نوفمبر 24, 2024
411746407_341973191878085_1605044698953963798_n

اسم الكاتب : غدير رشيد

كل من يقرأ تاريخ العراق قراءة واعية وخاصة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في 1921 ولحد الآن، أي بحدود مئة عام، سيكتشف إن فترات النهوض والإستقرار فيه كانت متعددة وفي أوقات مختلفة لكنها قصيرة المدى، فيما كانت فترات الإنتكاسات هي الأطول ،ففترة الحكم الملكي مثلا لم تكن كلها وردية كما يحاول البعض تصويرها بل إن النظم الملكي قبل 1941 يختلف عما بعدها خاصة بعد الإنحياز الكامل لبريطانيا ضد إرادة الشعب وفي تعزيز سلطة الإقطاع والذي أوصل حالة الفقر بين الفلاحين لحالة مأساوية حتى إن العمر المتوقع للفلاحين كما قدره الخبراء الدوليين آئنذاك كان بحدود ال35 عاما،لذلك فرح العراقيون بالإنقلاب العسكري في 14 تموز 1958 والذي يمكن القول إنه تحول إالى ثورة بعد تبني قاسم الأهداف الوطنية العراقية وكان عراقيا بكل ماتعنيه الكلمة من معنى.
ومنذ 1958 شهد العراق الإنتكاسات المتتالية والتي إستمرت لحد الآن وكان من أسبابها هيمنة الأجندات الحزبية على القضية الوطنية العراقية تحت شعارات قومية وإسلاموية، لهذا يتصف العراق بعدم إتفاق النخب السياسية وحتى الثقافية على قيم وطنية مشتركة تمثل خطا أحمر لايجوز تجاوزها مهما وصلت الإختلافات السياسية حدتها وشدتها.
بل إن الكثير من القوى ضحت بالقيم الوطنية في دعمها لقادة أو أفكار غير عراقية سواء عن قصد أو بدون قصد،فعلى سبيل المثال أيدت الكثير من القوى القومية عبد الناصر في صراعه مع قاسم ووصلت حدا مبالغا فيه وصلت حدا أبدل فيه سكان الفلوجة مثلا إسم بلدتهم إلى الجمهورية العربية المتحدة أيام قاسم وطالبت القوى القومية بالوحدة الفورية مع مصر دون أن تدرك إن ناصر كان يريد الهيمنة على العراق لأهمية موقع العراق لأسباب إستراتيجية أو في أحسن الأحوال لتحقيق حلمه القومي والشخصي والذي لم يكن بمصلحة العراق خاصة وإن الصراع بين مصر والعراق يمتد لالاف السنين حتى إن المصريين هم الوحيدون الذي يرفضون الإعتراف بإن الحضارة العراقية هي الأقدم،وأثبتت أحداث التاريخ صحة نظر قاسم الذي كان يركز على الوطنية العراقية .
وتعاون البعثيون والكورد مع الإستخبارات الأميركية في إسقاط قاسم لمصالح حزبية دون أن يدركو إن الدعم الأميركي لهم لم يكن حبا في العراق بل لمنع السوفيت من الوصول لمياه الخليج وإن الهيمنة على النفط هو مايهم أميركا.
وحتى في زمن حكم الأخوين عارف، كان للسفارة المصرية الدور الكبير في رسم سياسة الدولة العراقية بل وحتى في تعيين الوزراء بسبب سذاجة القادة العراقيين ورغبتهم في الظهور بمظهر القوميين لأن الفكر القومي هو الذي كان سائدا في ذلك الوقت، بل إن العراقي كان يخجل من التباهي بعراقيته .
وفي مرحلة البعث إستمر الحال في التضحية بالوطنية العراقية بحجج قومية لم تكن إلا وسيلة للهيمنة البعثية الصدامية فدخل في حرب مع إيران بحجة قومية واهية ضحى فيها بمصلحة العراق.ولم يكتف النظام بالمواقف السياسية بل تعداها إلى الثقافة والفكر بمحاربته لكل مثقف عراقي لا يكون قوميا .ولعبت أحلام الطاغية بلعب دور ناصر في قيادة الأمة العربية دورا كبيرا في إذلال الشخصية العراقية فكان لعفلق وإلياس فرح والعيسمي الكلمة الفكرية العليا على الفكر الوطني.وعلى المستوى الشعبي كان الطاغية يفضل المصريين على العراقيين ويمنحهم الإمتيازات مقابل إذلال العراقيين.
وفي المقابل لعبت القوى الإسلامية دورا مشابها في تدمير الوطنية العراقية في صراعها مع النظام وصلت حد مقاتلة القوى الإسلاموية الشيعية مع إيران ضد الجيش العراقي الذي كان يحارب إيران إعتقادا منهم بالفكر الإسلامي ومناصرة للثورة الإسلامية في إيران ،بل إن بعض قادة الإسلاميين لا زالوا يتباهون بذلك دون خجل أو شعور بالمهانة.
وإستمر الجيل الجديد من الإسلاميين بالتضحية بالوطنية العراقية بعد 2003 من خلال دعمهم لبشار الأسد الذي يتحمل وزر كل شهداء العراق منذ 2003 –لغاية 2011 لأنه إحتضن الإرهابيين ودعمهم لقتل العراقيين وخاصة الشيعة.ورغم ذلك لم تسأل القوى الإسلاموية نفسها كيف تسمح إيران الشيعية للأسد بقتل شيعة العراق إذا كانت الدولة الإيرانية إسلامية شيعية تستحق الدفاع عنها.بل وصل الغباء حد إن هذه القوى لاتستغل ضعف نظام الأسد لمصلحة العراق كما تفعل كل الدول بما فيها إيران بل تمعن هذه القوى في التضحية بالشباب العراقي وتعزز من غياب الوطنية العراقية في فكر الجيل الجديد.
وفي المقابل وقبل 2011 وعندما إتهم المالكي سوريا بتدبير إنفجار وزارة الخارجية تسارعت القوى السنية بل وحتى إياد علاوي بزيارة سوريا والإعتذار للأسد رغم معرفته بأنه يدمر وطنهم.
أما القوى الكوردية فقد إعتادت على التعاون مع الأجنبي ضد العراق بحجج قومية لذلك تعاونت مع كل الأنظمة التي لا تريد عراقا قويا من سوريا –إيران-تركيا-أميركا –إسرائيل.، بل إن القوى الكوردية رهنت طموحاتها بإضعاف العراق ولازالت تفعل ذلك رغم إنها لم تجن من ذلك إلا المهانة ممن خدمتهم من الدول.
وحتى بعض العراقيين التركمان ،أيدوا تركيا عندما أدخلت قوتها إلى العراق دون موافقة الحكومة العراقية وكانوا أتراكا أكثر من أن يكونوا عراقيين.
كما عمدت كل الأنظمة التي تعاقبت على جكم العراق بما فيها حكومات ما بعد 2003 على إلغاء وشطب تاريخ وأعمال الحكومات السابقة لها ، بل إن سلطت البعث شوهت تاريخ ووثائق الأنظمة السابقة لها ودمرت وثائقها نفسها في 2003 وساهم الأميركيون عن عمد كذلك في محو الذاكرة العراقية وقد يكون العراق البلد الوحيد الذي لايملك ذاكرة وطنية على كل المستويات.بينما تحتفظ الدولة المصرية بكل الوثائق حتى إن جيهات السادات مثلا قالت في لقاء تلفزيوني إنها لا تملك من صور السادات إلا القليل لأنها سلمتها للرئاسة المصرية.
لو قارنا ماحدث من مواقف للأنظمة والقوى العراقية بل وحتى مواقف شرائح كثيرة من الشعب العراقي مع شعوب أخرى لا نجد مثل هذه الظاهرة في دول أو شعوب أخرى، ولا تسعفني الذاكرة بأمثلة مشابهة على الأقل في الوطن العربي، ولنأخذ مصر مثلا، حيث تتميز مصر بوطنية عالية للقوى السياسية بل وحتى للقادة منهم حيث تتغلب المصلحة المصرية على كل المصالح الأخرى.وحتى على المستوى الشعبي والمواطن البسيط تلا حظ إعتزاز المواطن المصري بمصريته مقابل ضعف ذلك إعتزاز المواطن العراقي بعراقيته.
ولم تقتصر تغييب الوطنية العراقية على المستوى السياسي فقط بل تعدته إلى المستوى الثقافي والأكاديمي،لذلك لم يظهر صحفي في العراق مثل هيكل، و لا يجتمع العراقيون على شخصية عسكرية متميزة أو كاتب سياسي أو سفير أو وزير مقارنة بمصر مثلا.
ولم نقرأ مثلا إن سلطة عراقية جديدة إعتمدت على وزير أو سفير سابق وأستشارته في قضية من إختصاصه وبالتالي وفي كل عقد من السنين تمحى الذاكرة العراقية(وثائقا وأشخاصا) لتحل محلها ذاكرة جديدة لا عمق لها بينما تستند الدولة المحترمة على وقائع ووثائق تمتد للخلف مئات السنين.
وفي تقديري إن سلطة البعث لعبت طيلة 35 عاما دورا كبيرا في تدمير الوطنية العراقية من خلال تدميرها للمؤسسة العسكرية مثلا حينما أوصلت نائب عريف ليصبح وزيرا للدفاع ومع ذلك لم يعترض أي قائد عسكري على ذلك فيما إختلف قادة عسكريون مصريون مع ناصر والسادات ومبارك وقدموا إستقالاتهم إعتزازا منهم بالمؤسسة العسكرية أو على الأقل برؤيتهم لمصلحة الوطن ولم يهاجروا ليعملوا على إسقاط النظام وحتى النظام نفسه لم يضطرهم للهجرة والتي قد تجبرهم على إتخاذ مواقف معادية لبلدهم.
بل إن صدام كان يتعمد إهانة المؤسسة العسكرية عندما كان يجبر قادة كبار في القيادة العامة للقوات المسلحة على تنفيذ حكم الإعدام بجنود أو ضباط هاربين من الخدمة كما رواها لي قائد عسكري كبير في القيادة العامة آئنذاك ولم يجرؤ أحد على الإعتراض لأنهم سمعوا صوت أقسام الرشاشات تسحب خلفهم ففضلوا البقاء أحياء على أن ينتفضوا لشرفهم العسكري ووطنيتهم.
ونفس الشيء حدث في الجامعات العراقية حيث شن البعث حملات تطهير متتالية ( في نهاية الستسنيات ونهاية السبعينيات والثمانينيات) ضد أساتذة كبار ولم يتح لهم الفرصة للمساهم في بناء وعي عراقي، لذلك لا يتذكر العراقيون مثقفين كبار كما يتذكر المصريون.
وحدث الشيء نفسه مع الشعراء والفنانين حيث إنصاع أغلبهم لرغبات الطاغية فضيع نفسه ومن رفض هاجر فسلم بحياته ولكنه فقد تأثيره على العقل العراقي وهو أهم مايطمح إليه المثقف.
وبالرغم من الحرية النسبية التي يتمتع بها العراقيون بعد 2003 إلا إن الوطنية العراقية لا زالت مع الأسف غائبة بين القادة السياسين (وهنا قد نستثني قوى اليسار والقوى المدنية الحقيقية) وبين الأكاديميين والمثقفين والإعلاميين، ومن يتابع النتاجات الفكرية والمواقف السياسية يكتشف ذلك بسهولة بل إن النظام الجديد أمعن في إلغاء الذاكرة العراقية عندما ربط كل شيء بالطاغية وأصبح كل من كان يعمل في أية هو في موضع إتهام وعليه أن يثبت برائته.
فعلى سبيل المثال لم يدرك الإسلاميون الشيعة مثلا إن أهداف الخميني وخامنئي الإستراتيجية هي نفسها أهداف الشاه والتي تمتد للإمبراطورية الإيرانية أيام قورش الكبير(قبل الميلاد)، ولم يدرك السنة إن أردوغان ليس سنيا بل تركيا قوميا له نفس أهداف سليمان القانوني، ولم تدرك من تسمي نفسها بقايا القوى القومية إن سوريا والسعودية وقطر تبحث عن مصالحها ،وهناك الكثير ممن لم يدرك إن أميركا ليست جمعية خيرية لتحرير الشعوب بل دولة رصينة تبحث عن مصالحها وبالتالي فأي إنحياز لها سيكون ضد المصلحة الوطنية.
ورغم صدمة الإستفتاء في كوردستان لم يدرك الكورد إن الحلم القومي وهم وإن مصلحتهم يجب أن تكون عراقية.
مع الأسف لم تدرك القوى السياسية العراقية والعراقيين المثل البسيط الذي تعلمناه ونحن صغار بأننا نبحر في بحر هائج والعراق هو سفنيتنا التي يجب أن نحافظ عليها وبدونها سنغوص في أعماق هذا البحر الهائج ومن ينجو سيكون خادما لقبطان سفينة أخرى.علينا جميعا أن نتعلم ونقر بأخطائنا وأهمها إننا ضحينا بالعراق بسبب التحزب / المذهب / القومية ولم ندرك إن هذه كلها لا قيمة لها بدون الوطن.
مانحتاجه في العراق هو بناء الأمة العراقية والوطنية العراقية التي تدرك أهمية العراق الجيو-سياسية والتاريخية والمستقبلية ،وهو الدور الذي يجب أن يقوم به المثقفون العراقيون الذين يستمدون قوتهم من عراقيتهم فقط.علينا أن نعيد بناء العقل العراقي من جديد، العقل الذي يؤمن بأن العراق ومصلحته هو الخط الأحمر الذي لايجوز تجاوزه، علينا أن نعمل لبروز فلاسفة عراقيون، علماء ، فنانون،كتاب ،رجال دولة، يلتزمون بعراقيتهم أولا مهما إختلفوا سياسيا لنبقي للذاكرة العراقية تراثا يعتزون به.
نحتاج لعلماء في التاريخ لإعادة قراءة تاريخ العراق بعقلية ناقدة،نحتاج لعلماء إجتماع يدرسون الشخصية العراقية،نحتاج لأساتذة جامعة لايبحثون عن الرواتب العالية والمخصصات بل لأساتذة يسخرون عقولهم لوطنهم،نحتاج لفنانين يبادرون لبناء الثقافة العراقية بدلا من الركض وراء الحكومات بحثا عن الرواتب، نحتاج لصحفيين يبحثون عن مجد صحفي حقيقي ولا يكونوا أبواقا ….
نحتاج لمشروع وطني لبناء الأمة العراقية التي تعتز بتاريخها المدركة لمصالحها والواعية لأهمية العراق ، مشروع يكتشف عناصر قوة الأمة العراقية ، ينقد أخطائها ،يرمم النسيج المجتمعي ، مشروع يوجه العراقيين لفهم حركة التاريخ ، ودراسات تجارب الشعوب، مشروع يحث العراقيين لأن يفكروا بالمستقبل ويستفيدوا مما تفعله بقية الأمم…
ما نحتاجه الإتفاق على عدد من المباديء العراقية ولتكن عشرة مبادئ مثلا لايسمح لأحد بتجاوزها منها الحفاظ على وحدة العراق / إعادة بناء الذاكرة العراقية/ عدم الإنحياز لأي من دول الجوار / بناء شخصية عراقية تفهم تاريخها وتعتز بوطنها / بناء ثقافة عراقية / رفع شعار العراق أولا/ العمل بجد لإعادة الكوادر العلمية والثقافية إلى العراق/ تحريم اللجوء للغير والإستعانة به على الوطن / إعادة بناء المؤسسات التعليمية بدءا من الحضانات إلى الجامعات/ إعادة بناء الدولة لتكون دولة مدنية / إعادة صياغة الحياة السياسية والحزبية/ …….الخ .
دعوة لمثقفي العراق المخلصون أينما كانوا للعمل والمبادرة لإعادة بناء الأمة العراقية كونها الخطوة الأولى في إعادة بناء العراق لنترك للأجيال القادمة شيئا يحافظون عليه لمصلحتنا جميعا وعلى الأقل كي لا تلعننا الأجيال القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *