أحمد الجلبي: الرجل الذي دخل تاريخ العراق من بوابته الخلفية (1/4)
اسم الكاتب : زيد بنيامين
كانت جثة الأمير عبد الإله الملقاة في أحد أركان قصر الزهور في العاصمة العراقية بغداد إلى جانب أفراد آخرين من عائلته، وكان ذلك المنظر الدموي يعني أشياء كثيرة، فالوصي المغدور الذي سمح بدخول قوات الإنقلاب إلى صالة قصره قد إختار الإستسلام رغم أن رصاصاته كانت أكثر عدداً من رصاصات قاتليه من باب أن (ما يريده الله يجب أن يكون) لتنتهي صفحة مهمة من صفحات تاريخ العراق المعاصر وتبدأ صفحة أخرى سيكتب سنينها الأولى الضباط الأحرار بزعامة عبد الكريم قاسم، وكانت تلك النهاية المأسوية قد حملت الكثير من (النهايات) معها ومنها نهاية تواجد عائلة الجلبي في العراق وهنا عرف (احمد) الذي كان يبلغ من العمر 14 عاماً أولى رحلاته إلى الخارج.. إلى المنفى لمدة 45 عاماً. تقول بعض المصادر ان الجلبي وعائلته غادرا العراق قبل ذلك التاريخ مستفيدين من الثروة الطائلة التي عرفت بها العائلة والتي كان من الطبيعي معها ان ترسل ابناءها الى الخارج وقد اتخذت العائلة من لبنان مقراً لها لبعض الوقت بعد ان قضت (ثورة تموز) على ممتلكات العائلة في بغداد وقد تزوج الجلبي واشقاؤه من بنات عوائل لبنانية شيعية مرموقة ويقول احد اقربائه ممن عاصره خلال تلك الفترة “كان ذكياً للغاية، حينما كان يجد احدا من اقرانه في المدرسة وقد نال 10 درجات من 10 وهو اقل منه كان سرعان مايبكي ويمزق ورقة الاجابات الخاصة به”. لم تبق العائلة طويلاً في لبنان المضطرب ايضا بوجود جمال عبد الناصر في مصر والذي أثر بصورة كبيرة في احوال ذلك البلد الممزق بين تبعية تاريخية لسوريا وبين محاولته الحفاظ على نموذجه الديمقراطي في ظل تغيرات ألقت بظلالها على الدول المجاورة لمصر وقررت شد الرحال الى الولايات المتحدة الاميركية. تركت عائلته في العراق خلفها المال، القوة، والممتلكات والتاريخ كذلك، فوالده عبد الهادي كان وزيراً ثم رئيساً للبرلمان اما جده عبد الحسين فكان عضوا في اول برلمان انشئ لدى تأسيس العراق كما اصبح وزيراً في 9 حكومات شكلت في بغداد بينما عرفت والدته بصالوناتها السياسية التي استضافتها في بيت العائلة حيث كان احمد يحضر تلك الجلسات. سرعان ما تحولت الامور ليس بيد حزب البعث بل بيد الحزب الشيوعي الذي وصل بصورة غير مباشرة الى السلطة على يد عبد الكريم قاسم في انقلاب 1958 الذي انهى تواجد العائلة المالكة في العراق. غادر الجلبي ليدرس في معهد ماستشوسيتس التكنولوجي وهناك نال شهادته البكالوريوس في الرياضيات واعقبها بالدكتوراه التي نالها في عام 1969 من جامعة شيكاغو والتي اشرف عليها استاذه جورج غلوبرمان وهو الرجل الذي سيلعب دوراً واسعاً في حياة الجلبي وحياة العراق ككل وان لم يعرف كثيرون ذلك حتى الان فهذا الرجل سيحتضن الجلبي الهارب من عمان ويعمل على تقوية علاقاته مع الموساد الذي سيدخله الكونغرس الاميركي من اوسع الابواب. وصل حزب البعث الى السلطة في عام 1963 كان عمر الجلبي وقتها 19 عاماً وذلك بقيادة عبد السلام عارف شريك عبد الكريم قاسم في الانقلاب الاول ويقول الجلبي عن تلك الفترة للنيويورك تايمز “كنت عازماً على العودة الى العراق بعد هذا الانقلاب كنت اريد استعادة حياتي”، ولكن الرجل فشل في تحقيق مسعاه بعد ان تخلى عبد السلام نفسه عن حلفائه القدامى ومن بينهم احمد حسن البكر الذي ركن على الرف واعطي منصباً شرفياً سرعان ما سيقدم استقالته منه ويجلس حبيس الاقامة الجبرية. لكن الحزب سرعان ما استطاع لملمة نفسه وقاد انقلاباً في 1968 وظهر البكر والى جانبه عدد من الوجوه الجديدة “سمعت باسم صدام حسين لاول مرة عام 1968 وكنت مشغولاً بامتحانات درجة الدكتوراه في جامعة شيكاغو وقررت ان من الضروري التوجه الى طهران حيث كانت لدي علاقة مع القيادات الكردية في شمال البلاد وقتها، حاولت الانتهاء من امتحانات الدكتوراه بسرعة وركبت الطائرة الى طهران لانني كنت اعرف القادة الاكراد وان الطريقة الوحيدة للتخلص من صدام كانت بتوحيدهم”. هذا الدور سيلعبه الجلبي فيما بعد، فالرجل كان قد تولى التوفيق بين جلال الطالباني ومسعود البارزاني في 1996 اثناء حربهم الضروس لتقاسم العائدات حيث حاول في نهاية عقد الستينات التوفيق بين الملا مصطفى ومنافسه جلال الطالباني “بعد 20 عاماً استخدمت الاستراتيجيات نفسها التي استخدمها للتوفيق بينهم”. كانت ممتلكات عائلة الجلبي في بغداد التي صادرتها الحكومة العراقية قد اصبحت ملكاً للدولة حتى انتهى بها الامر لتكون مقراً للسفارة الهندية في بغداد في عهد الرئيس العراقي صدام حسين وكان الجلبي يعلم ان الوقت مازال بعيدا لتخطيط اي عودة الى العراق. عاد الجلبي الى لبنان ليدرس في الجامعة الاميركية وقد شد الانتباه كونه “موسوعة متحركة” في مجال اختصاصه وهو اللقب الذي عرف فيه في تلك الجامعة وبحلول العام 1977 ترك بيروت واستقر في الاردن ليؤسس بنك البتراء الاردني الذي اصبح بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ ثالث بنك على صعيد المملكة وارتبط بشكل اساسي مع شركات عائلة الجلبي في كل من بيروت وجنيف وواشنطن. ارتكزت نقطة قوة البنك من كونه اول بنك يدخل بطاقات الائتمان وبطاقات الصراف الالي والكثير من التكنولوجيات المصرفية العالية والحديثة التي لم تكن معروفة في الاردن وتحول احمد الى احد اهم الشخصيات المالية في البلد انطلاقاً من كون بنكه قادرا على اعطاء تمويلات من جهة وبأحجام كبيرة وامتلاكه لشبكة علاقات مع الشخصيات النافذة في عمّان واستمرت الامور على مايرام ما دامت الاعين الخارجية بعيدة من عمل الجلبي في داخل ذلك البنك. في الثاني من اغسطس 1989 اصدرت السلطات المصرفية الاردنية قراراً يقوم بموجبه كل بنك عامل في الاردن بدفع 30% من قيمة المبادلات المالية الخارجية كضمان لدى البنك المركزي وهو ما عجز بنك البتراء عن فعله وبعد القرار باسبوعين ترك احمد الجلبي البلاد باعتباره (في اجازة) رغم الاشاعات التي قالت ان الجلبي نجح في الفرار عبر الحدود الاردنية السورية في سيارة صديقته تمارا الداغستاني وكانت تلك السيارة تحمل (250) مليون دولار، وقد كتب على الجلبي ان يهرب مرة ثانية وهذه المرة من عمان. في ابريل العام 1992 جرى محاكمة الجلبي غيابياً بالاضافة الى 47 شريكاً له في ذلك البنك وقد وجد مذنباً بالفعل وتم الحكم عليه بالسجن لمدة 22 عاماً على 31 تهمة اثبتت عليه ولان محاكمته جرت امام محكمة عسكرية اردنية فإن من غير الوارد ان تسلمه اي دولة الى السلطات الاردنية وهو وضع استفادة منه لتغيير جلده والتحول الى العمل المعارض كدرع لحمايته. حينما تتحدث الى الجلبي فتجد التبرير جاهزاً على الدوام وخصوصاً حينما يسأل عما حصل في البتراء وهي الاجابة التي يمكن ان تسمعها من ابنته تمارة على صفحات الوال ستريت جورنال “لقد تم تدمير بنك البتراء من قبل الشركاء الاردنيين في البنك لانه ارادوا خدمة صدام حسين”. كان سيناريو ما حدث من وجهة نظر عائلة الجلبي يذهب الى ان الاردن قد قام بهذه الخطوة بعد ان شكل احمد تهديداً على الرئيس العراقي صدام حسين وان البنك كان على افضل حال لو لم تتدخل الحكومة الاردنية في الموضوع لتؤلب عملاء البنك على ادارته وان كل ما حصل في محاكمة البنك كان ببساطة.. سياسياً. ربما كان هناك جانب من الحقيقة في ما حصل.. فرئيس الوزراء الاردني في وقت حصول ازمة بنك البتراء كان معروفاً بولائه الى الرئيس العراقي صدام حسين الخارج من حرب ايران باوج قوته وكان الجلبي لايكف عن ارسال اشارات الانتقاد باتجاه بغداد ولكن في النهاية كانت ارقام بنك البتراء ووثائقه هي ارقام عائلية لم يطلع عليها احد من الخارج.
……………………………………………………………………………………………………………..
المصادر:
ارشيف صحيفة النيويورك تايمز ولوس انجلوس تايمز
مجلة التايم الاميركية
الحقيقة عن الجلبي: اندور كوكوبرن
ارشيف الفايننشال تايمز
احمد الجلبي وانا: لكرستوفر هتشينز