نوفمبر 5, 2024
IRAQ-CONFLICT-DAILY LIFE

An elderly Iraqi man looks at destroyed buildings in the old town Midan area of the northern city of Mosul, on February 21, 2020. (Photo by Zaid AL-OBEIDI / AFP)

اسم الكاتب : علي فائز

في حالات الحروب وأعمال العنف تتصحر مشاعر الإنسان، ويتحول إلى جثة متحركة. وعندما تنتهي هذه الحالات وتتبدد الأوهام، يشعر – أو قد لا يشعر – بمدى التلوث الذي أصابه، وأي درجة من درجات البشاعة وصل إليها حين تصبح الاعصاب مشلولة، متقبلة لما يجري لنا ولغيرنا في هذا العالم.

بعد غزو العراق عام 2003، هربت عائلتنا، مثل كل العوائل، إلى مكانٍ يقيها القصف. وكانت قبلتنا في ذلك الوقت أحد الأرياف التي لنا فيها أقارب وأصدقاء. وبعد مدة خفتت فيها أجواء المعارك، ذهبت برفقة صديق لي لتفقد منزلنا. كنت أسير متعثر الآمال وأرسم خيالات مختلفة حول الشكل الذي سيكون عليه منزلنا، وفجأة صرخ صديقي: انتبه لا تسحقه. لقد كدت أن أسحق جثة مغطاة بقطع الكارتون ومرمية قرب الرصيف وقد انساب من رأسها دمٌ كثيف.

هذه أول جثة أراها في حياتي على أرض الواقع، ومنها انفتحت عيناي على جثثٍ كثيرة، وبأوضاع غريبة ومفزعة. كانت آخر مسلسلات الجثث التي رأيتها هي في أحداث تشرين الأول/ أكتوبر 2019، حيث كنت أمارس عملي الصحافي والاحتجاجي وسط ساحات الموت والاغتيال، أصور الجثث وأرسل صورها. كانت الصورة عندي تشبه عمل التحنيط، كل صورة كفيلة بتجاوز الزمن، تحنط الصورة وتوضع في مكان ما وتكون شاهداً على الاستبداد ومآلاته. أصوِّر وفي رأسي تدوي عبارة ميلان كونديرا “إن كفاح الإنسان ضد السلطة هو، في جوهره، السعي لنشر الحقائق وتوثيقها كي لا تنسى”.

جثث متفحمة..

في ليلة من ليالي تشرين، شاع خبر العثور على 12 جثة متفحمة في مقر “منظمة بدر” في محافظة القادسية، الذي أحرقه المتظاهرون. وبعد التوجه إلى الطب العدلي تأكدتُ من الخبر. دخلتُ مع ذوي الضحايا وشاهدت الجثث المتفحمة. كانت الغرفة مملوءة بالدخان ورائحة الشواء. كان منظرهم مروعاً.

وما هي إلا دقائق حتى بدأت المزيد من العوائل تتدفق لمعرفة مصير أبنائها، الذين لم يعودوا حتى الآن بعد انسحاب المتظاهرين وانقطاع الاتصال بهم. كان مشهد الأمهات الباحثات عن أبنائهن بين الجثث المتفحمة هو الأكثر فظاعة. تعرفت إحداهن على ولدها من بقايا ملابسه (قالت بصوت متهدج: “لقد عرفته من ملابسه”) التي كانت بقايا قميص أزرق ضمّته إلى صدرها، وهزت المستشفى بصراخها.

سبات الشعور الإنساني..

في حالات الحروب وأعمال العنف تتصحر مشاعر الإنسان، ويتحول إلى جثة متحركة. وعندما تنتهي هذه الحالات وتتبدد الأوهام، ويشعر – أو قد لا يشعر – بمدى التلوث الذي أصابه، وأي درجة من درجات البشاعة وصل إليها حين تصبح الاعصاب مشلولة، متقبلة لما يجري لنا ولغيرنا في هذا العالم.

إنها جريمة الاعتياد التي تحولنا إلى آلات متحركة. فضلاً عن ذلك، فإن هذا الاعتياد جعلنا نعيد النظر في الحكايات التراجيدية التي تحفل بها نصوص التاريخ، تلك التي كان لها فيما مضى حضورها الطاغي، وقدرتها على تحريك المشاعر الإنسانية. أما في وقتنا الحاضر، فإن هذه النصوص تبدو وكأنها منتهية الصلاحية، إذ لم تعد مؤثرة في الواقع الذي يفوقها بؤساً وبشاعة لدرجة تبدو أمامه أقرب إلى قصة أطفال مكررة في ظل اجواء ملوثة بشتى أطياف العنف.

يذكّر المصور الصحافي “جون ستيل” (1) الذي أمضى عدة سنوات في ميادين الحروب: “كنا في حارة تسمّى حارة القناصة، وتمكنتُ من تصوير فتاة أصيبت بطلقة نارية في رقبتها، وقد صوّرتها وهي تحتضر داخل سيارة الأسعاف. وبعد أن توفيت اتضح لي فجأة أنَّ آخر شيء شاهدته هذه الفتاة قبل موتها، كان عدسة الكاميرا التي وجهتُها إلى وجهها. كان لذلك أثر بالغ في نفسي هز كياني. فحملت الكاميرا ورحت أعدو في الحي وأصور المدنيين البوسنيين وهم يركضون هرباً من مكان إلى آخر. أظن أن سبب انهياري يعود إلى شعور مخيف بأن الناس كانوا يموتون كي أظهر بمظهر البطل واحصل على صورة استثنائية”. كلمات ستيل ذكرتني بنص شعري لشاعرٍ أفغاني يدعى إلياس علوي يقول فيه: “نحن نموت حتى ينال مصور (التايمز) الجائزة”.

حال الإنسان المُستلب في المجتمع المعاصر، نجده متجسداً في الواقع وفي بطون الكتب والروايات والنصوص الشعرية والسينما. فعلى سبيل المثال، يكلَّف أحد الجنود في مسلسل “Chernobyl” بقتل الحيوانات خشية أن تكون ملوثة بالإشعاعات. وحينما يدخل على كلبة تُرضع جرائها الصغار، ينكسر قلبه ويحجم عن إطلاق النار، ولكنه يُجبر على قتلها بعد انكشاف أمرها من قبل الضابط الذي أخبره حينها: “لقد أصبت أحدهم برصاصة، أنت لم تعد كما كنت بعد الآن، ولن تكون كذلك مرة أخرى أبداً”.

هذا التحول المرعب الذي يصيب الإنسان، نجد جذوره ضاربة في عمق التاريخ وأساطير الأمم، حيث نجد في الأساطير اليونانية ما يسمى بنهر “الليثة”، وهو نهر النسيان الذي كان يسعى إله الحرب الإغريقي إلى إغواء الجنود عندما يدخلون أرضه، وعندما يخرجون يسقيهم أكواباً من ماء الليثة للحيلولة دون انهيار كل شيء من حولهم حينما تصحى مشاعرهم، ويتملكهم الحس الإنساني بعد أن ذابوا في خضم هيجان جماعي.

وفي كتابه “الإنسان يبحث عن المعنى”، ينقل “فيكتور فرانكل” (2) هذه القصة: “قضيت فترة من الوقت داخل كوخ للمرضى المصابين بالتيفوس ممن يتعرضون للحرارة العالية والهذيان، وغالباً ما يموت الكثير منهم. وبعد أن لقي واحد منهم حتفه، صرت أشاهد هذا المنظر بدون أي تأثر وألاحظه وما يتبعه من مشاهد تتكرر كل مرة مع كل موت…. كان مكاني في الجانب الخلفي من الكوخ، بالقرب من النافذة الصغيرة الوحيدة… وبينما كانت يداي الباردتان تمسكان بسلطانية من الحساء الساخن الذي كنت أرتشفه بشراهة، حدث أن اتجهت عيناي خارج النافذة. وإذا بي أجد الجثة التي أخذوها تحملق فيّ بعينين جاحظتين لامعتين. وقلت لنفسي حينذاك أنني من ساعتين فقط كنت أتكلم مع الشخص الذي صار هذه الجثة. والأن أواصل ارتشاف حسائي”.

وفي مذكراته التي حملت عنوان “في مهب العراق”، يروي الدكتور علي عبد الأمير عجام هذه القصة: “مع تواصل فصول الحرب مع إيران، قدّر لي أن أكون في جبهة شرق البصرة في العام 1982، حيث دارت واحدة من أكثر معارك الحرب ضراوة وشراسة، ومعها تحوّل ذلك الخائف المرتعد إلى متآلف بشكل عجيب لا مع التهديد بالموت، بل مع الموت ذاته. فقد تنبهتُ إلى نفسي، بعد نهاية المعركة، وأنا أتناول جزءاً من طعامي ضمن “أرزاق المعركة” التي كنا نحملها معنا، وكان قطعة خبز صلبة بالكاد قطعتها بأسناني مع جبن من علبة صغيرة نوع “كرافت” وعلبة “مربى رقّي” صغيرة من إنتاج معمل كربلاء للصناعات الغذائية. تنبهت إلى أنني كنت أتناول طعامي وفمي بالكاد أزلت عنه الغبار الثقيل، بينما كان حولي ستة من عناصر وحدتي وهم قتلى!”.

هذا التدمير والتغريب للروح الإنسانية وتلف المشاعر، خلق أشباحاً للإنسان تصدّرت هي المشهد، وتنبئ أيضاً بـ “اختفاء الكائن البشري”… وهو عنوان كتاب لـ “بيري ساندرز” (3) يتكلم فيه عن ضياع الإنسان وتشوهه. ذلك الإنسان الذي لم يعد يشعر بمأساة الأخرين وآلامهم وموتهم اليومي، فمشاعره متلبدة، ولا يبدي حراكاً إزاء ما يلاحظه. لقد سحبته موجة الاعتياد وجعلت مشاعره تعيش في سبات، تاركةً إياه يتعفن مللاً واغتراباً.

ينقل عالم الاجتماع والمؤرخ العراقي، الدكتور علي الوردي، عن المبشر الإنجليزي “غروفز”، الذي كان يسكن بغداد سنة 1831، قوله إن: “عدد الموتى أخذ يتزايد يوماً بعد يوم حتى بلغ تسعة آلاف في اليوم الواحد… إن الموت قد أصبح مألوفًا بحيث أن الناس صاروا يدفنون أقرب الناس إليهم من دون اكتراث يُعتد به كما لو كانوا يقومون بعمل اعتيادي”.

هذا أخطر ما وصل إليه وضعنا الحالي، إذ انكسرت في داخلنا المشاعر المشتركة، وصرنا نتقبل الموت قتلًا واغتيالًا وحرقًا كحالة طبيعية، الأمر الذي يعطي دفقة آمل كبيرة للطغاة الذين يحكمون شعوباً لا تحس بموت الآخر وغربته ومأساته.. شعوبٌ من دمى، فاقدة للحس الإنساني، ولم تعد تهزها أخبار الموت والمقابر الجماعية والسجون السرية. وهذا يغري بتحديث أدوات البطش والتنكيل…

______________

 1- Jon Steele كاتب وصحافي ومصور سينمائي امريكي

 2-  Viktor Emil Frankl طبيب أعصاب وعالم نفس نمساوي، من اشهر مؤلفاته كتابه “الانسان يبحث عن معنى” المترجم الى العربية والصادر في بيروت 1982 عن عن “دار القلم”.

 3-  Sanders Barry أستاذ فلسفة امريكي، ترجم له الى العربية “اختفاء الكائن البشري” 2018، و”الضحك” 2019 عن دار الرافدين في بيروت وبغداد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *