اسم الكاتب : أحمد الدرزي
مثَّل تاريخ السابع من أكتوبر نقطة مفصلية في الصراع على منطقة غربي آسيا بين استمرار المشروع الغربي ونجاحه، وبين نجاح محور المقاومة في تغيير الخرائط الجيوسياسية لكامل المنطقة.
كانت للتصريحات الإيرانية الرسمية متعددة المصادر بشأن الرد الإيراني على الاعتداء “الإسرائيلي” الأخير على مواقع متعددة في إيران دور في تصعيد القلق العالمي، خشية استمرار عمليات الاعتداء والرد وصولاً إلى الحرب الإقليمية الشاملة، وخصوصاً أن التصريحات خرجت من كل المستويات الرسمية، بدءاً بمرشد الثورة علي خامنئي ورئيس الجمهورية مسعود بزشكيان وسائر قادة الحرس الثوري، وترافق ذلك مع تدفق معلومات استخبارية غربية و”إسرائيلية” عن تحريك منصات إطلاق صواريخ واحتمال استخدام أسلحة أحدث وأشد تأثيراً، على نحو يجعل عملية الرد الردعي ملزمة لإيران، لكن هل سيبلغ الرد إلى الدرجة التي سيتقرر فيها مسار منطقة غربي آسيا للعقود المقبلة؟
منذ أن انفجر مسار تاريخ منطقة غربي آسيا، بعد طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بدأت معالم جديدة في التحولات الجيوسياسية لهذه المنطقة الأهم في العالم، التي تُعَدّ بوابة الدخول لنظام دولي جديد، وهذا الانفجار غير المكتمل بعدُ لم يأتِ من فراغ، بل هو في سياق صراع قديم متجدد بعد أن ظنّ العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة الوريثة لبريطانيا أن المنطقة ستسقط بشكل كامل في العصر “الإسرائيلي” في إثر تخلي مصر، التي كانت تقود حركات التحرر العربية والأفريقية، عن دورها الأساسي كمركز ثقل للمنطقة العربية والإسلامية في مواجهة المشروع الغربي المتكثف بنجاح الكيان الصهيوني في السيطرة والإدارة لكامل منطقة غربي آسيا.
مع انهيار الأمن القومي المصري ومعه العربي اعتقد الجميع أن العصر الإسرائيلي سيعم المنطقة، ولم تبقَ سوى سوريا الوحيدة، وحركات المقاومة الفلسطينية المنقسمة على نفسها، إلى أن تغير الدور الإيراني من قوة إقليمية كبرى تشكل حزام أمان للكيان وتهديد لما تبقى بالتآزر مع تركيا وإثيوبيا، إلى فعل تحرر بديل من مصر بعد نجاح الثورة الإسلامية فيها.
وعلى الرغم من الظروف الدولية المعقدة بالصراع القطبي والحرب العراقية على إيران، فإن ملامح جديدة انبثقت من فعل التحرر والاستقلال عن الغرب، وبدأت معالم قوى مقاومة جديدة موحدة في لبنان وبعدها في فلسطين والعراق واليمن، بالإضافة إلى قرار سوريا الذي اكتشف من اللحظة الأولى أن حمايتها من العصر الإسرائيلي تحقق بالرهان على الاستمرار في دعم قوى المقاومة وضرورة التحالف مع إيران لمنع استمرار النجاح الإسرائيلي في التغول على كامل المنطقة.
هذا التحالف بين البلدين تعرض لمزيد من الضغوط، واستطاع أن ينجز كثيراً من عمليات التحرير وتهشيم القوة الغربية المتمثلة بـ”إسرائيل”، الأمر الذي دفع النظام الغربي إلى أن يلجأ إلى تفكيك الدول بالثورات الملونة والحروب الأهلية في العراق وسوريا واليمن، في إطار جديد للسيطرة على المنطقة بشكل واسع خشية تواصلها مع روسيا والصين. وعلى الرغم من نجاحها في تدمير العراق وسوريا واليمن، فإن حركات المقاومة استطاعت أن تشكل تهديداً كبيراً للنظام الغربي، بل توسعت عبر السيطرة على الممرات البرية والبحرية بشكل كبير في شرق المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب، بالإضافة إلى منطقة الخليج.
وهذا النجاح لم يحدث إلا بأثمان باهظة جداً على مدى أكثر من أربعة عقود من الحروب والدمار المتنقل بين إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن، وقبلها وبعدها فلسطين، والنتيجة كانت تحول إيران إلى نقطة ارتكاز أساسية لكل قوى المقاومة في مواجهة النظام الغربي، وترتبت عليها مسؤوليات متضاعفة مع الزمن من جراء التعاطي مع فلسطين كجزء من شرعية الثورة والدولة.
مثَّل تاريخ السابع من أكتوبر نقطة مفصلية في الصراع على منطقة غربي آسيا بين استمرار المشروع الغربي ونجاحه، وبين نجاح محور المقاومة في تغيير الخرائط الجيوسياسية لكامل المنطقة، من خلال المواجهة مع الكيان الصهيوني، ودفع القوى الإقليمية إلى إعادة حساباتها ورهاناتها على الغرب من بوابة التطبيع مع الكيان، الأمر الذي دفع الغرب إلى أن يخوض مواجهة مركبة متعددة المستويات، وخصوصاً الكيان الصهيوني الذي أدرك من اللحظة الأولى لعملية “طوفان الأقصى” أنه أمام حروب وجود لا يمكن أن يخسرها، ومشكلته الأساس هي مع محور يمتد من حدود أفغانستان إلى شرق المتوسط، ولديه نقطة ارتكاز أساسية في اليمن، وهو يحتاج إلى أن يربح حروبه للقضاء على حركات المقاومة في فلسطين ممثلةً بحركة حماس والجهاد الإسلامي بشكل أساسي، وعلى حزب الله في لبنان، والاستمرار في إضعاف سوريا.
العجز عن القضاء على حركة المقاومة واستمرار سوريا في دعمها لحركات المقاومة دفعا الكيان إلى تجاوز الخطوط الحمراء والعمل على مستويين متشابكين، الأول بالوصول إلى الحد الأقصى من العنف والتدمير والقتل، واغتيال القيادات الرمزية المؤثرة في رسم مسار المقاومة، ممثلة بالسيد حسن نصر الله ويحيى السنوار، بالإضافة إلى قيادات الصفين الأول والثاني، وهو ما يدفع إلى انهيار هذه الحركات بفقدانها لقيادات السيطرة. والثاني هو ردع إيران ودفعها إلى الانكفاء من شرقي المتوسط إلى داخل حدودها، والعمل على تفكيكها استناداً إلى التنوع، إثنياً ومذهبياً، وهو بهذين المستويين يمكنه إعادة رسم خرائط المنطقة لمصلحته ولمصلحة النظام الغربي الذي يقف معه وخلفه وضمنه.
ضمن هذا السياق من التنسيق بين المستويين السابقين تم الاعتداء على إيران من جديد، في رسالة واضحة إلى ضرورة انكفائها إلى داخل حدودها قبل تفكيكها على مستوى الداخل إلى مجموعة من الدول. وفي عمق الرسالة يقول الكيان إن على الجميع أن يخضع للعقل الصهيوني القادر على ردع أي طرف يبحث عن الاستقلال، متجاوزاً بذلك حساب الإرث التاريخي لبلد اعتاد على مواجهة الغرب منذ ثورة التنباك عام 1891، وما زال مستمراً حتى الآن.
أمام إيران الآن حالة معقدة بلغت درجة الاستعصاء، فهي لا يمكنها أن تهدم كل ما بنته وساعدت عليه من إطار جديد لمنطقة غربي آسيا، نواته الأساسية محور المقاومة، الذي يخوض حرباً وجودية لا يمكنه أن يخسرها، وثمن الخسارة يعني بدء العد التنازلي لتفكيك الدولة في سياق تفتيت كامل المنطقة، ولا يمكنها أيضاً أن تذهب إلى حرب شاملة لا يمكن معرفة حدودها ولا الأطراف المتدخلة فيها، في غياب تماس حدودي مباشر مع “إسرائيل”، مترافقة مع ضغوط اقتصادية هائلة على مجتمعات قوى المقاومة على رغم صبرها المديد.
تحول تحقيق الانتصار بأي شكل من الأشكال إلى ضرورة قصوى لإيران وقوى المقاومة، في حروبها مع النظام الغربي ممثلاً بـ”إسرائيل”، وهذا الأمر يتحقق من الناحية العملية وكما هو معلن بوقف إطلاق النار في غزة وجنوبي لبنان بصيغة التوصية الأساس “حفظ المقاومة”، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والأمر متوقف على تنفيذ الرد الإيراني ومستواه الرادع لعدم حدوث اعتداء جديد، فصاحب الضربة~ٍ الأخيرة هو المنتصر، وهو من يحدد مسار منطقة غربي آسيا، وفحوى التصريحات الرسمية مجتمعة تؤكد أن القرار هو بهذا الاتجاه، وأهل غزة ولبنان يراهنون على الرد القادم، الذي سيكلل الجميع بمعادلات قوة جديدة في مرحلة هدنة انتقالية طويلة، في انتظار الانفجار الأخير الذي سيثبت قواعد الإقليم.