نوفمبر 21, 2024

اسم الكاتب : زكي رضا

يختلف الكثيرون حول اسم العراق ، كدولة كان لها موقعها التاريخي المتميز منذ عصور سحيقة ، أو كدولة بحدودها الجغرافية المعروفة اليوم . والتي تأسست بعد الاحتلال البريطاني لها ، اثر تقاسمها والفرنسيون لتركة الامبراطورية العثمانية ، من البلدان العربية الواقعة شرق المتوسط بعد نهاية الحرب العالمية الاولى ، والتي كان العراق جزءا من تلك الامبراطورية ( الاسلامية ) . وليكون تابعا للتاج البريطاني حتى العام 1958 ( على الرغم من تشكيل اول وزارة فيه خلال العام 1921 وتتويج الملك فيصل الاول ملكا عليه في شهر آب / اغسطس سنة 1921 ، ونيل العراق في الثالث من تشرين الاول / اكتوبر من العام 1932 استقلاله ليصبح دولة مستقلة (شكليا) حسب القانون الدولي حينها ، والعضو السابع والخمسين في منظمة عصبة الامم ) .

ولو تجاوزنا هنا تأريخ بلاد ما بين النهرين او ميسوبيتيميا ( وفق تسمية المؤرخين الاغريق ) ، منذ العصر الحجري القديم والمتوسط ، وحتى العام 539 ق . م . عندما سقطت الدولة البابلية الثانية على يد كورش الاخميني . وتتبعنا اسم العراق كبلد في أشعار العرب ، ومنها المعلقات في العصر الجاهلي ، وأشعار العديد من شعراء القرن الهجري الاول ( 1 ) ، أو ما جاء به الأخباريون والمؤرخون المسلمون . لوجدنا ان العراق كبلد وبهذا الاسم تحديدا ، قد تشكل حتى قبل الغزو الاسلامي له ، والذي قادته القبائل العربية بعد نجاح الاسلام في تثبيت سلطته في بلاد العرب ( شبه الجزيرة العربية ) . ويكتب ابو الحسن المسعودي عن العراق فيقول ( السواد وهو العراق ، حده مما يلي المغرب ، وأعلى دجلة من ناحية آثور وهي الموصل القريتان ، القريتان المعروفة أحداهما بالعلث من الجانب الشرقي من دجلة وهي من طسوج مسكن ، ومن جهة المشرق الجزيرة المتصلة بالبحر الفارسي المعروفة بميان روذان من كورة بهمن أردشير وراء البصرة ( 2 ) ، اما ابن رسته فيكتب ( أن حد السواد ” العراق ” الذي تم مسحه في صدر الاسلام هو من لدن تخوم الموصل ، مارا الى ساحل البحر من بلاد عبادان ، من شرقي دجلة طولا ، وعرضه منقطع الجبل ” حمرين ” من ارض حلوان ( بعد خانقين ) الى منتهى طرف القادسية مما يلي الغرب ) ( 3 ) ويضيف المسعودي قائلا ( العراق أشرف المواضع التي أختارها ملوك الامم من المنادرة ، وهم ملوك السريانيين الذين تسميهم العرب النبط ثم ملوك الفرس على طبقاتهم من الفرس الاولى الى الساسانية ، وهم الاكاسرة ، وهي حيث تلتقي دجلة والفرات وما قرب ذلك ، وهي من السواد البقعة التي حدها الزابي (نهر الزاب) فوق سر من رأى مما يلي السن وتكريت وناحية حلوان مما يلي الجبل ، وهيت مما يلي الفرات والشام وواسط من اسفل دجلة والكوفة من سقي الفرات الى بهندف وبادرايا وباكسايا وهي بالنبطية ترقف من أرض جوخى ( 4 ) ، هذه من الناحية الجغرافية .

أما عن الاقوام التي أستوطنت هذه الارض فأنها عديدة ، منذ ان شكل الانسان في هذه المناطق أولى التجمعات القروية والبشرية الكبيرة في جارمو شرق كركوك بين 6500 – 5000 سنة ق . م . والى يومنا هذا . خصوصا وان العراق ونتيجة لوجود نهريه دائمي الجريان ، وخصوبة أرضه وجوه المعتدل وثرواته وموقعه الاستراتيجي ، كان عامل جذب ليس للباحثين عن حياة أفضل فقط ، بل وللطامعين الذين توالوا على أحتلاله حتى الاحتلال الامريكي اليوم . وأتساءل كما يتساءل الكثيرون اليوم عن ما تبقى من العراق ؟ ومنهم الكاتب رشيد الخيون الذي يقول ( وكم يشوقنا أهل المعرفة ، على حد رواية المسعودي ، حين قالوا في تأريخ العراق الحضاري المفعم بالانجازات الانسانية مثل الكتابة والعجلة والطب والعمران ، الى الماضي السحيق ونحن نقلب رماد تلك النار ولا نجد فيه حرارة علم وفضل ، ولم يبق من ذلك غير حفائر وذكرى تتهاوى في لجج من الالام والخراب ، تقول لك ماذا بقي من العراق ) ( 5 ) . وهل العراق في ظل هذه الفوضى التي طالت كل شيء فيه ، سيستمر كبلد موحد قدم للبشرية عبر تأريخه الطويل الكثير من الانجازات ؟ وأن طاله خطر التقسيم ( وهو مقسم بالفعل عرقيا منذ عام 1991 وطائفيا منذ عام 2003 ) ، فمن هو المسؤول عن هذا التقسيم ؟

وكي لا ندخل في غمار التاريخ ، الذي لم يبقى لنا منه ألا ما تحتفظ به ، جامعات ومتاحف العالم من مخطوطات وتحف أثرية ، بعد ان فشلنا حتى في الحفاظ على آثارنا وتراثنا . دعونا نتابع تاريخ العراق السياسي الحديث ، اي منذ قيام الدولة العراقية الحديثة في العام 1920 وليومنا هذا . ودور العاملين المذهبي والقومي ، في تفتيت النسيج الاجتماعي العراقي ، وأحتكار السلطة وتهميش الاخر ومحاولة الغاءه ، واستخدام العنف والقسوة التي وصلت في منعطفات تاريخية معينة ، الى حد ابادة البشر والارض ، من اجل الحفاظ على السلطة . التي لم تستطع ولعقود الخروج من العباءة الطائفية ، لا بل انها مارستها احيانا بأكثر اشكالها بشاعة . كما علينا ونحن نراجع هذا التاريخ ان نكون صادقين مع انفسنا ، في تعاملنا مع المسألة الطائفية في العراق منذ تأسيسه ولليوم . ولان التشخيص الصحيح هو نصف العلاج ، علينا ان نعترف ودون ان نضحك على انفسنا ، من ان العراق كسلطة ودولة ولعشرات العقود ، وشعبا وسلطة ودولة منذ عقدين من الزمن تقريبا ، يعيشون وضعا طائفيا استثنائيا أثر كثيرا على المزاج العام للمجتمع العراقي وموقفه من الطائفية التي عانى منها طويلا ولايزال .

والان لنسأل انفسنا السؤال التالي ، من المسؤول عن ممارسة الطائفية ، وترسيخها كجزء من سياسة السلطة والدولة تجاه ابناء شعبها ؟ هل هم الشيعة ، ام السنة ( والحديث هنا يدور عن النخب السياسية ) ؟ وللاجابة على هذا السؤال علينا ان نقسم تاريخ العراق السياسي الى فترتين ، اولاهما تبدأ من بدايات تأسيس الدولة في العام 1920 وتنتهي في نيسان من العام 2003 ، والثانية تبدأ في نيسان 2003 ولليوم . ولكن قبل مناقشة هاتين الفترتين ، علينا ان نتطرق ولو بشكل سريع الى الوضع في العراق اثناء الاحتلال العثماني ، وطبيعة ذلك الأحتلال من الناحية المذهبية ، وتفضيله السنة على الشيعة لقرون طويلة ، ليحتلوا اكثر المراكز الوظيفية في البلد واهمها ، على حساب الشيعة ( وبقية مكونات شعبنا ) ، الذين كانوا يشكلون اكثرية عددية بين العرب المسلمين ( ولايزالون ) ، وهذا ما تناوله آداموف القنصل الروسي في مدينة البصرة عام 1912، اذ كتب يقول كما جاء في النشرة العثمانية الرسمية الخاصة بولاية البصرة لسنة 1898 – 1899 ( ان عدد الشيعة فيها يبلغ ( 662.845 ) نسمة مقابل أهل السنة وعددهم ( 261.850 ) ، اي بفارق ( 401.000 ) ويشمل هذا الاحصاء التقريبي المنتفك ( الناصرية ) والعمارة ( ميسان ) والحسا ” حاليا ضمن اراضي المملكة العربية السعودية ” ) ( 6 ) ،

كما وان السلطات العثمانية حصرت تقريبا ونتيجة صراعها الذي دام لقرون مع الصفويين ، الوظائف في السلك العسكري ( وغالبية الوظائف المدنية وخصوصا المهمة منها ) بابناء الطائفة السنية ، وكان خريجو مدارسها ومعاهدها العسكرية من ابناء هذه الطائفة تحديدا . وهم انفسهم الضباط الشريفيون الذين جاءوا بصحبة فيصل الاول ، بعد تعيينه من قبل الانكليز ملكا على العراق . وقد تسنم 9 من هؤلاء الضباط وبعضهم لمرات عديدة منصب رئيس الوزراء . وعليه فأن الدولة العراقية الحديثة تكون قد ورثت من العثمانيين نظاما سياسيا طائفيا ، وقوميا (لاحقا ) بعد تبلور افكار القومية العربية بشكل جنيني في نهايات الحكم العثماني ، واتساعها لاحقا اثر انتشار مباديء حركة تركيا الفتاة القومية وأفكار الثورة الفرنسية وتأثيرات ثورة اكتوبر الاشتراكية في سنوات لاحقة. الا انها اي الافكار القومية لم تستطع ازاحة العامل الطائفي والعشائري ، بل تعايشت معه وتأثرت به صعودا ونزولا ، حسب طبيعة الوضع السياسي والاقتصادي لكل فترة من فترات الحكم المختلفة .

وما ان بدأ العراق عهدا جديدا كدولة ( مستقلة ) ، حتى برهن حكامه الجدد لطائفيتهم وضيق افقهم السياسي ، من انهم سيفشلون ( وفشلوا على المدى البعيد ) في بناء اسس دولة مواطنة عابرة للطوائف والقوميات ، قادرة على انصاف ابناء بلدهم من الشيعة والكرد ، والقوميات واتباع الاديان والمذاهب الاخرى ، الذين عانوا لقرون من ظلم واضطهاد العثمانيين وتمييزهم . فبدلا من ان تقوم السلطة الجديدة بطي آثار الصراع العثماني – الصفوي ، الذي سالت بسببه أنهار من دماء ابناء البلد الواحد ، بعد ان كان العراق مسرحا لمعارك الدولتين . وذلك بترسيخ مبدأ المواطنة بين ابناء البلد ، وتوزيع الثروات والوظائف على الجميع دون اي تمييز كما العثمانيين . نراها قد احتكرت لنفسها الوظائف والمناصب المؤثرة في البلد ، تاركة للاخرين الفتات منها على الرغم من ان ( عناصر عراقية مهمة مثل رجال الدين الشيعة والاكراد وجماعات المعارضة الاخرى تنازلوا عن كثير من مطالبهم السياسية لكي يضمنوا نشوء الدولة الجديدة وتأسيسها بروح الوطنية ) ( 7 ) . أن هذه الاوضاع وغيرها والشعور بالغبن والتهميش والاقصاء احيانا من قبل السلطة الطائفية ، واهدارها للحقوق واحتكارها للمناصب ، جعلت مؤرخا كعبد الرزاق الحسني ( شيعي ) ان يشكوا ويكتب بمرارة قائلا ( انني انتقد ولازلت انتقد ، ان الاصرار على احتكار الوظائف في طائفة دون اخرى ، وعدم التسوية بين الجميع في الحقوق فيما يتعلق في هذا الامر لما يورث في قلب الطائفة المحرومة ، مما يؤدي الى الضرر بوحدتنا والوهن في قضيتنا ) ( 8 ) . وعلى اي حال فأن عبد الرزاق الحسني وبمرارة اكبر حيال طائفية السلطة يذهب بعيدا في نقده ليكتب ( تجد في العراق 14 لواء ( محافظة ) ولكل لواء متصرف ( محافظ ) ولا يوجد بين جميع هؤلاء المتصرفين متصرف جعفري ، في العراق عدة أقضية ولكل قضاء قائم مقام وليس فيهم رجل جعفري البتة ، وكذلك مدراء النواحي فلا اعلم بوجود جعفري بينهم ، وهكذا توجد وظائف مركزية كثيرة وليست احداهن مودعة الى جعفري ، وفوق كل ذلك في الاهمية أمر القضاة والحكام فأنا لا نجد في جميع انحاء العراق سوى حاكم واحد وقد عين اخيرا ) ( 9 ) . ويبدو ان الملك فيصل قد شعر بالتذمر الشيعي والكردي بعد ان تناولت الصحف العراقية حينها هذه المسألة فكتب مذكرة جاء في الفقرة الثالثة منها ( أن العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني وهذه الحكومة تحكم قسما كرديا واكثرية شيعية منتسبة عنصريا الى نفس الحكومة ، الا ان الاضطهادات كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه والذي فتح خندقا عميقا بين الشعب العربي المنقسم الى هذين المذهبين ) ( 10 )

وقمعت الدولة الحديثة التأسيس ، انتفاضات وحركات عديدة ، قامت في مختلف مناطق العراق بقسوة مبالغ فيها . كما جرى في قمعها لانتفاضات الاكراد في كردستان العراق ، او في قمعها للحركة الاشورية ( والتي حصلت وللأسف الشديد على تأييد الكثيرين ومنهم جعفر ابو التمن وغيره من الساسة الوطنيين نتيجة دعاية السلطة والمؤسسة الدينية ضد الاشوريين ) ، والحركة الايزيدية ، ومناطق العشائر في الجنوب العراقي . ومن دون الدخول في اسباب هذه الانتفاضات والحركات ( هنا ) ، التي لم تبتعد في مجملها ، عن مطالب قومية مشروعة تعلقت حينها بالاستقلال الاداري والثقافي . او بنزاعات عشائرية فيما بين العشائر احيانا ، او بين العشائر والحكومة حول نسبة الضرائب وحصص المياه أحيانا اخرى ، ولان استخدام تلك القسوة المفرطة ( التي وصلت الى هدم دور قرى بأكملها كما حدث في الرميثة وسوق الشيوخ على يد بكر صدقي في حزيران 1935 ) في القمع ، لم يكن لها ما يبررها على ما يبدو حينها ، فأن الاطراف التي تعرضت للاضطهاد من السلطة ، اعتبرت الامر تمييزا قوميا وطائفيا ، وهو فعلا كذلك .

ونتيجة لشعور الشيعة بخيبة الامل من الحكومة في حصول اي تغيير ولو طفيف لصالحهم ، فأنهم وبمبادرة من قبل علماء الدين في النجف وكربلاء ورؤساء العشائر في منطقة الفرات الاوسط . حاولوا في العام 1932 تكوين جمعية بأسم ( جمعية شباب الشيعة ) ، كما حاول قسما اخر منهم تأسيس جمعية سرية اسمها ( الصباح ) ، وغيرها من الجمعيات التي لم يكتب لها النجاح . ( وبدافع موقف السنة المتشدد نحو زيادة مشاركة الشيعة في السلطة ) (11 ) فأن وفدا شيعيا برئاسة محمد رضا الشبيبي ، اجتمعوا بالزعيم الوطني والشخصية الشيعية المعروفة محمد جعفر ابو التمن ، لاقناعه بتأييد حركتهم لتأسيس حزب شيعي ، الا انهم فشلوا في اقناعه واعتذر عن الامر لالتزامه التنظيمي بالحزب الوطني ولعدم ميله الى العمل في تنظيمات طائفية .

وخلال العهد الملكي كانت السلطات تغلق العديد من الصحف ، وتمنع دخول الكثير من الكتب التي لا تتفق مع سياساتها ، ولكن هذا لم يمنعها في العام 1933، من ان تسمح ببوادر نزاع طائفي في ان يطفو الى السطح ، نتيجة سماحها لموظف يعمل في وزارة المعارف ( التعليم ) حينها بنشر كتاب تحت عنوان ( العروبة في الميزان ) . ارجع فيه المؤلف ( عبد الرزاق الحصان ) أصول الشيعة الى المجوس الاوائل ، وانهم ليسوا عربا ( ومثل هذه الاتهامات ستعود الى الواجهة كما سنأتي على ذكره لاحقا بشكل اكثر بشاعة وبذاءة بعد ما يقارب الست عقود ) ولذا فأن ولائهم ليس للعراق بل لايران . واثر نشر الكتاب قامت أحتجاجات وأعمال عنف في العديد من المدن والبلدات الشيعية ، وخصوصا المقدسة منها . مما اجبر رشيد عالي الكيلاني على مصادرة الكتاب ، وسحب نسخه من الاسواق ومحاكمة المؤلف وسجنه . ولم تمر سنتان على هذه الحادثة حتى اندلعت مصادمات بين الاهالي وقوات الشرطة في مدينة الكاظمية ، بعد رفض الاهالي قيام السلطات البلدية بأنشاء دائرة للبريد فوق ارض مقبرة خاصة بالشيعة ، وقتل وجرح العديد من الطرفين في هذه المصادمات . وحال انتهائها ( منعت الحكومة الجديدة في 3 نيسان / ابريل مسيرات التعزية الدينية ” السبايات “في بغداد والكاظمين بأمر من متصرف بغداد وبتوجيه من رشيد عالي الكيلاني وزير الداخلية ) ( 12 ) وعلى الرغم من كل ذلك يجب التأكيد على ان الشيعة بشكل عام ، كانت لهم الحرية الكاملة في ممارسة طقوسهم طيلة العهد الملكي . عكس ما كان في عهد الاحتلال العثماني حيث كانوا يمارسون طقوسهم في المناطق المقدسة فقط ، اما في الاماكن الاخرى ( وتحديدا في البصرة وبغداد ، فقد كانوا ممنوعين من ممارسة شعائرهم بحرية ) ( 13 ) .

ولم يفت من بال المؤسسة الحاكمة حينها العمل ، على تغيير ديموغرافية بعض المناطق المهمة ( اقتصاديا ) والحساسة قوميا وعرقيا في مدينة مثل كركوك مثلا . لتجعل بسياستها تلك المدينة اشبه ببرميل البارود القادر في حال انفجاره ، على تعقيد الوضع السياسي والامني في كل العراق ، بل وتهديد وحدته الوطنية وتعريض البلد بأكمله الى الخطر . حيث عملت السلطات وبمبادرة من السياسي المخضرم نوري السعيد ، على نقل الموظفين الكرد والتركمان وقسم من العرب الى مناطق اخرى ، لتأتي بدلا عنهم بموظفين عربا (غالبيتهم من السنة ) لا ليعملوا فيها فقط ، بل ليقيموا فيها بشكل دائم . وليضيفوا جراء هذه السياسة وسياسات شوفينية وطائفية أخرى لسلطات ستأتي بعدهم ، مشاكل كبيرة على كاهل العراق المثقل بالمشاكل اصلا . ولم تكتفي السلطات بتعريب المدن ، بل عملت كما ستعمل غيرها مستقبلا على تعريب المواطنين من غير العرب ، سواء بالتهديد او بالترغيب . كما مارست السلطات اضافة الى التعريب عمليات التهجير الاولى في تاريخ العراق الحديث ، حيث تم تهجير العديد من عوائل الكرد الفيليين الشيعة الى ايران ، بعد قمعها لانتفاضة الحي في العام 1956، في سياسة عقاب جماعي نتيجة اشتراك ابناء تلك العوائل ومساهمتهم في تلك الانتفاضة وانخراطهم في النضال الوطني . كما وان السلطات كانت مستمرة طيلة فترة حكمها ، بابعاد العديد من رجال الدين الشيعة عن البلد واسقاط الجنسية عن العديد من المناوئين لها وجلهم من الشيعة ايضا .

ومن خلال سياسة بعيدة المدى من اجل اسلمة المجتمع العراقي او اضعاف الاديان الاخرى التي وجدت في العراق قبل الاسلام بقرون ( سوف تتكرر بعد عقود ضد المسيحيين ) وللسيطرة على السوق التجاري الذي كان لليهود العراقيين فيه تأثير كبير ( حيث كان عدد التجار اليهود العراقيين او من اصل عراقي من الذين حددت اعتباراتهم المالية خلال سنوات 1938- 1939 بين 22500 – 75000 دينار ، بتسعة تجار يهود مقابل تاجر عربي مسلم سني واحد ( 14 )، كما كان عدد اعضاء غرفة تجارة بغداد من اليهود في السنة المالية 1935 -1936 ، تسعة أعضاء يهود بينما كان عدد الاعضاء السنة 4 والشيعة 2 ( 15 )) وبحجة العمالة لاسرائيل ، قامت السلطات في نهاية اربعينيات القرن الماضي بتهجير اليهود العراقيين ( خدمة للدولة العبرية ) من بلدهم ، الذي استوطنوه قبل الغزو الاسلامي له بعشرات القرون . بعد اسقاط الجنسية عنهم ومصادرة املاكهم ( وهذا ما سيقوم به نظام البعث الطائفي ايضا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي بحق الكرد الفيليين ومئات الالاف من العرب الشيعة كما سنرى ) . علما ان نفس تلك السلطات كانت تمنح الجنسية العراقية وبسهولة ويسر ، الى العرب الوافدين والاتراك والشيشان والافغان ، بل وحتى الجنود الهنود الذي جاءوا الى العراق مع المستعمر البريطاني . وقد كتب العديد من المتابعين السياسيين والقانونيين الكثير عن تلك الحالات حينها ، كما وان الصحافة العراقية تناولت منح الجنسية للاجانب على حساب ابناء الوطن ، بمقالات تهكمية معبرة ( 16 ) . واذا عرفنا ان قانون الجنسية العراقي (ولليوم) يعتبر الكثير من الشيعة من ذوي اصول ايرانية ، فاننا نستطيع ان نكتشف وبسهولة ان الجنسية العراقية كانت تمنح الى اجانب من الطائفة الاخرى ، في محاولة لتغيير ميزان نفوس البلد لصالح السنة ( وتمارس بعض بلدان الخليج كالبحرين اليوم نفس هذه السياسة ) .

وعلى العموم فأن الدولة العراقية الحديثة التكوين ، كانت قد فوتت على شعبنا ووطننا ، فرصة قلما يجود الزمان بها ، كي يساهم الجميع ببناء وطن معافى ، ليسير بثقة وأطمئنان الى بناء مستقبل زاهر لابنائه ، وذلك بعد التلاحم الشيعي السني أثناء التحضير لثورة العشرين وخلالها ( 17 ) ، والتي قربت بين ابناء الطائفتين من العراقيين بشكل لم يكن مسبوقا قبلها ، حيث كانت الاحتفالات الدينية تقام في جوامع السنة وحسينيات الشيعة بشكل مشترك وبالتناوب .

و بعد فشل تلك الارهاصات الاولى لأعلاء مصلحة الوطن فوق المصالح الطائفية ، من قبل سياسيي العراق حينها ، ظلت الطائفية كظاهرة هي التي تتصدر المشهد السياسي العراقي وليومنا هذا . اذ يكتب حسن العلوي بعد اكثر من سبعين عاما متناولا الظاهرة الطائفية بشكل عام قائلا ( الظاهرة الوحيدة المستقرة ، وفي بلد يفتقر الى التقاليد السياسية والدستورية كانت الطائفية تقليده الثابت ، وقد أخذت معنى من القداسة لم يأخذه الدستور ) ( 18 ) .

وقبل ان نختتم هذا السرد السريع للواقع الطائفي اثناء العهد الملكي ، فمن الضروري التأكيد ، انه على الرغم من ان نفوس الشيعة كان ( ولايزال ) هو الاكبر بين عرب العراق ، الا ان ذلك لم يتناسب اطلاقا وعدد الوزارات التي قاموا بتشكيلها . فمن مجموع 58 وزارة تم تشكيلها كان نصيبهم 5 وزارات فقط ، وكانت فترة حكمهم سنتان وثلاثة أشهر من مدة 36 سنة و10 أشهر هي فترة الحكم الملكي منذ تشكيل اول وزارة في ايلول 1921 وحتى انهياره في 14 تموز 1958( 19 ) .

( 1 ) فتغلل لكم ما لا تغل لاهلها …… قرى بالعراق من قفيز ودرهم ” من معلقة زهير ابن ابي سلمى ) .

تفهق بالعراق أبو المثنى ……. وعلم قومه أكل الخبيص ” الفرزدق “

(2 ) المسعودي ، التنبيه والاشراف ، ص 32-38 عن الاديان والمذاهب بالعراق ، رشيد الخيون ص 6

( 3 ) فاروق فوزي ، تاريخ العراق في عصور الخلافة الاسلامية ص 21 ، عن المصدر السابق ص 5 – 6 .

( 4 ) المسعودي ، التنبيه والاشراف ، ص 32-38 .، عن الاديان والمذاهب بالعراق ، رشيد الخيون ص 6 .

( 5 ) الاديان والمذاهب بالعراق ، رشيد الخيون ص 7 .

( 6 ) آداموف ، ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها ،ص 129 عن الاديان والمذاهب بالعراق ، رشيد الخيون ، ص 291 .

( 7 ) محمد جعفر ابو التمن ، دراسة في الزعامة السياسية العراقية ، د. خالد التميمي ص 335 .

( 8 ) الاكثرية الشيعية في العراق ، مجلة العرفان ، حزيران 1925 ، باب المراسلة والمناظرة ، عن الاديان والمذاهب بالعراق ، رشيد الخيون ص 290- 291 .

( 9 ) المصدر السابق ، ص 312-313 .

( 10 ) تاريخ الوزارات ، عبد الرزاق الحسني ، الجزء الثالث .

( 11 ) محمد جعفر ابو التمن ، دراسة في الزعامة السياسية العراقية ، د. خالد التميمي ص 314 .

( 12 ) المصدر السابق ص 361 .

( 13 ) العراق ، الكتاب الاول ، حنا بطاطو ص 62 .

( 14 ) المصدر السابق ص 283 .

( 15 ) المصدر السابق ص 311 .

( 16 ) جاووش البلدية ومودة التجنس ، مقالة لنوري ثابت حبزبوز ، كتاب بغداد الجامع من المفيد والظريف الجزء الاول ، فخري الزبيدي ص 381- 383 .

( 17 ) في ذكرى وفاة الامام علي ابن ابي طالب كان موكب الاعظمية يسير في صحن الكاظمية وهو يهزج قائلا :

ابو بكر وعمر حزنانين ……. عالوصي حيدر

وملائكة السما وجبريل ………….. لاجله تكدر

لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، د.علي الوردي ، الجزء الخامس ، حول ثورة العشرين ص 192 .

( 18 ) حسن العلوي ، الشيعة والدولة القومية في العراق ، ص 9 – 10 .

( 19 ) العراق ، الكتاب الاول ، حنا بطاطو ص 212- 217 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *