اسم الكاتب : حيدر سعيد
تبدو مسألةُ الهوية العربية للشيعة العرب وعلاقتهم بإيران وحدود ولائهم للدول الوطنية التي ينتمون إليها إحدى المكونات الثابتة في التأريخ الحديث لمنطقة الشرق العربي. فمن بين جملة من المفاهيم التي تتركب منها الثقافةُ السياسية للمنطقة، تبدو هذه المسألةُ من المسائل النادرة التي تتمتع بثبات تأريخي غريب، فالجدل على عروبة الشيعة العرب أو تبعيتهم لإيران جدل مستمر لأكثر من مئة سنة، تأريخه تأريخ التكوين السياسي الحديث للمنطقة، حين أنشأت الكولونيالية الغربية دولا وطنية ذات نظام سياسي حديث منقول عن النظم السياسية الغربية، أصبح الشيعة (العرب) جزءا من مواطنية هذه الدول. ومع ذلك، ثمة شكوك بمدى وشكل علاقتهم بإيران، التي يمكن أن تعد المصدر السياسي والإيديولوجي للتشيع الحديث. جدل يُعاد بألفاظه ومفاهيمه نفسها.
ما يقوله اليوم قادةُ دول، ومفكّرون، ورجال دين، وخبراء، وسياسيون، وصحافيون، وناشطون مدنيون، وجماهير، هو بالضبط، بالحروف نفسها، ما كان يُقال في عشرينيات القرن الماضي وقبلها. قرن كامل لم يستطع أن يجعلنا نتقدم خطوة في إعادة تصوّر المسألة.
هذا المقال لا يحاول أن يناقش، أو يحسم، عروبةَ الشيعة العرب، ومدى ولائهم لدولهم الوطنية، ولا ولائهم لإيران، بل يحاول أن يناقش الديناميكيات المعقدة التي تتطور بها الهويةُ العربية لشيعة العراق، تحديدا، الذين يمثلون الكتلة الكبرى من الشيعة العرب.
لقد بات من مسلّمات تفكيرنا المعاصر النظر إلى (الهوية) على أنها كيان مركّب، بأربعين وجها، بتعبير داريوش شايغان. ولذلك، يكون من تحصيل الحاصل أن نتحدث عن هوية شيعة العراق بأنها مركّبة.
غير أن الهوية ليست مجرد مركّب مكونات تأريخية ثابتة يفسّر ولاءات وانتماءات متعددة. إنها سيرورة، حركة، عنصر يتحرك ويسهم في حركة جماعة ما.
الهوية بين السسيولوجيا والسياسة
وعلى نحو أولى، الهوية أداة، تُستعمَل في سياقات سوسيو سياسية محددة. المهم فيها ليس وجودها التأريخي المجرّد المتعالي، الذي يجعلها أقربَ إلى الميتافيزيقا، بل الشكل الذي تظهر به، والكيفية التي يُعبَّر بها عنها.. طرق استعمالها. والوجود التأريخي المجرد للهوية لا معنى له إلا بممارستها.
هذا الفهم الأداتي instrumentalist للهوية سيجعلنا، أخيرا، ننظر إلى الهوية العربية لشيعة العراق بأنها ذات قيمة استعمالية، تُستعمَل في سياقات محددة، وتتطور ويعاد صياغتها وعلاقاتها بمركب الهوية على هذا الأساس.
يقول أستاذ السياسة الإثنية بول براس في نص كلاسيكي: laquo;إن (المتعهدين السياسيين) يستطيعون تسييس الهويات التي كانت في السابق ثقافية فحسب، وهم لديهم المهارات اللازمة للربط بين (الارتباطات الوشائجية primordial العميقة لأعضاء المجموعة والعلاقات المتغيرة للسياسة)raquo;. ويضيف: laquo;إن تسييس الهوية ينشأ عن المنافسة بين النخب على إعادة تحديد معالم الهوية بطرق تخدم النخبة والمصالح الشعبية على حد سواءraquo;.
لقد بُني العراقُ الحديث، أو الدولة العراقية الحديثة، على الفكرة العربية، جزءا من مشروع (العروبة السياسية)، الذي أطلقه البريطانيون، مع لورنس العرب والشريف حسين بن علي، لتفكيك الدولة العثمانية. وقد كان النموذج السياسي السائد آنذاك، أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، هو نموذج (الدولة الأمة) و(حق الأمم في تقرير المصير). ولذلك، كان الركن الجوهري في مشروع تكوين سياسي حديث للمنطقة وتفكيك الدولة العثمانية إطلاق الهويات الإثنية وبناء دول على نموذج (الدولة الأمة).
لعل هذا يفسّر لمَ لم يختر البريطانيون للعراق النموذج التعددي حين أقاموا دولته الحديثة سنة 1921، ولمَ لم يجرِ الوعي بالطابع التعددي للعراق إلا في 9/ 4/ 2003. قد نفهم أن النماذج السياسية التعددية لم تكن جزءا من الثقافة السياسية للمنطقة، فالنظام السياسي اللبناني وهو أول النماذج التعددية فيها أُنشئ بعد أكثر من عشرين سنة من قيام الدولة العراقية. غير أن للبريطانيين سوابق في النماذج التعددية، فالفيدرالية الكندية أُنشئت في القرن التاسع عشر بنصيحة بريطانية، وهم تركوا ماليزيا سنة 1957 بعد أن أقاموا فيها نظاما تعدديا.
البناء العربي السني للعراق
غير أن السياق السياسي الذي أُنشئ فيه العراقُ الحديث استلزم أن يُبنى على نموذج (الدولة الأمة)، وعلى أنه بلد عربي، وبهوية عربية. وهكذا، نُصِّب أحد الهاشميين ملكا عليه، وهم حاضنة الدعوة العربية، وتشكل الجزء الجوهري من الطبقة السياسية التي حكمته من الضباط الشريفيين.
لقد أفضى هذا إلى نتيجتين ستتحكمان بمصير العراق:
أن هناك هوية أصلانية له. وهي هوية عابرة للوطنية.
وقد تولت النخبُ المثقفة تحديد معالم هذه الهوية الأصلانية، أي رسم مكوناتها وحدودها.
وفي العموم، كان المثقفون هم الأداة الأهم في بناء الأمة في العراق، الذي فُرض عليه نموذج (الدولة الأمة)، من دون إرادة عيش مشترك، على الطريقة الفرنسية للقومية، ومن دون صهر بسماركي. وبالتالي، كان مشروع (بناء الأمة العراقية)، الذي أطلقه الملك فيصل الأول، يعمد إلى ما أسمّيه (صهرا ثقافيا)، استند في الأساس إلى بناء هوية ثقافية موحدة، وذلك في حقلين أساسيين: نظام التعليم، وسياسة الذاكرة.
يقول رئيس الوزراء الأسبق فاضل الجمالي، في مراجعة متأخرة، وهو الذي دعا إلى نظام لامركزي للتعليم مناقض لمشروع مركزية التعليم الذي قاده ساطع الحصري: laquo;كان خطؤنا الأساسي، في الثلاثينيات من القرن الماضي، أننا لم نؤكد على الوحدة العراقية في سياستنا التربوية، قدر ما أكدنا على القومية العربيةraquo;.
غير أن الدولة العراقية، في الأقل في بداياتها، وإن قامت على فكرة (العروبة)، لم تدعم إلا في حالات نادرة أي تمييز حقوقي بين المواطنين العراقيين، بما في ذلك ذوو الأصول غير العربية، بل إن في بعض وثائق المملكة العراقية نصا نادرا بأن الفرس هم جزء من الأمة العراقية ويشكلون نسبة ما منها، وكان ضمن أول بعثة أرسلتها الدولةُ العراقية للدراسة في الخارج سنة 1923 موفد من أصول إيرانية. هذا النص، وإن لم يتكرر في الوثائق اللاحقة للدولة العراقية، يكشف عن إمكانية ما عاشها العراق وإن بشكل موقت وخجول وجنيني لفهم (المواطنة) من حيث هي مفهوم حقوقي.
تأسيس الهوية العراقية
الثقافة هي التي قامت ببناء (المواطنة الأصلانية)، فقد أطلقت ثقافةُ الدولة الوطنية عملية ثقافية ضخمة تكفلت بـ (البناء الثقافي لعروبة العراق) وتأسيس الهوية العربية للبلاد.
تضمنت هذه العمليةُ بناءَ وجه سنّي للعراق، يتمثل في الطريقة التي روى بها العراقُ الحديث تأريخَه الإسلامي وبُنيت بها الذاكرةُ العراقية، في رواية الدولة للتأريخ، في الكتب المدرسية، في كتب التأريخ، وكذلك في النظام الرمزي الذي اتخذته الدولةُ من أعياد ومناسبات دينية وما إلى ذلك.
لقد بُنيت ذاكرةُ العراق الحديث بمحتوى عربي سنّي. غير أن العروبة الثقافية تضمنت، أيضا، رسمَ الشك في عروبة الشيعة السياسية، إما بعدّهم إيرانيين، أو من أصول إيرانية، أو موالين لإيران. هذا على الرغم من أن النخب الشيعية عشيةَ قيام الدولة العراقية نادت بحكم عربي إسلامي. لقد كان الشك في عروبة الشيعة مفصلا أساسيا في هذه العملية الثقافية، التي انخرط فيها مثقفون عراقيون كثر، بدءا من عشرينيات القرن الماضي. يظهر ذلك في النزعة القومية في كتابة التأريخ، التي أسسها المؤرخان عبدالعزيز الدوري وصالح أحمد العلي، وفي تعريب تأريخ العراق الرافديني، التي باشر بها الآثاريون العراقيون، كما يظهر في هجاء الشعوبية، وفي عدّ شيعة العراق هم بقايا الساسانيين، على نحو ما فعل عبدالرزاق الحصان في كتابه (العروبة في الميزان) الصادر سنة 1933.
يقول الرصافي، في كتابه (الرسالة العراقية)، الذي كتبه سنة 1940 ونُشر قبل سنوات قليلة: laquo;إن إيران هي القبلة السياسية التي تتجه إليها قلوبُ شيعة العراق منذ عهد الدولة العثمانية البائدة. و… إن عراقيتهم تتلاشى تجاه الإيرانية المستحكمة في قلوبهمraquo;. ويضيف: laquo;إن بين التشيع وبين العروبة تناقضا لا يخفى على أسخف العقولraquo;.
ولم يقف مشروع ثقافة الدولة الوطنية عند هذا الحد، بل إنها أسّست للغة وطنية ذات تقاليد راسخة، لاتزال تشيع في خطاب العراقيين وتصوّراتهم. هذه اللغة الوطنية والغلاف التعسفي للوطنية العراقية منعا من أن يجري حديث جدي عن المكونات الإثنية والطائفية للسلطة والمجتمع والسياسة، على الرغم من أن العراق الحديث شهد ويشهد سياسات إثنية نشطة.