اعداد : مركز الامارات للسياسات
عانت أنقرة طوال عقود مضت من نشاط حزب العمال الكردستاني (PKK) المصنَّف تنظيماً إرهابياً في تركيا، وخصوصاً مع تمركز قواته في شمال العراق والانطلاق منها لمهاجمة أهداف داخل تركيا. وبدأت تركيا أولى عملياتها البرية ضد قوات الحزب في شمال العراق صيف 1997، وتكررت عمليات الاجتياح البري التركية لشمال العراق، وكان آخرها عملية “مخلب النسر” عام 2020، التي مازالت مستمرة حتى الآن. ومنذ ديسمبر 2023 تُحضر أنقرة لشن عملية واسعة ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق تهدف إلى إقامة منطقة آمنة داخل الحدود العراقية بعمق يصل إلى 30-40 كيلومتراً، وبناء أبراج مراقبة هناك وقواعد عسكرية للمراقبة. ولأن أنقرة تدرك أن تحقيق أهداف هذه العملية يتطلب تعاوناً من حكومة بغداد، فقد سعت إلى توقيع اتفاق أمني مع بغداد مرتبط باتفاقات تعاون في مجالات عدة، أهمها التجارة والمياه، من أجل دفع بغداد إلى التعاون معها في هذا الصدد، ما قاد إلى توقيع 26 مذكرة تفاهم واتفاق استراتيجي مع العراق في خلال زيارة الرئيس أردوغان لبغداد في 22 أبريل 2024.
تناقش هذه الورقة الخطوات التركية الأخيرة تجاه بغداد وأربيل للتعاون مع الحكومة المركزية وحكومة الإقليم بخصوص حرب أنقرة على حزب العمال الكردستاني، والفرص والمعوقات التي تواجه مثل هذا التعاون.
الدوافع التركية للتعاون الأمني مع العراق
على الرغم من العمليات العسكرية التركية في شمال العراق، فإنها فشلت كلها في منع هجمات الحزب الكردستاني التي جاءت آخرها في شهر ديسمبر 2023، حين شن الحزب هجومين منفصلين متتابعين خلال أسبوع واحد على برجي مراقبة للجيش التركي هناك، ما أسفرا عن مقتل 12 جندياً تركياً. هنا أدركت تركيا أنه لا يمكن لتدابيرها الأمنية من طرف واحد أن تحقق الهدف بمنع عمليات حزب العمال الكردستاني وإضعافه، فتحركت الحكومة التركية عبر عقد لقاءات دبلوماسية على مستوى عالٍ مع حكومتي بغداد وأربيل في مارس 2024، من أجل الدفع نحو تفاهمات أمنية واقتصادية تساعد تركيا أكثر في حربها على حزب العمال الكردستاني، وتحصل فيها على دعم الحكومة المركزية أولاً، وحكومة إقليم كردستان العراق ثانياً، في هذه الحرب.
شملت هذه اللقاءات الدبلوماسية زيارة كلٍّ من وزير الخارجية هاكان فيدان، ووزير الدفاع يشار غولر ورئيس المخابرات إبراهيم كالن لبغداد، وأسفرت هذه الزيارات عن توقيع مذكرة تفاهم بين البلدين في 14 مارس الماضي تقضي بوضع إطار سياسي جديد للتعاون بينهما في مجالات عدة، تشمل المجال الأمني والعسكري ومجالات التجارة والمياه والزراعة والطاقة، وترافق ذلك مع إعلان بغداد حزب العمال الكردستاني “منظمة محظورة”.
وتتضح المقاربة التركية الجديدة مع العراق في أول تعليق لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان على توقيع مذكرة التفاهم هذه، في حديثه لإحدى القنوات التركية في 18 مارس، حين قال “نحن لا نبحث فقط في العلاقات الأمنية والعسكرية، وإنما نبحث مع العراق في إمكانية بناء مستقبل مشترك يقوم على التعاون في الاقتصاد والتجارة والطاقة والمياه وإعادة الإعمار والتنمية، من أجل شراكة استراتيجية قوية بين الطرفين، ومن أجل تحقيق ذلك فمن البديهي أن تنتهي المشاكل الأمنية بين البلدين”.
وجاء في مذكرة التفاهم بين العراق وتركيا أنه سيتم إنشاء “الإطار الاستراتيجي” للعلاقات بين البلدين في خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المقبلة لبغداد، وهذه الزيارة ستكون الأولى لرئيس جمهورية تركيا منذ زيارة تورغوت أوزال في تسعينيات القرن الماضي، علماً بأن آخر زيارة للرئيس أردوغان إلى بغداد كانت عام 2012 عندما كان حينها يشغل منصب رئيس الوزراء.
ويوضح تقرير صدر عن مركز سيتا للأبحاث السياسية، المقرب من الحكومة، أهداف تركيا من هذا التعاون مع بغداد، وفق ما يأتي:
- إنشاء المنطقة الآمنة بين العراق وتركيا، والتنسيق العسكري من أجل شن عمليات مشتركة بين قوات البلدين ضد حزب العمال الكردستاني.
- تعزيز بناء خطوط نقل النفط والغاز والطاقة بين البلدين وتأمين الحماية لها، مما يساعد على رفع حجم التجارة بين البلدين.
- أن تؤدي تركيا دوراً أكبر في موازنة النفوذ الإيراني في العراق في حال الانسحاب الأمريكي منه.
الدوافع العراقية للتعاون الأمني مع تركيا
امتنعت حكومات بغداد منذ عام 2003 عن التجاوب مع مطالب تركيا المتكررة لتوقيع اتفاق أمني بينهما، أو وضع حزب العمال الكردستاني على قوائم الإرهاب، ونددت الحكومات العراقية المتعاقبة مراراً بالتدخلات العسكرية التركية في شمال البلاد. وهناك عدة أسباب مهمة منعت بغداد فيما مضى من تصنيف حزب العمال الكردستاني جماعة إرهابية، أهمها:
- تصنيف “الكردستاني” تنظيماً إرهابياً قد يفتح الباب على مطالبات من أحزاب عراقية سُنية بالأخص، بتصنيف بعض الميليشيات الشيعية العراقية المسلحة تنظيمات إرهابية أيضاً، وهو أمر لا تريده الأحزاب العراقية الشيعية.
- يرى عدد من الأحزاب العراقية الشيعية في تركيا تهديداً لها وللعراق بسبب هجمات تركيا العسكرية على شمال العراق، ودعم تركيا للأحزاب السنية، وكذلك بسبب الخلافات مع أنقرة على ملف المياه.
- هناك أحزاب عراقية كردية لها علاقات وثيقة بحزب العمال الكردستاني، على رأسها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يحاول من خلال علاقاته بحزب العمال موازَنة قوة غريمه، الحزب الديمقراطي الكردستاني، في إقليم كردستان العراق. وفي خطابه أمام البرلمان التركي في 16 يناير الماضي هدّد وزير الخارجية التركي بصراحة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وزعيمه بافل طالباني، من استمرار تعاونه مع حزب العمال الكردستاني.
لكنْ مع مرور الوقت، وزيادة العمليات العسكرية التركية في شمال العراق، ومواجهة بغداد أزمات مائية كبيرة مؤخراً، وزيادة المطالبات العراقية برحيل القوات الأمريكية من العراق، بدأت بغداد في مراجعة موقفها من التعاون الأمني مع أنقرة، لأسباب داخلية وخارجية أهمها:
- ربطت تركيا هذه المرة عرضها لتوقيع اتفاقية أمنية مع بغداد بالتعاون في مجالات عدة، أهمها المياه عبر تحسين تدفق المياه في نهرَي دجلة والفرات في ضوء معاناة العراق من شح المياه والجفاف، وأيضاً في مجال التجارة عبر إنشاء “طريق التنمية”، وهو طريق بري وسكة حديد يمتد من مدينة البصرة على الخليج العربي إلى الأراضي والموانئ التركية لنقل البضائع بين آسيا ودول الخليج وأوروبا.
- بحْث بغداد قضية انسحاب القوات الأمريكية من العراق يدفع صانع القرار العراقي إلى محاولة الموازنة في علاقاته بين إيران وتركيا، من أجل عدم زيادة النفوذ الإيراني أكثر في حال انسحبت القوات الأمريكية.
- هناك توجه لدى حكومة بغداد مؤخراً لتحجيم الدور السياسي لإقليم كردستان العراق بدعم من طهران التي تتهم أربيل بالتعاون الاستخباراتي والأمني مع إسرائيل، وكذلك من خلال قرارات المحكمة الدستورية العليا التي أدخلت تعديلات على نظام الانتخابات في الإقليم وكذلك منعته من تصدير النفط من دون إذن بغداد، وأعطت الحكومة المركزية عملية الإشراف على دفع رواتب الموظفين في الإقليم. والتعاون الأمني والتجاري مع تركيا سيحدّ من التعامل التجاري بين أنقرة والإقليم لصالح طريق التجارة المباشر بين تركيا والعراق عبر الموصل.
- التقارب الحاصل مؤخراً بين أنقرة وواشنطن يساعد أنقرة في الضغط عبر الولايات المتحدة على الحكومة العراقية من أجل توقيع هذا الاتفاق، أو على الأقل يرفع أي “فيتو” أمريكي ضده. ويبدو أن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني قد عاد من زيارته لواشنطن في 13 أبريل بضوء أخضر لتوقيع هذه الاتفاقيات مع أنقرة.
- وقّع العراق اتفاقاً أمنياً مع إيران في أكتوبر 2023 بطلب وضغط من طهران التي اشتكت من زيادة هجمات بعض الأحزاب الكردية المعارضة للنظام الإيراني والتي تنطلق من شمال العراق ضدها، وكذلك بسبب اتهام إيران لإقليم كردستان بتهريب أسلحة إسرائيلية وجواسيس إلى الداخل الإيراني عبر حدودها، وبالتالي فإن حجج بغداد برفض توقيع اتفاق مماثل مع تركيا تراجعت.
طبيعة التعاون الأمني بين تركيا والعراق وحدوده
تشمل المطالب التركية في نطاق التعاون الأمني مع العراق النقاط الآتية:
- السماح بإقامة منطقة آمنة على الحدود العراقية-التركية بعمق بين 30-40 كيلومتراً في الداخل العراقي.
- إنشاء مركز مراقبة عسكري واستخباراتي في العراق يعمل فيه ضباطٌ من الجانبين من أجل مراقبة نشاط حزب العمال الكردستاني.
- التنسيق والمشاركة في عملية عسكرية تشنها تركيا هذا الصيف ضد مواقع حزب العمال الكردستاني في عدة مواقع.
- حماية خطوط التجارة والطاقة بين البلدين.
وكان وزير الدفاع التركي يشار غولار قد أوضح أن بلاده “عرضت فكرة إنشاء مركز مراقبة استخباراتي عسكري مشترك على بغداد منذ عامين، لكنها لم تتلق أي رد فعل إيجابي بشأنها”، وأن هذا المركز الذي “يعمل فيه ضباط جيش ومخابرات أتراك وعراقيون، يعملون على منع تمركز عناصر الحزب الكردستاني في شمال العراق، وبالتالي يؤمّنون القرى والمدن العراقية هناك التي قد تتعرض لهجمات عسكرية تركية بسبب تمركز حزب العمال الكردستاني فيها، كما أنه يجب العلم بأن الحزب الكردستاني يفرض سيطرته على أهالي هذه القرى، وقد دفع إلى تهجير بعض أهالي تلك القرى لأهدافه العسكرية”.
وفي هذا الإطار حصلت خطوة إيجابية في 12 مارس الماضي، حين زار قائد الجيش التركي الثاني الجنرال متين توكل مع وفد عسكري قيادة حرس الحدود العراقي داخل الأراضي العراقية، وعقد معهم اجتماعاً بحث فيه أمن الحدود والمنطقة الآمنة التركية، وبحسب التقرير الصادر عن مؤسسة سيتا المشار إليه أعلاه، بحثت الزيارة أيضاً توسيع المنطقة الآمنة بعمق يصل إلى 30-40 كيلومتراً على طول الحدود التركية-العراقية. كما عبّر وزير الدفاع يشار غولار عن تفاؤله بشأن المنطقة الآمنة في شمال العراق بقوله للصحفيين “لدينا أمل كبير بالانتهاء من تحقيق أهداف عملية “المخلب النسر” في خلال العام الحالي، وتوسيع المنطقة الآمنة بعمق 30-40 كيلومتراً في العراق”. وقد أكد الرئيس رجب طيب أردوغان في غير مناسبة هذا الأمر، وقال في اجتماع لحكومته في 4 مارس “نأمل بأن ننتهي من مسألة المنطقة الآمنة في شمال العراق بعمق 30-40 كيلومترا في خلال هذا الصيف”.
وجميع ما سبق من مطالب تركية وتفاهمات مع الجانب العراقي، هدفها الأساسي الحصول على دعم عراقي لشن عملية عسكرية تركية موسعة هذا الصيف في شمال العراق، تحصل فيها تركيا على دعم الجيش العراقي والحشد الشعبي، وعلى تعاون استخباراتي متبادل. وعلى العكس من العمليات العسكرية التركية السابقة، فإن أنقرة تهدف إلى توسيع نطاق العملية كي لا تنحصر في شمال شرقي العراق عند الحدود الإيرانية، ولكن لتشمل أيضاً شمال الموصل وسنجار -التي يسيطر عليها الحشد الشعبي- من أجل قطع طرق الإمداد والتواصل بين حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في سورية، وهو هدف غير مسبوق ويحتاج إلى تعاون من طرفي بغداد وأربيل من أجل تحقيق الأهداف التي تريدها أنقرة.
وفي خلال زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان بغداد في 22 أبريل، وقع الطرفان اتفاقية “الإطار الاستراتيجي الثنائي” إلى جانب 26 مذكرة تفاهم مشتركة، بينها 22 مذكرة تفاهم للتعاون في مختلف المجالات، و4 اتفاقيات إطارية لإنشاء “طريق التنمية” بدعم من قطر والإمارات بقيمة 17 مليار دولار. ونرى هنا أن جميع ما جرى التوقيع عليه هو إما مذكرات تفاهم أو اتفاق إطاري، وكلها تحتاج إلى تشكيل لجان مشتركة من أجل صياغة تفاصيلها قبل العمل بها، ما يعني استمرار وجود بعض الخلافات بين الجانبين، بسبب ربط العراق التعاون الأمني بتقدم التعاون في مجالات التجارة والمياه والطاقة مع أنقرة، في مقابل استعجال أنقرة تنفيذ بنود التفاهم الأمني أولاً.
كما تشير تصريحات المتحدث باسم الحكومة العراقية باسم العوادي إلى عدم حصول اتفاق بشأن مطالب أنقرة الأمنية بما يتعلق بالدعم والتنسيق في عمل عسكري مشترك ضد حزب العمال الكردستاني، وإنشاء مركز استخباراتي مشترك أو إنشاء المنطقة الآمنة، حيث قال إن “العراق يأمل في سيطرة الجيش العراقي على كامل حدوده، وإنشاء مراكز حرس ومراقبة عراقية، لكن هذا الأمر سيأخذ وقتاً، وأن عناصر حزب العمال الكردستاني سيُعاملونَ على أنهم لاجئون سياسيون يُمنع عليهم العمل السياسي والعسكري، وسيُجمعون في مخيمات لجوء، مع تحجيم سلاحهم داخل تلك المخيمات”. فيما لم يعلق على احتمال شن تركيا أي عملية عسكرية في شمال العراق هذا الصيف.
وعليه فإن هذه المقاربة تجاه حزب العمال الكردستاني لا تعني أن العراق مستعد لشن حرب ضدهم مع تركيا، لكنه أيضاً لا تشير إلى منع تركيا من القيام بهذا العمل في شكل منفرد يدفع عناصر “الكردستاني” إلى طلب اللجوء والقبول بالطرح العراقي. كما أن حديثه عن سيطرة الجيش العراقي على الحدود تعني رفض بغداد إنشاء تركيا المنطقة الآمنة بالشكل الذي تحدث عنه الرئيس أردوغان.
الموقف الإيراني من التقارب التركي-العراقي والمحفزات الاقتصادية التركية
حتى الآن تدرك أنقرة أن ما حققته من تقدم مع بغداد عبر توقيع اتفاقية الإطار الاستراتيجي ومذكرات التفاهم الموسعة خلال زيارة الرئيس أردوغان لبغداد، لن يكون فاعلاً إلا إنْ تحركت الحكومة العراقية بجدّ لتنفيذ تعهداتها في هذا الإطار. وهنا يأتي الموقف الإيراني بأهميته النابعة من سيطرة طهران على “الإطار التنسيقي” الحاكم سياسياً في العراق، و”الحشد الشعبي” بقوته العسكرية. وهنا يمكن طرح عدة نقاط من الجانب الإيراني ساعدت في تحقيق التقارب التركي-العراقي الأخير، وهي:
- بدأت طهران تدرك أن التنافس التركي-الإيراني في العراق القائم على استقطاب الأحزاب الكردية، يدفع بهذه الأحزاب إلى تعاون أكبر مع واشنطن مؤخراً، بل ربما مع تل أبيب كما تدعي طهران التي قامت بقصف أربيل عدة مرات خلال العام الماضي بحجة وجود بؤر للمخابرات الإسرائيلية هناك. ولعلمها بخطة واشنطن التي طرحتها على كردستان العراق من أجل التعاون مع قوات “قسد” في سورية، وهي الخطة التي تفاعل بافل طالباني زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني إيجابياً معها (استقبل طالباني مظلوم عبدي قائد “قسد” برفقة وفد أمريكي في السليمانية، وفي حينهِ أعلنت قسد في 8 أبريل 2023 أن مظلوم عبدي نجا من محاولة استهداف بمسيرة تركية استهدفت مطار السليمانية). وتعاون الأحزاب الكردية العراقية مع قوات “قسد” وفق الخطة الأمريكية لا يصب في مصلحة إيران ولا تركيا، وقد يكون من الأفضل تحييد الملف الكردي عن التنافس التركي-الإيراني في العراق.
- سارعت طهران إلى توقيع اتفاق تعاون أمني مع بغداد يُشبه التعاون المنشود بين أنقرة وبغداد، لتوسيع الاتفاق الأمني الذي وقعته مع بغداد في أكتوبر 2023 لحماية الحدود، وقد وقّع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني هذا الاتفاق في بغداد مع نظيره العراقي قاسم الأعرجي في 19 مارس الماضي. وتظهر هذه الخطوة انسجاماً وتناغماً بين أنقرة وطهران في تحييد الملف الكردي في العراق، وأن الخطوة التركية تحفز على حصول إيران على نفس الاتفاقية بما يصبّ أيضاً في مصلحة طهران.
- طهران منزعجة من التدخلات العسكرية التركية في العراق بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني، ومن ثمَّ فإن توصل بغداد إلى اتفاق أمني مع تركيا بهذا الشأن، سيجعل بغداد شريكاً في قرارات تركيا العسكرية في شمال العراق وعملياتها العسكرية هناك، وهذا سيكون أفضل بالنسبة لطهران التي تؤثر بقوة في القرارات السياسية والأمنية العراقية عبر حكومة الإطار التنسيقي والحشد الشعبي، وعليه فسيكون لدى طهران معلومات وافية عن العمليات العسكرية التركية، ويمكنها التدخل لرفض بعض تلك العمليات من طريق الحكومة العراقية.
موقف إقليم كردستان من التعاون الأمني بين تركيا والعراق
لم تصدر أي تعليقات سلبية من إقليم كردستان العراق تجاه التفاهم الأمني بين بغداد وأنقرة، خصوصاً أن وزير داخلية الإقليم ربير أحمد كان حاضراً في خلال توقيع مذكرة التفاهم مع الوفد التركي في بغداد، كما أكد رئيس الإقليم نجيرفان بارزاني في كلمة له في 6 أبريل على أهمية التعاون بين بغداد وأربيل، وأن حكومة الإقليم “ترفض انطلاق أي هجمات من أراضيها تهدد أي دولة جارة”، في دعم مباشر للتفاهم الأمني العراقي-التركي. كما أن الوفود التركية التي زارت بغداد للتمهيد لهذا التفاهم زارت أربيل أيضاً، وأطْلعتها فيما يبدو على التحضيرات لهذا التفاهم. وهنا أيضاً جاءت زيارة الرئيس أردوغان لأربيل بوصفها أول زيارة لرئيس تركي للإقليم، بوصفها حافزاً للإقليم لدعم التعاون أكثر مع تركيا.
وهنا يمكن تلخيص تأثير التفاهم بين بغداد وأنقرة على الإقليم فيما يلي:
- التفاهم الأمني بين بغداد وأنقرة لا يُضر بمصالح الإقليم، بل على العكس فإن حزب الديمقراطي الكردستاني سيستفيد من الضغط على حزب العمال الكردستاني الذي خاض ضده عدداً من المعارك مؤخراً، وسيخسر غريمه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني جزءاً من قوته بسبب هذا التفاهم. هنا نلاحظ أن هناك مساعٍ من حزب الاتحاد الكردستاني وزعيمه بافل طالباني لتحسين العلاقات بأنقرة، بضغط ودفع من واشنطن.
- الاتفاق التجاري بين أنقرة وبغداد هو ما قد يُضر بمصالح أربيل التجارية نوعا ماً، لكن أربيل تعتقد بأن علاقاتها التجارية بتركيا قوية، وأن تعدد مسارات التجارة لن يحرمها بالمطلق من التجارة مع تركيا، لأن الإقليم سوق مهمة للمنتجات التركية.
- اعتمدت أربيل سابقاً على دعم أنقرة لها في محطات الخلاف مع بغداد، لكن هذا الأمر انتهى بعد محاولة الاستفتاء الفاشلة على الانفصال عن العراق، وبالتالي فإن إقليم كردستان العراق يسعى لتحسين علاقاته مع كلٍّ من أنقرة وبغداد، خصوصاً مع استمرار مفاوضات الانسحاب الأمريكي من العراق.
الاستنتاجات والتوقعات
استغلت تركيا بشكل جيد التطورات الإقليمية الأخيرة، وقدمت مقاربة جديدة للعراق تدفع إلى تحقيق تعاون أفضل من خلال ربط الأمن بمشروع “طريق التنمية” الذي يتطلع إليه العراق، وقضايا المياه والطاقة المهمة له أيضاً. وهذا سيعزز العلاقات بين البلدين ويزيد من النفوذ التركي ولو ببطء. وقد فرضت أنقرة رؤيتها لملف المياه من خلال طرح مشاريع سدود وخزانات وممرات مائية تنشئها الشركات التركية داخل العراق، ومساعدة تركيا العراق في إدخال تقنيات الري الحديثة وترشيد استخدام المياه في الزرعة، وهذا أمر مهم لأن أنقرة ترفض مبدأ “تقاسم المياه” منذ عقود، والاتفاقيات الموقعة تُظهِر قبول العراق بفكرة أن مشكلة المياه سببها الهدر الداخلي وليس تقليص أنقرة لتدفقات مياه نهري دجلة والفرات.
من جهته، رفض العراق تصنيف حزب العمال الكردستاني تنظيماً إرهابياً حتى يُجنِّب نفسه الاضطرار للقيام بعمليات عسكرية ضده، واكتفى بإعلانه تنظيماً محظوراً، واعتبار عناصره لاجئين تحت رقابة الدولة والأمم المتحدة، وهذا أقل مما تطمح إليه تركيا، لكنه أفضل من وضع بغداد السابق، وعليه فإن أنقرة ستضطر لشن عملية عسكرية هذا الصيف بمفردها ضد معاقل “الكردستاني”، وقد تساعدها بغداد بعد ذلك في احتواء العناصر الهاربة ووضعهم في مخيمات للاجئين.
ومن المتوقع أن تتطور العلاقات التركية-العراقية على نحو أسرع وأقوى بعد العملية العسكرية التركية المرتقبة هذا الصيف، والتي قد تؤدي إلى تجاوز الخلافات بشأن الحزب الكردستاني والبدء في مسارات التعاون الأخرى. لكن نطاق التعاون العراقي مع أنقرة، في حدود هذه الاتفاقيات، سيبقى رهناً بالضغط الإيراني على حكومة الإطار التنسيقي، وستحتفظ طهران بالورقة الرابحة والأقوى وهي تحكُّمها في الحشد الشعبي الذي يسيطر على سنجار والحدود العراقية-السورية، حيث تريد تركيا والعراق مدّ “طريق التنمية” بينهما، وقطع الطريق على تواصل عناصر “الكردستاني” بين البلدين.