاق القذائف عليها وهجم المنتفضون واحتلوا البناية واطلقوا سراح السجناء السياسين منها بعد أن قتل الكثير ممن كان في البناية، من ضباط الأمن والحرس وتم القاء القبض على اثنين من الضباط ، وهرب الكثير كما عرفت فيما بعد، من الباب الخلفي أو السري للأمن، في ضل الظروف وفوضى الهجوم. وقد تم اعدام الضابطين مع مجموعة من ضباط المخابرات في حسينية التميمية.
ثم اتجه الثوار الى مركز المحافظة القريبة من مديرية الأمن، وتقع على نفس الشارع. وقد حرقها الثوار، واستولوا على مخازن الأسلحة الكثيرة فيها التي كانت موجودة في مركز شرطة المحافظة واطلقوا ممن كان من الموقوفين والسجناء فيه. كما اندفعت مجموعة من الثوار نحو مراكز الشرطة.
كان الوقت يقترب من التاسعة صباحاً، عندما وجه الثائرون أنظارهم نحو المخابرات الرئيسية في منطقة الرباط، والتي تقع على الشارع الرئيسي الذي يربط ساحة أم البروم ، وسط العشار بالمعقل. وفي وقت سابق كانت مناطق التميمية والخندق والطويسة والرباط والحكيمية القريبة من المخابرات قد انفجرت بعد أن وصلت لها أنباء انفجار الحيانية في ساعات الصباح الباكر. وقد توفرت لهذه المناطق وبالذات منطقة التميمية القريبة جداً من المخابرات فرصة كبيرة للحصول على كميات كبيرة أيضاً من السلاح. فهي تشرف على الجسر الهندسي الذي نصبه الجيش على ضفتي شط العرب،والذي يربط منطقة التنومة ( الضفة الشرقية لشط العرب) بمركز محافظة البصرة ( الضفة الغربية) عند نقطة ( حواش أصفر). وقد ساعد مرور الجيش عبر هذا الجسر، وتكدس عشرات الدبابات والقطعات العسكرية، وهي في طريقها الى التنومة، أهالي التميمية والخندق، والمناطق القريبة منها ، شراء كميات كبيرة من الأسلحة أو السيطرة عليها بالقوة بعد سماع أنباء الانتفاضة في الحيانية، فجر الثاني من اذار.
وهذا قد مكن أهل التميمية أن يلعبوا دوراً مهماً في الانتفاضة وخاصة الهجوم على المخابرات، أتاح لها قربها من المخابرات فلا يفصلها عنها سوى الشارع العام.كان أهالي التميمية ومن التحق بهم من أهالي الطويسة والخندق وحتى الحكيمية ، قد اندفعوا نحو معاقل النظام في ساعات الصباح الأولى، بعد وصول أنباء الأنفجار في الحيانية، وكان أول هدف لهم هو قيادة الجيش الشعبي في منطقة التميمية ولم يجد المنتفضون مقاومة تذكر، بعد أن هرب كل من كان فيها.
انطلق بعد ذلك المنتفضون نحو مقر قيادة حزب البعث، فرع البصرة الواقع في نفس الشارع الذي تقع فيه المخابرات، وهو من معاقل النظام المهمة. لقد كانت مقاومته قوية استمرت ساعة أو أكثر بعدما هرب وقتل بعض من المسؤولين البعثيين واستولى المنتفضون على مقر الحزب. ولم يبق بعد سقوط مقر حزب البعث ألا المخابرات، والتي لا تبعد عن مقر الحزب ألا مئات الأمتار لذا كانت أخر أهداف المنتفضين دار قتال بين الجانبين وبعد مقاومة دامت ساعات سقطت المخابرات. حين وصلت جموع أهل الحيانية الى مبنى المخابرات كانت شبه ساقطة بيد أهالي المناطق القريبة منها، ألا من نار متقطعة ومقاومة ضعيفة.ولم تصدر مقاومة من بناية المخابرات الكبيرة أو ما يسمونها “التشريفات” فقد هرب جميع من كان فيها عندما هجم المنتفضون على مقر المخابرات الرئيسية، لذا دخلها الثوار. وبسقوط المبنى سقطت دولة النظام خلال ساعات من الزمن واقام الثوار بعد ذلك لهم سيطرات في كل شارع ومنطقة.
أما المناطق التي تقع شمال البصرة، وضمن حدود مركز البصرة مثل مناطق الكزيزة وخمس ميل والمعقل والسكك والجنينة ونواب الضباط والقيادة البحرية وغيرها من المناطق التي تقع بالقرب منها، فقد وصلت اليها أخبار انتفاضة الحيانية واندفاعهم نحو مركز البصرة في الساعة السابعة تقريباً. وقد بدأت وقائع أحداث تلك المناطق عندما هجم أهالي منطقة الكزيزة ( تقع عند جسر الكزيزة، نهاية شارع سعد-الهارثة) نحو مناطق خمس ميل، والتي لايفصلها عنها سوى الشارع الرئيسي (ساحة سعد-الهارثة)
وكانت أولى أهداف المهاجمين مركز شرطة خمس ميل، حيث دخلوه واستولوا على ما فيه من أسلحة وعتاد بعد أن حرقوه. ثم اندفعوا نحو الفرقة الحزبية الرئيسية في خمس ميل، وهي فرقة خالد بن الوليد. وقد دار قتال بين من كان في الفرقة من الحزبيين، والمنتفضين استمر أكثر من ساعة قتل على اثرها ثلاثة من المسؤولين فيها، أمين سر الفرقة وعضو شعبتها وامين سر فرقة كرمة علي.
اندفع جمهور المنتفضين من خمس ميل والكزيزة ليلتحق مع جمهور منطقة المعقل والسكك والنجيبية، نحو مديرية أمن المعقل، المقابل لمحطة قطار البصرة، ودخلوها بعد قتل منتسبيها.
كما اقتحموا مقر شرطة المعقل، واستولوا على مافيه من أسلحة واطلقوا سراح الكثير ممن كان في سجن أمن المعقل ومركز شرطتها.كما قتل المنتفضون مسؤولاً حزبياً كبيراً في منطقة المعقل وكان عضو قيادة فرقة خالد بن الوليد، بعد أن اقتحموا بيته. كما قتلوا ضابطاً في المخابرات بعد أن أمسكه الثوار في النجيبية.
في الوقت الذي كانت فيه جموع المنتفضين تطيح بمعاقل النظام في المعقل والسكك كانت مجموعة من المنتفضين قد اتجهت نحو الأكاديمية البحرية في خمس ميل، وهي من المعاقل المهمة ألا أنها كانت محصنة بقوات كبيرة، لذا لم تسقط بل واجه المنتفضون فيها مقاومة. وقد حاول بعض ضباط الأمن فيها تشكيل قوة عسكرية مضادة للانتفاضة وقد قادها مسؤول الأكاديمية البحرية وقد هجموا على المنتفضين بالدبابات ألا أن المنتفضين صدوا الهجوم واستطاعوا قتل مسؤول الأكاديمية. وقد أبدى المنتفضون في هذه المعركة بسالة وعزيمة لا مثيل لها وساهمت النساء في هذه المعركة أيضاً. واستطاعت أحدى بطلات الانتفاضة في خمس ميل أن تفجر دبابة وتقتل ضابطاً. ظلت بعد ذلك الأكاديمية بعيدة عن الثوار كما لم يحدث منها أي تحرك ضد المنتفضين حتى دخل الجيش المدينة.
اندفع جمهور المنتفضين بعد سقوط أمن المعقل وشرطة السكك نحو القيادة البحرية وقيادة الفرع العسكري وكان أهل الجنينة ونواب الضباط قد وصلوها وقد سقطت هاتان القيادتان ولم تقاوما طويلاً. اتجهت انظار الثوار الى أخر معقل للدولة في تلك المنطقة واهم المراكز الحكومية، وهي المنظومة العسكرية التي تقع في منطقة الجنينة بالقرب من المستشفى العسكري. وقد استغرق سقوطها فترة، وواجه المنتفضون مقاومة فيها حتى اقتحمها المنتفضون بالقاذفات، والرمانات اليدوية واحتلوها، واخرجوا العشرات من السجناء من غرفها وكان الكثير منهم من الكويتيون الأسرى الذين اسرتهم القوات العراقية في أثناء احتلالها الكويت.وبسقوط معاقل النظام ومركزه الحزبية والعسكرية تكون البصرة قد سقطت بأيدي الثوار بعد أن أكمل ثوار الحيانية والتميمية والطويسة والخندق والرباط اسقاط معاقل الدولة الرئيسية هناك.
تكاد تكون الفروق الزمنية بين فترات اندلاع الانتفاضة في مناطق البصرة المختلفة والتي يشملها مركز المحافظة، والمناطق المحيطة به ضئيلة بين ساعة تفجرها في الحيانية وانتشارها الى هذه المناطق.
فقد عمت الانتفاضة كل مناطق البصرة في ساعة لا تتجاوز السابعة صباحاً، أما المناطق التابعة لمحافظة البصرة، والتي تقع خارج حدود مركز المحافظة، كناحية الدير والقرنة والمدينة والهوير، ومناطق الضفة الشرقية من شط العرب، الزريجي والنشوة وعتبة والجباسي وغيرها. فقد تأخر وصول أنباء الانتفاضة لها قليلاً، ولم تتجاوز الساعة التاسعة صباحاً حتى اشتعلت كل هذه المناطق بنيران الانتفاضة وسقطت كل مراكز الشرطة والامن فيها.
أما منطقة شط العرب، والتي تشمل منطقة التنومة، وناحية الدعيجي والبوارين ونهر جاسم، ومناطق بيت جنعان، فقد اشتعلت فيها الانتفاضة بحدود الساعة التاسعة صباحاً، وقد بدأت في منطقة التنومة أولاً ثم انتشرت أخبار الانتفاضة الى بقية مناطق شط العرب بسرعة هائلة.
أما وضع الانتفاضة في الزبير فلم يشهد وقائع مثيرة. فبالرغم من أن الزبير كانت مفتاح دخول القطعات العسكرية الى البصرة، وطريقها الوحيد نحو ساحة سعد ألا أن هذا لم يفجر شرارة الانتفاضة، ويشعل نيران التمرد فيه. كما لم تحدث في منطقة الزبير مقاومة، واحداث قوية للمنتفضين، ضد الجيش، حتى بعد التحاقها بالانتفاضة في يومها الأول، وقد كانت نشاطات المنتفضين فيها ضعيفة، وانضم أغلب منتفضيها الى نشاطات أهالي البصرة ( المركز).
وعلى عكس منطقة الزبير ، فأن نشاط أبي الخصيب كان قوياً في أحداث الانتفاضة، بعد أن وصلتها أخبارها في ساعات الصباح الاولى، ولم تتجاوز الساعة العاشرة صباحاً، حتى سقطت جميع مناطق أبي الخصيب.
بدأت أخبار انتفاضة البصرة ( المركز) تنتشر بسرعة الى المناطق البعيدة عن مركز المحافظة ، مثل ناحية الهارثة والدير والشرش والقرنة والمدينة والهوير، في الضفة الغربية لشط العرب، ومناطق الزريجي والنشوة والشلامجة وناحية عتبة وغيرها في الضفة الشرطية لشط العرب. لقد كانت ناحية الهارثة أول مناطق الضفة الغربية لشط العرب، من خارج المركز، تشتعل بنار الانتفاضة، فقد هب أهالي الهارثة نساء واطفالاً ورجالاً في الساعة الثامنة صباحاً الى الشوارع، يهتفون بسقوط صدام حسين، ويمزقون صوره والجداريات التي وضعت في الشوارع له، كما هاجموا الفرقة الحزبية هناك، وقد قتل المنتفضون عند جسر النجيبية ضابط مخابرات كان يحاول الهرب. وقد لعبة العشائر في الهارثة دوراً كبيراً وخاصة عشيرة عباد وبرز منها حجي خيرالله في دفاعه عن الانتفاضة، وقد استشهد وهو يقاتل عندما زحف الجيش على المقاتلين في المدينة.
وقد طارت أخبار الانتفاضة الى الزريجي والنشوة والشلامجة وناحية عتبة في الضفة الشرقية لشط العرب، وهذه المناطق هي من مناطق الريف البصري، واغلب سكانها من عشائر حلاف السويجت والباهلة، وآل منصور والسواكن. فهبت هي الأخرى ضد النظام واندفعت تهتف بسقوط صدام ونظامه، وقد مزق المنتفضون صور صدام في مركز ناحية النشوة وكل ما يمت الى النظام بصلة، كما هجموا على المعسكرات الكثيرة هناك ( الفرقة السادسة المدرعة والخامسة والحادية عشرة للاستيلاء على السلاح. وقد أحرق المنتفضون المكاتب الأدارية والامنية لتلك الفرق، ومحتوياتها وسيطروا على مشاجب الأسلحة فيها وقد غنموا الكثير من الأسلحة الخفيفة.
وفي الوقت الذي انتفضت فيه هذه المناطق كانت ناحية الدير قد اشتعل لهيب الانتفاضة فيها، وهجم المنتفضون على ما فيها من مراكز للسلطة، وهي مركز شرطة الدير، ودائرة الأمن فيه، والفرقة الحزبية كذلك اقتحم المنتفضون بدافع الحاجة وشحة المواد الغذائية في ذلك الوقت ، مراكز تموين النشوة، التابع لناحية الدير واستولوا على مافيه من مواد غذائية كثيرة دون قتال.
كان الوقت قد تجاوز الساعة التاسعة صباحاً عندما انتفضت مناطق الشرش والقرنة، وبني منصور والمدينة والهوير، وغيرها من المناطق القريبة منها.
وقد كانت مراكز الشرطة ومقرات الحزب، ودوائر الأمن ، أهدافاً للمنتفضين وقد كان دور شيوخ العشائر والسادة عظيماً في تلك المناطق كما كان دورهم مشرفاً في الدفاع عن الانتفاضة ضد الجيش.
حين أفاقت التنومة من نومها صباحاً كانت البصرة تشتعل بالثورة واوشكت حكومة النظام أن تنتهي هناك. عندما قتل صمت التنومة واهلها، صوت جندي شجاع من أهالي ديالى، وهو يصرخ باعلى صوته، ويطلق النار الى الفضاء في وسط التنومة (سوق التنومة) وبالضبط مقابل بيت سعد عودة منيخر السعدون ويصيح ” صدام مات..وانتم نايمين، والمناطق انتفضت” وقد أثار هذا الفعل صمت الجميع، وبدد مخاوفهم ، ونبهم الى غفلتهم وقد زادهم ، رد فعل سعد عودة منيخر عندما أطلق النار من رشاشته على الجندي فقتله، وجرح آخر من أهل التنومة. وحين سمع الناس ثارت النفوس المكتضة بالالم واندفع أهل التنومة الى المنظمة الحزبية ودائرة الشرطة والامن فيها، وظهرت مظاهرة في أثناء ذلك يقودها أحمد السعدون وقد سقطت الفرقة الحزبية، ومقر الشرطة والامن بسهولة وهرب أغلب أفراد الأمن. أما سعيد عودة منيخر فقد هرب هو وافراد عائلته الى الحلاف ومنها الى الجنينة. وعاد بعد أيام وكان يطلق النار على المنتفضين في الليل ثم ألقي القبض عليه وقتل. وهجم الثوار على بيت مفوض للامن وبعد قتال طويل ظل فيه يقاوم الى أن نفذ عتاده فقتلوه.
أصبحت أغلب مناطق البصرة تحت سيطرة المنتفضين بعد الساعة الثانية عشر من يوم ١٩٩١/٣/٢ وخاصة تلك المناطق ذات الكثافة السكانية ويشملها المركز، وبعد أن سقطت مؤسسات النظام المهمة كالمخابرات ومديرية الأمن، ودوائر الشرطة والمحافظة وغيرها. ولم تبق ألا بعض الجيوب في داخل المدينة والشوارع الرئيسية خارج المدينة، لأن كثافة الجيش فيها لا تسمح لمثل هذا. وقد كانت هذه الشوارع والبؤر عصب الحياة التي بدأ النظام يعيد تشكيل نفسه فيها. حيث أصبحت فيما بعد وسيلة حركة علي حسن المجيد والقطعات العسكرية التي كانت تحت امرته، وهي المناطق التي لم يؤسس فيها المنتفضون نقاط قوة لهم.”
وكما أشرنا أعلاه فقد ورد عن انتفاضة البصرة في الرواية الرسمية في كتاب “المنازلة الكبرى وقائدها ” لحميد سعيد، عبدالجبار محسن وعبد الأمير معلة “كانت حوادث الشغب في مدينة البصرة قد بدأت بعد منتصف ليلة ١ اذار ١٩٩١ باقتحام سجن البصرة وتهريب السجناء والتعرض على منظومة استخبارات المنطقة الجنوبية ومراكز الشرطة والدوائر الرسمية والمستشفى العسكري، واكثر هذه الحوادث جرت في منطقة الحيانية ومنطقة ٥ ميل. وقد تم أشعار قيادة قوات الحرس الجمهوري من قبل المركز المتقدم للقوات المسلحة، لأرسال قوة الى المناطق المذكورة وكذلك قطعات الفيلق الثاني لمعالجة الموقف والسيطرة عليه.”
وورد في افادة الفريق الركن سلطان هاشم في جلسة تحقيق الانتفاضة عن انتفاضة البصرة ” ابتدات الأحداث في البصرة في يوم ٢ اذار ١٩٩١. ابتدأت في منطقة الحيانية في البصرة وكذلك الجمهورية والخمسة ميل، وشملت القرنة ومركز المدينة أيضاً. تم حرق السجن والمحافظة. كنت في البصرة لكوني معاون رئيس الأركان وعضو المقر المتقدم للقوات المسلحة. استمرت الأحداث في البصرة لمدة يومين باستثناء التنومة حيث استمرت الى يوم ١٢ اذار.” بينما ذكرالفريق سعدي طعمة عباس الجبوري في المحكمة أن أحداث البصرة استمرت أربعة أيام حيث ورد في افادته ” في ٢ اذار ١٩٩١ ابتدات أحداث البصرة وبالتحديد في الحيانية، الجمهورية، التنومة والخمسة ميل واستمرت أربعة أيام”.
انتفاضة محافظة ذي قار
ورد في كتاب طارق حربي ” انتفاضة آذار في محافظة ذي قار”عن الانتفاضة فيها “كنت قرب حطام الجسر الإنكليزي القديم، الرابط بين ضفتي نهر الفرات في مدينة الناصرية، والذي حطمته طائرات التحالف قبل عدة أيام، حيث أحدثت مجزرة رهيبة، راح ضحيتها المئات من المدنيين غرقاً، وكانوا عزلاً يعبرون على الجسر بعد نهاية الدوام الرسمي للدوائر والمدارس.
كنت أثناء حدوث الغارة هناك، وكان آلاف من العسكريين العراقيين (قيادات ومراتب) يتجمعون بإنتظار القوارب الصغيرة لعبور النهر، في عين الوقت الذي كانت فيه إذاعة بغداد تنبح، مبررة ماسمي بإنسحاب الجيش العراقي من الكويت.
وبدا صوت الرئيس أجش وهو يعلن بصفاقة الإنسحاب المهين، وكان الجنود المنهزمون يتطلعون بحزن إلى حطام الجسرين الكبيرين المحطمين : الإنكليزي والسريع، وسمعتهم يرددون بلهجة شعبية ساخرة ( منين العبرة …ياصدام!؟)،
هذا في الوقت الذي كانت فيه الصحراء والمدن الجنوبية تسبح بدماء الآلاف من أبناء العراق، وهم يقضون بوابل من قنابل وصواريخ طائرات قوى التحالف، إلا أن البقية من الحفاة المنكسرين في حرب لم تحدث، أثاروا الشفقة في قلوب المدنيين وهم
يبيعون أسلحتهم الشخصية بأبخس الأثمان، وذلك لشراء ثياب مدنية، حسبوا أنها تقيهم شبهة كونهم عسكريين للتخلص من غضب الطائرات المعادية التي كانت تتابع مشاهد الهزيمة بالمزيد من الصواريخ والقنابل، مما أثار استهجان وغضب العراقيين ممن يحرصون على مصلحة بلدهم وسمعته.
لا اشك رغم الطغيان والقسوة في قمع العراقيين من وجود معارضون سياسيون يحتمون في أعماق الأهوار، البعيدة نسبياً عن مراكز السلطة وثكنات الجيش، وهؤلاء المعارضون على قدر عال من التنظيم والشجاعة والصبر، والسلطات المحلية وأبناء البلدات القرية من سواحل الأهوار، يعلمون بأماكن تواجد هؤلاء، بل حتى بقدراتهم وتحضيراتهم العسكرية،حيث كانت السلطة متمثلة بالجيش مرة وبقوى الأمن الداخلي مرة أخرى، تشن بين وقت وآخر غارات على تلك التجمعات، التي تقاوم مرة وتختفي مرة أخرى، مشكلة مصدر إزعاج وتهديد دائمين لتلك السلطات، ولذا فقد كانت هذه المجاميع تشكل خطراً دائماً على السلطات المحلية والمنظمات الحزبية، لاسيما في المدن والقصبات القريبة من الأهوار، وفي تلك الظروف المؤاتية كانت الجماهير في مدن الجنوب المنكوبة، ومن بينها مدينة الناصرية، تعلق الآمال على تلك الجماعات، للقيام بعمل ما، وبالفعل فقد قامت الأخيرة المكونة من شباب متحمسين بالإتصال ببعض وجهاء العشائر وشيوخها، وكذلك ببعض الناقمين على السلطة ، بغية الحصول على تأييدهم ومساندتهم، قبل اندلاع الشرارة الأولى للإنتفاضة، وما إن تم ذلك حتى انطلق أولئك الرجال في صبيحة الأول من آذار، بإتجاه مراكز السلطة والحزب في القصبات القريبة، فسقطت بأيديهم ناحية (الطار)، بعد معركة بالأسلحة الخفيفة لم تستمر طويلاً ضد الرفاق البعثيين، ليتوجهوا بعدها مباشرة إلى ناحية (الكَرمة)، وناحية الفهود وغيرهما من القصبات، لتبدأ فيها مواجهات أكثر عنفاً من سابقتها، وتنتهي بسيطرة الثوار على مراكز السلطة (مخافر الشرطة والمنظمات الحزبية ودوائر الأمن) وغيرها من مؤسسات النظام القمعية.
بحسب التقسيمات الإدارية، فإن قضاء سوق الشيوخ هو أكبر أقضية محافظة ذي قار،ويبعد عن مركز مدينة الناصرية حوالي (٢٩)كم إلى الجنوب منها، ويحتضن هذه المدينة فرع نهر الفرات الرئيسي، وقد زحفت قوات التحالف حتى وصلت إلى تخوم مدينة سوق الشيوخ، وعسكرت فيها، بل توغلت بعض التشكيلات العسكرية الأمريكية إلى الشارع العام، الذي يربط القضاء بمدينة الناصرية، وأقامت نقطة سيطرة عسكرية مهمتها التفتيش عن الأسلحة، وهذه السيطرة هي نفسها التي ستمنع المنتفضين، بعد اندلاع الإنتفاضة في الأول من آذار، من مواصلة الطريق إلى مدينة الناصرية.
كان اليوم الأول من آذار يوماً ربيعياً مشمساً، خاصة بعدما تلاشت في الفضاء أعمدة الدخان والضباب القادمة من الكويت، نتيجة حرق الطاغية لآبار النفط فيها، وبدت الشمس في الأول من آذار مشرقة تماماً، والمدينة على غير عادتها تغص بأهلها، حركة دائبة، رجال قلقون صدورهم موغرة بالحقد والسخط على النظام ورأسه، مليئة بنداءات الثورة بإنتظار حدث ما، عيون تنم عن استياء عارم وأصوات خفية تدندن بحذر مرثية المأساة طويلة الأمد !
كنت أراقب المشهد وأحرض الناس هنا وهناك، بحذر وهدوء كان الناس يتبادلون الكلمات التي تبشر بقدوم ثورة وثائرين من الأهوار، كانوا أسقطوا ناحية (الطار) و(كَرمة بني سعيد) وهم قادمون بإتجاه قضاء سوق الشيوخ، في تلك اللحظات الحرجة كانت أجهزة النظام القمعية مرتبكة وخائفة، وكان عناصر أجهزة الأمن والحزبيون، يستجدون من عيون الناس نظرات الإستعطاف، ماذا سيفعلون!!؟ فالثوار قادمون، والمدينة كلها ستهرع وتستقبلهم وتساندهم، إن لم تنتفض وتثور قبل وصولهم، بالنسبة إليهم كان أهم شيء، في تلك الساعات الحرجة، هو تأمين ملاذ آمن ينجيهم من البطش الجماهيري.
ما أن انتصف النهار في مدينة سوق الشيوخ، حتى بدت المدينة وكأنها خالية من السلطة، أو هي كانت كذلك فعلاً. في الساعة الثانية عشرة ظهرا انطلقت المظاهرات في سوق الشيوخ. كنا مجموعة تتألف من ٥٠ رجلا، أدركنا مبنى القائممقامية ولم يتصدى لنا أحد، فاقتحمناه وقمنا بإطلاق سراح السجناء فيه بصرخات مدوية :الله أكبر لا إله إلا الله، وبعد قليل التحق إلينا المئات من رجال سوق الشيوخ، ثم انقسمنا إلى مجموعتين :
المجموعة الأولى اتجهت إلى بناية الشعبة الحزبية. والمجموعة الثانية انطلقت بإتجاه دائرة الأمن. فيما اقتحمت تظاهرتنا مبنى الشعبة الحزبية، انطلقت مجموعة من الرجال في تظاهرة أخرى، هاتفين منادين بسقوط الطاغية وب(لاإله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله)،والتحقت بنا تظاهرة أخرى عارمة وصلت من مركز المدينة، وهكذا كبرت التظاهرة بما انضم إليها من أعداد أخذت تتزايد بمرور الدقائق، وخرج الناس الى الشوارع الرئيسية والفرعية ليعودوا إلى وسط المدينة من جديد، وبعد اقتراب المظاهرة من بيت أحد المسؤولين الحزبيين ويدعى(عبد الحسين حافظ) رأى بعض الرجال مداهمة البيت حيث كان قابعاً في داخله، وفي محاولة منه للخلاص بعدما رأى المتظاهرين يحيطون بالبيت قام حافظ بإطلاق الرصاص دفاعاً عن نفسه، فسقط في الحال ثلاثة من المتظاهرين استشهد أحدهم ويدعى (حربي) في المستشفى، ليكون أول شهيد في مدينة سوق الشيوخ، فيما اعتلى حافظ بيتاً مجاوراً، ووثب لائذا بالفرار بعد تكثيف نيران الثوار بأسلحة الكلاشنكوف وقاذفات الآربيجي 7 بإتجاه البيت، وهكذا استقر الموقف بعد هذه العملية لصالح رجال الإنتفاضة، لتعم المدينة تظاهرات عارمة تضاعفت فيها جموع الناس، وشاركت فيها أعداد من النسوة قمن بتقديم الطعام والماء،وإستقبال الحدث العظيم بالزغاريد وصيحات (الله وأكبر لاإله إلا الله ماكو ولي إلا علي)، ثم اتجهت الجموع المبتهجة إلى سيارات الحمل وبعض السيارات الخاصة!
لقد كانت النية معقودة على أن تتجه قافلة السيارات المليئة بالمتظاهرين إلى مدينة الناصرية، لكن بعد بضعة كيلومترات اعترضت طريق القافلة السيطرة العسكرية الأمريكية، التي سارعت إلى تجريد المتظاهرين من أسلحتهم، تحت تهديد السلاح، وأمروهم بالعودة من حيث أتوا، بحجة أن تلك السيطرة ليس لديها أمر بالسماح لهم بالمرور إلى مركز مدينة الناصرية، وهكذا عاد المتظاهرون إلى سوق الشيوخ، ليتوجهوا في اليوم التالي وبمحاذاة الجانب الثاني لنهر الفرات- متحاشين المرور بالسيطرة الأمريكية- إلى مدينة الناصرية!
لقد غمر الناس في تلك الليلة فرح عظيم مشوب بشيء من الحذر، لاسيما وان مركز مدينة الناصرية، لم يكن تحرر بعد من قبضة النظام إلا أن الثوار من أبناء سوق الشيوخ، استطاعوا أن يجعلوا لهم مركزاً ومقراً رئيسياً وسط القضاء، في إحدى الحسينيات التي كان النظام أمر بإغلاقها من قبل، كما أن الرجال أعدوا معتقلاً لمن يلقى القبض عليه من عناصر قوى الأمن والحزبيين، ونهض المنتفضون بمسؤولية توزيع المجاميع المسلحة في مفارق الطرق وأزقة المدينة ومركزها، وشرعوا بالعمل الدؤوب حتى الصباح تمثل في ملاحقة الحزبيين وعناصر قوى الأمن ومرتزقة النظام، وقد ألقيت القبض مع أفراد مجموعتي على أربعة من عناصر مديرية الأمن في مدينتنا، بعد محاولتهم الفرار ليلاً، وزجوا في أحد المعتقلات بإنتظار التحقيق معهم.
في صبيحة اليوم الثاني كان الهدف التالي للإنتفاضة هو مدينة الناصرية، وفعلاً اندلعت الإنتفاضة هناك بعد معركة فاصلة لم تستمر أكثر من ساعة ونصف الساعة واقتيد مسؤولو الحزب والدولة فيها بسيارات الحمل إلى قضاء سوق الشيوخ، بعد قتل محافظ الناصرية على يد أحد المنتفضين قرب بيت السيد راضي.
بصيحات الله أكبر، استقبل أهالي مدينة سوق الشيوخ الرفاق البعثيين وعناصر الأمن المربوطين بالحبال، المحشورين حشراً بسيارات (الحمل) القادمين من الناصرية، وهجم الناس عليهم وهم على ظهور السيارات، ولم نستطع تخليصهم من أيدي الأهالي وزجهم في المعتقل إلا بشق الأنفس، حيث تناولهم الأهالي بالضرب والشتائم والتذكير بظلمهم”.
وعن السيد راضي ورد في موضع أخر من كتاب طارق حربي” اذا كان مبنى محافظة ذي قار يمثل روح المدينة، فإن بيت السيد راضي يمثل قلبها النابض، ذاك من وجهة نظر الحكومة، وهذا من وجهة نظر أبناء الناصرية المنتفضين، قلب ضخم ينبض وسط المدينة : فيه العلم والأدب والفقه والتزويج والطلاق وفض النزاعات بين العشائر، من هذا كله كان بيتاً يهابه الناس ويحترمونه. حول البيت تجمع الناس بعد اندلاع الإنتفاضة، أما في داخله فقد كانت تجري مناقشات وحوارات وتخطيط لعمليات عسكرية، للإنقضاض على ماتبقى من فلول البعثيين،وبعد ذلك الإلتفات إلى تدبير شؤون المدينة التي غرقت في الظلام، جراء قصف دول التحالف للطاقة الكهربائية، وأخيراً في الإستعداد لمجابهة القوات التي ستستبيح المدينة بعد حوالي إسبوعين من اندلاع الإنتفاضة. بيت في وسط المدينة، تمر من أمامه أهم شوارعها : النيل والحبوبي (إكراماً للثائر شاعر ثورة العشرين السيد محمد سعيد الحبوبي)، وبين مبنى المحافظة والبيت حوالي ٥٠٠ متراً، وبجانب البيت مدرسة قرطبة. مدرستي التي ستكون سجناً فيما بعد لأعداء الانتفاضة، وكان زميلي فيها السيد عبد المطلب محمد حسين ابن السيد محمد السيد حسين السيد راضي صاحب البيت!؟ البيت الذي سيضع فيه الديناميت الحرس الجمهوري ويفجرونه بعد استباحة المدينة !
السيد راضي رحمه الله خريج السطح الثالث من دراسات الحوزة العلمية في النجف الأشرف، بمرتبة حجة الإسلام والمسلمين، وأحد وكلاء آية الله العظمى السيد محسن الحكيم، وتولى شؤون البيت السيد محمد حسين نجل السيد راضي، فورث عمامة أبيه، ولم يكمل دراسته في النجف. وقدم السيدان من ذلك البيت الموقر،حلولاً ناجعة للمشاكل التي كانت تنشأ عادة بين عشائر الناصرية، وكذلك بعضاً من مشاكل أبناء المدينة، ممن لهم صلاة دينية وروحية مع البيت وأهله. زوج البيت آلافاً من الناس وطلق آلافاً بعقود موقعة ومختومة، من السيد الأب والإبن اعتمدت فيما بعد على صدقها المحكمة الشرعية، ولم يتوقف السيدان عن تقديم الفتاوى الشرعية والفقهية وأمور الدين الأخرى، وهكذا عرف أبناء المدينة طريقهم إلى عتبة البيت وكان مصراعاه مفتوحين للجميع – نساء ورجالاً وشيوخاً وأيتاماً وأرامل-، زواج وطلاق وإقامة حد ونفقة وتبنٍ وإصلاح ذات البين وإعادة المرأة إلى بيت الزوجية والرجل إلى زوجته وأطفاله، وكان للسيد محمد حسين مسجد يؤم الناس فيه للصلاة كل يوم غير بعيد عن بيته.
ولكيلا نبخس الرجل حقه، فإن موقفه من الإنتفاضة ربما يشفع له بين قطبي الأخذ والرد، حول اتهامات بعلاقة ما مع الحكومة، فقد كان الرجل ومن دون سابق موعد، فوجىء أن بيته تحول برمشة عين، إلى غرفة حركات وعمليات للإنتفاضة، وقبلة لمواطني المدينة المنتفضين، وبقدر مايهمنا من أمر البيت (الموقع في قلب المدينة والحضوة الدينية والمهابة) فإنه يعنينا أيضاً أن نؤكد أن المنتفضين الشبان الذين وصلوا للتو من الأهوار، وحرضوا الناس على قيام الإنتفاضة، قد اتخذوا هم أنفسهم من بيت السيد راضي، ومنذ اليوم الأول، مقر عمل ومشاورة واجتماعات وقاعدة انطلاق لإعمار المدينة المخربة بالقصف، وكذلك للجهاد ضد الحرس والجمهوري فيما بعد على أبواب المدينة وفي شوارعها.
إلى البيت توافد أبناء المدينة، ووقفوا حوله بعد الإنقضاض على مؤسسات البعث ودوائره الإرهابية منذ اليوم الأول، وحد الناس وجدان واحد وهو الوجدان الوطني والديني والفطرة والحدس، حتى كأنهم يطبقون دون أن يعلموا واحدة من فرضيات علم النفس (غريزة الإهتداء إلى البيت ) أمام بيت السيد راضي اكتشفت بطولات عراقية. تعرفت إلى رجال من نمط خاص ماكان لي أن أتعرف إليهم، لولا حدث كبير مثل الإنتفاضة، وتمظهر روح عراقية جديدة، كنت إلى وقت قريب فقدت الثقة بظهور شبان عراقيين من النمط الذي أنتجته الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن العشرين،وفي ذلك كدت أقطع كل أمل خلال ربع قرن تقريباً، كيف إذن تغير كل شيء وانقلب الرجال وبرزت إلى السطح جواهر نقية، تلك حكمة الشعوب وشعبنا حي أبدا.
فاض المنتفضون من روح المدينة وضمير الشعب، كل يعبر عن كراهيته للنظام ويتوحد بالجموع أمام بيت السيد، تناسى الناس خلافاتهم إن وجدت، لقد تحملت الناصرية قسطها الأوفر من الإحباط السياسي وجريمة الإهمال المتعمد، الخبيث والمبرمج من قبل النظام ، فهي مدينة بلاعمران ولاخدمات انسانية تدعم شروط الحياة وتنميها، أما مواطنوها فقد تلقوا صدمات الأحزاب وانكساراتها المفجعة وصراعاتها، فإنعكست على حياتهم، وماكادوا أن يفيقوا من تلك الصدمات حتى لطمتهم فكرة الحزب الواحد، والفراغ السياسي وجنون النظام الشمولي الذي لجم كل القوى الوطنية وتصدى للشرفاء والوطنيين. الإنتفاضة من جانبها امتحنت الجميع بدرجة واحدة وهي درجة الإنتماء للشعب والوطن. كنا نرى في الإنتفاضة الوليدة مصيرنا ووجهنا الجديد. المهنئون بانتصار الإنتفاضة، من غير المنتفضين، يفدون إلى بيت السيد راضي كل لحظة : وجهاء المدينة كبارها صغارها فقراؤها معدموها مترفوها معدانها أفنديتها متعلموها فنانوها وشعراؤها.”
وعن أسر الفريق نزار الخزرجي في الناصرية ورد في نفس الكتاب ” بعد معركة ضارية بمختلف أنواع الأسلحة الخفيفة،استمرت من الساعة الحادية عشرة صباحاً حتى الساعة الثامنة مساء من يوم السبت الثاني من آذار ١٩٩١، وبعد ملحمة بطولية وقتال مشرف،قدم منتفضو الناصرية صوراً خارقة من التضحية وبذل النفس (كانوا يرون في الخزرجي صورة لسيده)،سقط الخزرجي وزمرة من مرافقيه وحمايته (مرافقوه من ذوي الرتب العالية)، سقط مصاباً إصابة خطيرة، حيث تلقى عدة ضربات في بطنه ومثانته، وفور وصوله إلى المستشفى الرئيسي في المدينة، والمسمى بإسم سيده تهللت الوجوه وطغى فرح عظيم وسط أهازيج العاملين والكادر الطبي والمواطنين.
كان الخزرجي بكامل وعيه وقد أدهشه فرح الناس، وراح يتلمس منهم العفو والمغفرة، راجياً عدم الإعتداء عليه أو الإساءة له لأنه رجل (مسلم) كما كان يقول، بعد ذلك بدقائق أغمي عليه نتيجة لنزف شديد، فأدخل مباشرة إلى صالة العمليات، وأجريت له عملية جراحية كبرى استغرقت عدة ساعات، وقام بها كل من الدكتور ربيع عبد الهادي آل فندي والدكتور عصام الدين عبد الصاحب.
مضى يومان بعد إجراء العملية لم يفق خلالهما الخزرجي إلا دقائق قليلة، تفوه خلالها بكلمات غامضة غير واضحة، وحاول الإنتحار مرات عديدة وهو على سرير المرض، وذلك برفض تناول العلاج وسحب الإنبوبة الخاصة بجهاز الإعطاء (المغذي).
كنت مشرفاً على علاجه، وأتناوب مع السيد عبد الله بنيان أبو موسى حمايته واستجوابه في نفس الوقت، وحاولت إفهام الخزرجي خطأ محاولاته الإنتحار، وكان في نوبات إفاقته المتقطعة يسألني عما وقع له، ولماذا تعرض ومن معه للحصار في دائرة الطرق الجنوبية؟، وماسبب الهجوم على مقر إقامته!؟.
حاولت قدر ماستطعت إبعاده، بطريقة ما عن استعادة الحدث وماجرى له، بل رحت بدلاً من ذلك أشرح له معنى الإنتفاضة،وقيمتها في حياة الشعب العراقي، ورفض الشعب للنظام الدكتاتوري القمعي الذي هو شخصياً أحد أركانه، ثم أوضحت له خلال جلسات عديدة أهمية بقائه حياً، كونه عسكرياً كبيراً، وقد تحتاج الإنتفاضة إليه لوضع الخطط للقضاء النهائي على الدكتاتور في بغداد.
لكنه كان يلح في طلب إبنه الملازم أحمد، وكان الأخير أسر معه واقتيد إلى سجن الإنتفاضة الكائن في مدرسة قرطبة الإبتدائية للبنين، حيث تم استجوابه هناك مع ثلة من مرافقي والده، لكن أحمد لم يصب بأذى.
بعد ثلاثة أيام نقلنا الخزرجي من الطابق الثاني إلى الطابق الخامس،في نفس المستشفى مع مجموعة من الضباط الجرحى، وكان تضايق كثيراً من وجود هؤلاء معه، نظرا لغلاظة طبعه وخشونته، ورفضه الإختلاط بمن هم دونه في الرتبة العسكرية، حيث مازال تعاليه وعنجهيته وغروره واضحاً، ولم يفارقه رغم وقوعه في الأسر وإصابته، وربما زاد في ذلك تعاملنا اللين والطيب معه!
طالبني ذات ليلة بقتله لإعتقاده بأنه لم يعد نافعاً، ولأنه مجرم بحق الشعب العراقي ويستحق القتل، لكني أقنعته وذكرته بالمزيد من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، حول أهمية الحياة لبني الإنسان وكراهية الإنتحار بالنسبة للمسلم.
في ليلة أخرى نقلناه إلى الطابق السادس بموجب الأوامر الصادرة إلينا من قيادة الإنتفاضة، حيث ظل بمعزل عن أقرانه الجرحى وبعيدا عن ملاحقة المواطنين له، وكذلك لغرض الراحة والنقاهة، بعدما لاحظنا تحسناً ملحوظاً طرأ على صحته شيئاً فشيئاً، لكن الحراسة ظلت مشددة على غرفته، وزيد حرسان آخران فصاروا أربعة.
في الليلة الثالثة أطلق مجهول صلية (كلاشنكوف) على غرفته فاستدعيت السيد عبد الله بنيان الموسوي،الذي ساعد كثيراً في حماية الخزرجي طوال ايام وجوده معنا، وكان له دور كبير في إدارة المستشفى، وهكذا كتمنا على وجود الخزرجي حوالي ست ساعات بعد نقله إلى الطابق الرابع، في مكان خاص ومنزو وسط ذهوله مماجرى، مادفعه لأن يظهر لنا عواطف مغايرة، وتخلى ولو لبضع ساعات عن صلفه وغروره، وعنجهيته كعسكري، وأكثر من ذلك راح يتملقنا ويتودد إلينا، ربما كان يظن بأن بقاءه حياً ماهي إلا قضية وقت ليس إلا.
خلال الأيام الثلاثة الأولى تعرض الخزرجي للإهانات والكلمات الجارحة، من قبل المواطنين الذين كنا بالكاد نتحايل عليهم، وندفعهم بالأيادي عن باب غرفته، وكان هؤلاء المواطنون يريدون قتله وهو على فراش المرض، لتسببه في سقوط عدد من الشهداء والجرحى من أبناء المدينة، خلال عملية أسره ومقاومته هو ومن معه من الضباط والمراتب.
خلال مراحل استجوابه على سرير المرض قال الخزرجي، في الفترات التي كان يصحو فيه، إن مهمة وجوده في الناصرية هي لحماية أعراض العراقيين!، وإن إشاعة وجوده لإعدام الف شخص يومياً بأوامر صدام، مجرد كذبة، لكنه عاد مرة ثانية ليقول بصدق تلك الأوامر بعد أيام!!
في اليوم الرابع زاره السيد رشيد ابن السيد يوشع ابو رسول احد قادة الإنتفاضة في الناصرية، مهنئا بسلامته واستعادة صحته، وبعد خروج السيد سألني الخزرجي: هل هذا هو قائد الثورة في الناصرية؟ فأجبته بالنفي بسبب تماديه واستهزائه به، وكنت شخصياً أعرف شجاعة أبو رسول وشهامته، مقابل دناءة الخزرجي ودمويته بإعتباره أحد صناع الموت في العراق.
سألني في أحد الأيام: قل لي هل أُعفى من الموت إذا نجحت الإنتفاضة!!؟
وهل أعود سالماً إلى أهلي ببغداد!!؟
قلت له: ذلك ماتقرره قيادة الإنتفاضة ولاأظن أن أحداً سيأمر بقتلك، إذا ماأبديت استعداداً لمساعدة الإنتفاضة!؟
ومما أذكره في اليوم الذي أشيع فيه مقتل الطاغية، أن أفكار الخزرجي تغيرت كلها تقريبا، وكأن ضميره صحا بعد غفلة سنين طويلة، فأظهر مافي جعبته من الحقد والكراهية على الطاغية سيده، وكيف كان الأخير مستهزئاً بكل القيم، ومضى ينتقد النظام ورئيسه وجهاز المخابرات بشدة، وأكد لي مرات عديدة أنه مع الإنتفاضة ومع الشعب ضد الطغيان، وكنا نتحاور ساعات طويلة حول قيام صدام بإعدام السيد الصدر الشهيد وأخته الفاضلة، ومن العجيب حقا أن الخزرجي أنكر معرفته بأسميهما!!، وبلا سبب واضح أجهش ذات مرة بالبكاء ولاأدري أن كان صادقاً أم لا، وفي اليوم التالي سألني عن شخصي ومن أكون وماطبيعة علاقتي بالإنتفاضة!؟
قلت له بأن إرهاصات الثورة موجودة في وجدان وضمير الشعب العراقي، وأنا واحد من عموم هذا الشعب.
في صباح يوم الجمعة غادرت المستشفى كعادتي لجلب الأدوية وقناني الأوكسجين، رغم القصف المبرح للمدينة ، واحتلال أجزاء منها، وسقوط شهداء وجرحى في صفوف أهالي الناصرية.
وحدث بعد ذلك ماحدث: تهبط طائرة عمودية على المستشفى الذي احتلته قوات الحرس الجمهوري، وتدور رحى معركة ضارية في الطابقين الخامس والسادس بين الحرس والمنتفضين، ويصعد الخزرجي إلى الطائرة ويؤخذ إلى بغداد، وهو ما أكده لي طبيبان زميلان التقيتهما في مكان ما في الناصرية بعد عدة ايام.”
من جانب السلطة فقد ورد عن الانتفاضة في محافظة ذي قار في تقرير عضو قيادة فرع الرافدين بتأريخ ١٩٩١/٣/٩
“أن مجموعة من ١٠ أشخاص من الجنود الهاربين ومن عشيرة ال جويبر هاجمت ناحية الطار واستولت على الأسلحة وبدون مقاومة نهائياً. توجهت هذه المجموعة مع ما حصلت على السلاح الى ناحية كرمة بني سعيد فلم تحصل مقاومة عدا الرفيق غازي سكران من سكنة المنطقة وعضو قيادة شعبة الكرمة قاوم هذه المجموعة حتى استشهد. وبعد الأستيلاء على أسلحة الكرمة توجهت هذه المجموعة الى ناحية العكيكة واستولت على الأسلحة بعد حرق كافة الدوائر لهذه النواحي. توجهت هذه المجموعة ثانية مع من يحصل على السلاح الى سوق الشيوخ وبدأت بحرق الدوائر والاستيلاء على الأسلحة والمواد الغذائية.
في الساعة الواحدة تقريباً من يوم السبت المصادف ٩١/٣/٢ توجهت هذه المجموعة مع عناصر أخرى هاربة من الخدمة من الذين أعدم قسم من اقاربهم ” حزب الدعوة” الى المحافظة واستولوا على بناية المحافظة بدون أن تطلق عليهم طلقة واحدة والمحافظ موجود داخل البناية.
وبعدها استولوا على قيادة الفرع والشعب الحزبية ومديرية الشرطة واشعال النار في هذه الدوائر وصعود المحافظ مع أمين سر الفرع مع مجموعة أخرى من المسؤولين في سيارة مكشوفة. قتل المحافظ من قبل أحد المسلحين.
من خلال وجودي في المحافظة والتفتيش عن المقصرين والذي سببوا هذه الحوادث:
أولاً. محافظ ذي قار وامين سر الفرع ومدير الشرطة لأنهم لم يتخذوا أي اجراء حازم لتلك الحوادث والتي بدأت يوم الخميس مساء حتى يوم السبت.
ثانياً. ترك كافة أعضاء قيادة الفرع وامناء سر الفرق مقراتهم الحزبية وتركها بيد حراس من كبار السن ولايوجد لديهم تنظيم .
ثالثاً. الشرطة وقوى الأمن الداخلي كافة عدا مفرزة المخابرات لم تقم بواجبها ولم تطلق النار على هولاء وترك الدوائر والهروب.
رابعاً. هرب قسم من أعضاء قيادة الفرع خارج المحافظة.
خامساً. ترك آمر موقع الناصرية وامر مركز التدريب اسلحتهم في المشاجب وبدون مقاومة تذكر والاستيلاء عليها
سادساً. ساهم وبشكل فعال جداً عدم توزيع الطحين على العوائل ولمدة شهرين.
سابعاً. لم تصرف الرواتب لمعظم الموظفين والمتقاعدين وقوى الأمن الداخلي مما شجع العوائل على عملية النهب من مخازن الدولة.”
وورد في تقرير للاستخبارات العسكرية تكملة لحدث الانتفاضة في محافظة ذي قار ” تم نقل مقر عمليات الغرب الى بناية الطرق والجسور في المحافظة” كنتيجة لبدء الانتفاضة .” بعد اشتداد أطلاق النار بداخل المدينة لوحظ تصاعد الدخان في الساعة ١٢ يوم ٢ اذار ١٩٩١ من عدة مناطق حيث تبين أن المخربين قاموا بحرق كافة المقرات الحزبية والحكومية وقاموا بأسر أعداد من المدراء الحكوميين، والجهاز الحزبي، والامن.
ي- في الساعة ١٤٠٠ من يوم ٢ اذار ١٩٩١ حصل أطلاق قاذفات وبشدة على بناية الطرق والجسور ( مقرعمليات الغرب )
متصاحب مع هجمات متعددة حتى الساعة ١٨:٣٠ حيث طوقها المخربون وتصاعد دخان بشدة من داخل البناية. تم الاستيلاء على الرباعية الموجودة في المقر. في الساعة ١٩:٣٠ اقتحم المخربون البناية واسروا من فيه. ”
ومن كان في البناية هو الفريق نزار الخزرجي رئيس الاركان الأسبق الذي ذكر روايتين مختلفتين لما جرى في بناية الطرق والجسورفي محافظة ذي قار. الرواية الأولى لم يجر قتال في البناية والثانية جرى قتال شديد فيها. وردت الرواية الاولى في مقابلة مع غسان شربل نشرت في كتاب صدام مر من هنا ” في الأول من اذار على ما أذكر ، جاءني محافظ الناصرية الى مقري في أطراف المدينة وقال لي أن السكان تمردوا في ناحية الفهود في اهوار الجبايش وقتلوا مدير الناحية وعناصر حزبية. واخبرني لاحقاً أن الثوار سيطروا على كرمة بني سعيد وبعدها على قضاء سوق الشيوخ واقتحموا دار القائمقامية وقتلوا القائمقام وعناصر حزبية وان تصفيات تحصل. كنا في الناصرية في حدود ٢٣ ضابطاً وجندياً. الوحدات التي كان مقرراً أن تلتحق بنا لم تصل. في اليوم التالي وصل المشاركون في الانتفاضة الى الناصرية وقتلوا المحافظ واعضاء قيادة الحزب فيها، هوجم مقرنا، علماً اننا لم نقاتل، واصبت بأربع رصاصات في بطني. اندلعت النار في المبنى ونقلني الضباط الى السطح مغمياً علي. بعدها توصل الضباط الى تسوية مع مهاجمي المقر ونقلت الى مستشفى صدام في الناصرية حيث خضعت لعملية جراحية. في الثامن من آذار وصلت وحدات من الحرس الجمهوري، ففر الثوار من المدينة ونقلت الى بغداد بطائرة هليكوبتر ثم ادخلت المستشفى العسكري ثم مستشفى أبن سينا الخاص بكبار المسؤولين”.
الرواية الثانية وردت في كتاب “القدرات والادوار الأستراتيجية لسلاح الجو العراقي” للدكتور علوان العبوسي ” أخبرني المحافظ أن الغوغاء سيطروا على ناحية الفهود في الهور ثم كرمة بني سعيد وسوق الشيوخ. كان معي ٢٣ ضابط ركن ونواب ضباط كتبه ومخابرين وسواق ولم يتمكن الحزب دعمنا بالمقاتلين لأن معظمهم قد اختفى. في صباح يوم ١٩٩١/٣/٢ هاجم الغوغاء المحافظة واعدموا المحافظ وبعدها هاجموا مقر الفرع وقد قاوم أعضاء الفرع حتى أستشهدوا جميعاً. هاجمنا الغوغاء بالساعة العاشرة صباحاً وبعد قتال عنيف معهم استشهد عدد من ضباطي واصبت أنا باربع أطلقات وبقيت أقاتل من غرفة الى غرفة الى السابعة مساء وقد ساعدني ممن بقي معي على الصعود الى الطابق الثاني، في الثامنة مساء اشتدت هجماتهم لنا واحرقوا مقرنا، نقلت على أثر ذلك الى السطح وكان العتاد قد نفتح واغمي علي بسبب النزف الشديد لمدة أربعة ساعات . طلب مني الضباط التفاوض معهم بعدها أغمي علي وتم نقلي الى مستشفى الناصرية”.
عن من شارك في الانتفاضة في سوق الشيوخ ورد في وثائق حزب البعث “رفقة كتابي مكتب تنظيم الجنوب المرقمين ٣٥٧ و ١٤٢٣ في ٤/٥ و ٩١/٥/٢٧ معلومات أن جميع العشائر الموجودة في منطقة سوق الشيوخ أثناء فترة عمليات الشغب ساهمت وبنسب متفاوتة كما حصل شطر في عدد من العشائر ولم تشارك في التخريب. ومن العشائر التي شاركت في التخريب
١. عشيرة حجام ويقودها كاظم آل ريسان
٢. عشيرة آل جويبر ويقودهم أبو الهيل
٣. عشيرة النواشي ويقودهم ساجت آل دوخي
٤. عشيرة آل خميس/ آل حاج فريع و آل حاج سالم.”
كذلك رفع أسم السيد راضي الى مديرية الأمن حيث ورد في كتاب مكتب أمانة سر القطر بتاريخ ١٩٩١/٣/٢٣ ” ان الشخص الذي كان يتقدم عناصر المخربين في الناصرية يدعى سيد راضي”.